
تُخفي إشكالية الحدود اللبنانية السورية حكاية أكثر من قرن من التنازع والتفاوض الهشّ وتأجيل محاولات الترسيم. وهي أيضاً مرآة لطبيعة العلاقة المُعقّدة بين بيروت ودمشق، التي لم تستقم يوماً رغم ترابطهما المتجذّر.
ومع دخول لبنان وسورية فصلاً جديداً من محاولات ترتيب العلاقة، لا سيما بعد سقوط نظام بشّار الأسد وصعود سلطة الرئيس أحمد الشرع، تعود قضية الحدود إلى الواجهة، كاستحقاق، محطّ أنظار دولية، لا يمكن للطرفين القفز فوقه.
طول هذه الحدود نحو 375 كلم، بحسب الجيش اللبناني، وتمتد بين الشرق والشمال. وهي، تاريخيًا، تستمدّ شرعيتها من قرار الجنرال الفرنسي هنري غورو رقم 318 الصادر عام 1920، إبّان الانتداب الفرنسي، القرار نفسه الذي أرسى الأساس القانوني لقيام دولة لبنان الكبير ورسم حدودها اعتماداً على تقسيمات إدارية عثمانية وخطوط طبيعية، مثل الأنهار والقمم الجبلية. ورغم رمزية تلك الوثيقة، فإنّها لم تكن دقيقة ميدانيّاً، وأدّت إلى تداخل القرى والمناطق، وهو ما جعلها منذ ذلك الحين مصدر جدل مزمن بشأن الخرائط ومسح الأراضي. وهكذا، لم تصل عملية الترسيم إلى خواتيمها، وظلّت الحدود سائبة أمنيّاً وإداريّاً. ثم تراكمت المراسلات والقرارات اللبنانية والدولية. أبرزها قرار مجلس الأمن 1680 الصادر عام 2006 الذي دعا سورية إلى الاعتراف بسيادة لبنان والشروع في ترسيم الحدود، والقرار 1701 (أوقف حرب تموز 2006) وربط أمن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية باستكمال حل النزاع الحدودي مع سورية. ولكن النظام السوري السابق لم يقم بإجراءات قانونية لدى الأمم المتحدة لحسم هوية مزارع شبعا المحتلة، واستخدم هذا الملفّ ورقة ضغط على لبنان، فيما استفادت إسرائيل من إبقاء الوضع عالقاً.
لم تكن هناك، قبل إعلان دولة لبنان الكبير خرائط رسمية دقيقة يمكن الركون إليها
تستند هذه المطالعة البحثية إلى مراجعة معمّقة لكتاب المؤرخ اللبناني عصام خليفة “الحدود اللبنانية – السورية: محاولات التحديد والترسيم 1920 – 2000” (بدون دار نشر، بيروت، 2006) وتهدف إلى وضع القارئ أمام جذور المعضلة وفهم سياقها التاريخي لفهم الحاضر، وتستعرض محطات التحديد والترسيم منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، وتحاول الإجابة عن السؤال المركزي: لماذا بقيت الحدود غير مرسّمة نهائيّاً طوال هذا القرن؟ وما أبرز العوائق التي اعترضت كلّ محاولات الترسيم المتكرّرة؟ كما تتناول المطالعة مرحلة ما بعد الاستقلال عام 1943 وصولاً إلى القرارات الدولية والاتفاقات الحديثة التي لم تفلح في ترسيم الحدود بين البلدين الجارين.
لم تكن هناك، قبل إعلان دولة لبنان الكبير، خرائط رسمية دقيقة يمكن الركون إليها، بل مجموعة من محاولات رسم أولية تعكس نظرة القوى الاستعمارية إلى المنطقة، وتحديداً الانتداب الفرنسي حينها، أكثر مما تعكس الواقع الميداني. كانت أبرزها خرائط الحملة الفرنسية عام 1860 التي وُضعت لأغراض عسكرية واستطلاعية، إضافة إلى خرائط إنكليزية وألمانية وعثمانية متفرّقة.
يوضّح عصام خليفة في كتابه أنّ الخريطة الفرنسية لم تكن علمية بالمعنى الدقيق، إذ لم تعتمد على المثلثات الطوبوغرافية أو القياسات الميدانية الدقيقة، وكانت أقرب إلى مسح عام للتضاريس يُظهر الجبال والأنهار على نحو تقريبي، ويخطئ أحياناً في أسماء القرى ومواقعها. ورغم هذا الطابع الاستطلاعي، جعلتها سلطات الانتداب الفرنسي الأساس الذي بُني عليه القرار 318 في 31 أغسطس/ آب 1920، والذي حدّد حدود لبنان الكبير. وقد جعل هذا الاعتماد على خريطة غير دقيقة الخطوط المرسومة أقرب إلى تصوّر إداري أولي، الأمر الذي مهّد لسلسلة الخلافات اللاحقة عند محاولة نقل هذه الخطوط إلى أرض الواقع، إذ تداخلت الأراضي والعقارات والقرى على نحو معقّد.
1920: ولادة لبنان الكبير
وقف الجنرال هنري غورو في 31 أغسطس/ آب 1920 على درج قصر الصنوبر في بيروت وسط حشد من الشخصيات الدينية والزعماء المحليين، ليعلن ولادة “دولة لبنان الكبير”، محدِّداً حدودها بموجب القرار 318 الذي اعتمد على التقسيمات الإدارية العثمانية، وعلى خطوط طبيعية، مثل مجاري الأنهار وخطوط القمم، لكنه كان يستند إلى خرائط استطلاعية تفتقر إلى الدقة الميدانية. وقد رسمت هذه الخرائط خطوطاً أقرب إلى تصوّر نظري يراعي التوازنات السياسية أكثر مما يراعي الواقع الجغرافي للقرى والأراضي.
كان إعلان غورو لحظةً مفصليةً في تاريخ المنطقة، فقد اندلعت موجة اعتراضاتٍ في دمشق وحمص وحماة فور صدور القرار، إذ رأت القيادات السياسية والدينية السورية أنّ ما يجري محاولة فرنسية لاقتطاع جزء من بلاد الشام، وفصل الساحل وجبل لبنان عن محيطهما الطبيعي.
ومن هنا بدأت الإشكالية الكبرى: لبنان الناشئ يسعى إلى تثبيت كيانه وحدوده الجديدة، في حين ترى سورية أنّ أي ترسيم هو اعتراف بتقسيم مفروض بالقوة.
بين 1921 و1924: اللجان الفرنسية وبداية خلاف
كانت هذه المرحلة من أكثر المراحل ديناميكية، ففي 19 ديسمبر/ كانون الأول 1921، أصدر المفوض السامي القرار رقم 1159 لتشكيل أول لجنة رسمية لترسيم الحدود برئاسة Achard، في خطوة هدفها إنهاء الجدل حول ما إذا كان لبنان الكبير يشمل القرى المتاخمة للنهر الكبير الشمالي ووادي خالد. وقد انتقلت اللجنة إلى الميدان، تحمل معها الخرائط الفرنسية التي استندت إلى خريطة الحملة لعام 1860 والقرار 318، لتبدأ عملية شاقّة من مطابقة الخطوط الورقية مع الواقع الميداني. وظهر الخلاف الكبير خلال عمل اللجان في هذه السنوات على تحديد ملكية النهر الكبير (يمر في وادي خالد في عكّار شمال لبنان) والأراضي حوله بين الجانبين اللبناني والسوري. وفي القرى الحدودية، كان المشهد معقّدًا: سكان يتنقلون بحرّية بين الضفتين، أراضٍ زراعية مقسومة بين عائلة الواحدة، وملكية مياه النهر موضع نزاع. وكانت النقاشات بين ممثلي لبنان الكبير وممثلي حكومتي دمشق والعلويين حادّة، إذ تمسّك اللبنانيون بالحدود كما نص عليها القرار 318، بينما رفض السوريون التنازل عن أي قرية محاذية للنهر، وعدّوا ذلك مساساً بسيادة دمشق.
وعُقدت في 23 فبراير/ شباط 1924 لجنة ثانية برئاسة Lepissier لاستكمال العمل. وبعد مداولات طويلة وعمليات مسح ميدانية، اتخذت اللجنة قرارات تاريخية، أبرزها أن يكون خط الحدود مرتكزاً على التضاريس الطبيعية وخطوط القمم حيث أمكن، وضم قريتي ينطا ويحفوفا إلى لبنان ابتداءً من مطلع يناير/ كانون الثاني 1925. وتسبّب هذا القرار بموجة استياء واسعة في دمشق، اعتبرته انتهاكاً لوحدة الأراضي السورية، ومن أدوات الانتداب لترسيخ الكيان اللبناني على حساب محيطه الجغرافي.
1925: تعديل القرار 318 وتكريس الخلاف
كان عام 1925 محطة مفصلية، مع صدور القرار 3007 في 29 ديسمبر/ كانون الأول، ليعيد رسم الخريطة ويخلط الأوراق. وقد أعاد القرار تحديد حدود الشمال والشرق، وألغى الإشارة إلى خط القمم بين وادي خالد والعاصي الذي اعتُبر غير موجود ميدانيّاً بعد عمليات المسح الميدانية. عملياً، مثّل القرار إعادة نظر شاملة في طريقة رسم الحدود، فانتقل النقاش من مجرّد تصحيح أسماء قرى إلى إعادة ترسيم خط كامل يتوافق مع الواقع الجغرافي قدر الإمكان.
الحدود اللبنانية – السورية منذ ولادتها كانت انعكاساً لصراع أكبر على معنى الكيان اللبناني نفسه وعلاقته بجواره السوري
وكان الأثر الأبرز للقرار تكريس ضم قريتي ينطا ويحفوفا إلى لبنان نهائياً. وقد زاد القرار في دمشق من حدّة الشعور بالظلم بحقّ سكان القرى الحدودية، خصوصاً مع الاعتقاد بأنّ ثمّة استمراراً في الأخطاء الواردة في الخرائط الفرنسية، إذ كانت بعض القرى غير موجودة على الأرض، أو في مواقع مغايرة تماماً عما هو مرسوم. وقد جعل هذا التضارب فرق المساحة تدور في حلقة مفرغة من التصحيحات، وأبقى حالة الالتباس القانوني والإداري قائمة.
بين 1927 – 1930: تعطيل الترسيم ومشكلات المسّاحين
كانت هذه الحقبة حافلة بالمراسلات والملاحظات الميدانية التي تكشف حجم الإرباك على الأرض، فمع استمرار عمل فرق المساحة الفرنسية واللبنانية، اصطدمت هذه الفرق بعوائق تقنية وسياسية متلاحقة: خرائط قديمة غير دقيقة، نقص في نقاط التثبيت الحدودية، وتداخل أراضٍ بين عائلات لبنانية وسورية.
في 20 مايو/ أيار 1927، رفع المفوض السامي تقريراً إلى الحكومة في بيروت بشأن الصعوبات التي واجهتها فرق المساحة على الحدود مع سورية، واعتبر أنّ غياب نقاط مرجعية واضحة جعل عملها شبه مستحيل. وفي 14 مايو/ أيار 1930، وجّه المستشار العقاري في المفوضية العليا رسالةً صارمةً إلى المستشار العقاري لدى الحكومة السورية يطلب فيها وقف عمليات الإحصاء والمساحة قرب الحدود، بحجّة أنّ الجانب اللبناني غير قادر على القيام بمسح مماثل قبل سنوات. وأوقفت هذه الخطوة التقدّم فعلياً وأدخلت الملف في حالة جمود جديدة. والنتيجة أن القرى الحدودية بقيت عالقةً بين سلطتين: إدارياً تتبع للبنان، وميدانيّاً ما زالت مرتبطة بدمشق في كثير من شؤونها اليومية، ما أحدث ازدواجية قانونية وإدارية.
بين 1932 و1934: المطالب الشعبية والدم على الحدود
بحلول عام 1932، لم يعد الملف الحدودي شأناً إداريّاً فحسب، بل تحوّل إلى قضية شعبية ضاغطة. ففي 22 مارس/ آذار 1932، يطلب مستشار المفوض السامي توضيح أسباب تأخير عملية ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، وقبلها في 14 مارس/ آذار من العام عينه، صدر تقرير من قائد الفرقة العسكرية في بعلبك، يذكر أنّ أهالي الهرمل يلحّون في المطالبة بترسيم الحدود مع سورية. ولأن عدم الترسيم يوجد خللاً في جمع الضرائب.
خط القمم الذي اعتمدته المفوضية لا يتطابق في نقاط عديدة مع الحدود العقارية، ما يعني أن أراضي بعض القرى باتت مقسومة على طرفي الخط الجديد
وبلغ هذا الغليان الشعبي ذروته عام 1934، حين اندلعت اشتباكات دامية على الحدود الشرقية، وأودت بحياة مدنيين عدة. وأمام هذا المشهد، وجّه مستشار المفوضية الفرنسية لدى الحكومة السورية رسالة إلى المفوض السامي يحذّره فيها من أنّ استمرار الوضع قد يهدّد الاستقرار الأمني في المنطقة، داعياً إلى تسريع عملية الترسيم وتثبيت النقاط الحدودية على الأرض.
1935: قرار يعيد خلط الأوراق
أصدر المندوب السامي، في 4 فبراير/ شباط 1935، القرار 27/RL، الذي أعاد خلط الأوراق في مسار الترسيم، فقد رسم خطّاً حدوديّاً جديداً يبدأ من عين القبو، البلدة الجبلية شمال شرق قمة حليمة، وينتهي عند بير جبيب شمال شرق بعلبك في السلسلة الشرقية. وقد استند هذا الخطّ إلى قاعدة خط القمم المائي والجغرافي، أي إلى خط انحدار المياه، متجاهلاً، في مواضع كثيرة، الحدود العقارية وخراجات القرى التي كانت تشكّل المرجع الإداري والحقوقي للسكان. ويفيد عصام خليفة بأنّ خط القمم الذي اعتمدته المفوضية لا يتطابق في نقاط عديدة مع الحدود العقارية، ما يعني أن أراضي بعض القرى باتت مقسومة على طرفي الخط الجديد.
بين 1935 – 1939: مراسلات وتصاعد النزاع الحدودي
كانت هذه السنوات بمثابة ذروة جديدة من التوتّر الحدودي بين لبنان وسورية تحت الانتداب الفرنسي، فقد تحوّلت القرى المتاخمة للخطوط غير المرسّمة إلى ساحات احتكاك يومي. وكثرت المراسلات بين المفوضية الفرنسية في بيروت ونظيرتها في دمشق، ونقلت شكاوى السكان من مصادرة المواشي وفرض ضرائب مزدوجة ومنع عبور المزارعين إلى أراضيهم. وأبرز تلك الأحداث حادث المصنع في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1937، عندما احتجز رعاة سوريون 105 رؤوس ماعز للبنانيين بحجّة دخولها الأراضي السورية.
ورغم أنّ المفوضية العليا أصدرت قرارات لتنظيم الترسيم ومحاولة رسم خطوط مؤقّتة، فإنّ تعقيد مجاري النهر الكبير وتعدّدها، وصعوبة مراقبة الحدود جمركيّاً، جعلا القرارات حبراً على ورق. تكثّفت أيضاً احتجاجات الأهالي ورفعوا العرائض للمطالبة بوجود نقاط جمركية واضحة وخرائط رسمية. وتلقت المفوضية الفرنسية في 10 إبريل/ نيسان 1938 برقيات من بلدة تل كلخ السورية، تعارض ضم منطقة النهر الكبير إلى لبنان. وفي 11 أغسطس/ آب 1938، أرسل وزير المالية اللبناني كميل شمعون رسالةً إلى مندوب المفوضية لدى الحكومة اللبنانية، يؤكّد أنّ أرشيف الدولة اللبنانية لا يسمح بإنجاز الترسيم للحدود اللبنانية السورية، ولو تقريبياً.
وجرى التوافق، في النصف الثاني من عام 1939، على تشكيل لجنة تحكيم مختلطة لبنانية – سورية برئاسة تقني فرنسي محايد، كلّفت بفحص أكثر من مئتي نقطة خلافية على طول الحدود الممتدّة من عكار حتى البقاع. لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية أوقف عمل اللجنة، ما أبقى الخلافات معلّقة وترك المنطقة الحدودية في حالة فراغ إداري وقانوني استمر لعقود.
خلاصة 1920 – 1939
على الرغم من جهود حثيثة بذلتها لجان الانتداب الفرنسي والسلطات المحلية، ظلّ ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا معلّقاً. ويكشف عصام خليفة في كتابه أنّ فشل الترسيم في تلك الحقبة كان نتاج تداخل معقّد لعوامل عدّة، أبرزها: الصعوبات البنيوية التي عانت منها الدولة اللبنانية، ومعارضة جزء كبير من اللبنانيين الانضمام إلى هذه الدولة، ما لم يُسهل عملية التحديد والترسيم. العراقيل التي وضعتها قيادات سورية كانت تعتبر عملية الترسيم فعلاً استعمارياً لتجزئة ما كانت تسميه “الوحدة الطبيعية” لبلاد الشام. حصول اضطرابات وتمرّدات في مناطق لبنانية وسورية حالت دون استقرار الإدارة. التغيّرات والتحوّلات التي عرفتها إدارة الانتداب لم تساعد في اعتماد خطة واحدة ومستمرّة لإنجاز عملية الترسيم. ويتضح من الوثائق أنّ الطرفين اللبناني والسوري كانا بحاجة إلى جهة ثالثة تحثّهما على السير في عملية الترسيم. تركيز الأعمال كان على الحدود الشمالية والجزء الشمالي من الحدود الشرقية، فيما لم تصل عمليات التحديد والترسيم بشكل دقيق إلى منطقة جبل الشيخ.
هكذا إذن، استمر التعثّر من خرائط 1860 غير الدقيقة إلى حوادث الثلاثينيات الدامية، وما تخلّلها من محاولات ترسيم لم تنجح. وهو ما يكشف أنّ الحدود اللبنانية – السورية منذ ولادتها كانت انعكاساً لصراع أكبر على معنى الكيان اللبناني نفسه وعلاقته بجواره السوري. وبالتالي، لم يكن فشل الترسيم في تلك الحقبة مجرّد عجز إداري، بل مسألة صراع غير معلن على الهُويّة والسيادة، فمنذ رسم الجنرال غورو حدود لبنان الكبير بقرار 318، ظهرت الحدود كخط هشّ على الورق أكثر منه واقعاً راسخاً على الأرض.
وافقت سورية على ميثاق الإسكندرية، الذي نصّت مادته الرابعة على استقلال لبنان وسيادته ضمن حدوده المُعترف بها دوليّاً، لكنها لم تبادر إلى أيّ إجراءاتٍ عملية لترسيم الحدود
لم يكن إعلان استقلال لبنان عام 1943 نهايةً لمعضلة حدوده مع سورية، بل بداية فصل جديد من محاولات متعثّرة في الترسيم، والمماطلة السياسية التي جعلت الملف أكثر تعقيداً. وقد استقلّ لبنان ضمن حدود القرار 318 لعام 1920، لكنّ هذه الحدود لم تُرسَّم ميدانيّاً بدقّة، ما جعلها عرضة للنزاعات والحوادث.
وافقت سورية على ميثاق الإسكندرية، الذي نصّت مادته الرابعة على استقلال لبنان وسيادته ضمن حدوده المُعترف بها دوليّاً، لكنها لم تبادر إلى أيّ إجراءاتٍ عملية لترسيم الحدود. وتاريخيّاً كما في السنوات الأخيرة، ظلّ الملف يتأرجح بين المبادرات المؤجَّلة والقرارات الدولية غير المنفَّذة. ففي عام 2006 صدر القرار 1701 عقب “حرب تموز” بين حزب الله وإسرائيل. طالب القرار نفسه بضبط الحدود اللبنانية مع إسرائيل وربط الاستقرار بضرورة ترسيم الحدود اللبنانية – السورية، وترافق مع مراسلات متواصلة من مجلس الوزراء ووزارة الخارجية اللبنانية تطالب دمشق بالتعاون، من دون أن تثمر عن أيّ نتائج ملموسة. ودعا قرار مجلس الأمن 1680 الصادر عام 2006 إلى اعتراف سورية بسيادة لبنان وبدء عملية ترسيم الحدود بين البلدين.
حوادث ما بعد الاستقلال
خاض لبنان معركة الاستقلال الذي انتزعه عام 1943، وشهد عقبها بعض التطوّر في الموقف السوري من مسألة الحدود بالموافقة على ميثاق الإسكندرية الذي ينصّ على سيادة لبنان ضمن الحدود المعترف بها دوليّاً. ومع ذلك، يشير عصام خليفة في كتابه إلى أنّ أيّ مسؤول لبناني لم يطرح مسألة ضرورة الترسيم مع سورية طوال الأربعينيات والخمسينيات، رغم الحوادث الحدودية في تلك الفترة. وقد شهدت قرى حدودية عدة في تلك الفترة حوادث مختلفة، كانت ذروتها في شبعا ومزارعها، التي ما زالت عالقة من دون ترسيم وتحديد يحسم هُويّتها، رغم كلّ الوثائق، من عهد الانتداب وما بعده، والتي توضّح لبنانيتها. ففي عام 1956 مثلاً، دخل الجيش السوري إلى المزارع نتيجة اتفاق مُسبق على تحديد منطقة الدفاع المشترك ضدّ إسرائيل، بعد التعدّيات المتكرّرة منها.
ومع ذلك، برزت خلافات بين الأهالي اللبنانيين لقرى المزارع وقوى الأمن السورية. كذلك برز خلاف في الفترة نفسها بين أهالي عرسال اللبنانية وأهالي قارة السورية، بشأن ملكية بعض ينابيع المياه. وفي قرية النحلة، احتج الأهالي في منتصف الخمسينيات على تعدّي المواشي السورية الداخلة للمرعى على مزروعاتهم، إلى جانب حوادث أخرى كثيرة.
منذ الاستقلال، عاش لبنان في حدوده القائمة حالياً عقدين من دون أيّ مبادرة رسمية جدّية لترسيم الحدود مع سورية
ومنذ الاستقلال، عاش لبنان في حدوده القائمة حالياً عقدين من دون أيّ مبادرة رسمية جدّية لترسيم الحدود مع سورية. ويفيد عصام خليفة بأن الزعيم الوطني يوسف السودا كان الصوت اللبناني الوحيد الذي طالب بالترسيم خلال الأربعينيات والخمسينيات، مستنداً إلى الأعمال التي أُنجزت في فترة الانتداب. ولم تلقَ دعوته استجابة، وظلّ الملف غائباً عن جدول أعمال الدولة اللبنانية.
بين 1963 – 1970: تأسيس اللجان المشتركة
شهد عام 1963 ولادة اللجنة الفنية اللبنانية – السورية، وهي أوّل محاولة منظّمة لإحياء الملف بعد الاستقلال. وفي نهاية العام نفسه، تألّف الوفد اللبناني وتولّى مهمّة “دراسة مخطّطات الحدود بين لبنان وسورية حسب الاتفاقات الدولية، والبحث في مشاكل الحدود المختلفة وفصلها…”. وعقدت اللجنة أوّل اجتماعاتها في 11 فبراير/ شباط 1964، واجتمعت أكثر من سبع مرات خلال ذلك العام، وفق ما تذكره الوثائق التي استعرضها خليفة. ركّز عملها على دراسة الخرائط الموضوعة في فترة الانتداب، كما شُكّلت لجنة عقارية مؤلفة من قاضيين عقاريين، لبناني وسوري، لدرس مواقع الخلاف على المخطّطات والأراضي، والبتّ فيها وفق القوانين العقارية المعمول بها في البلدين. وبين عامي 1966 و1969 تكثّفت الاجتماعات بين بيروت ودمشق ضمن إطار اللجنة العامة المشتركة للحدود، ما أتاح نقاشات تقنية وقانونية معمّقة حول نقاط الخلاف الحدودية. ثم كان عام 1970 تتويجاً لمشروع كتاب مرفوع إلى رئاستي مجلسي الوزراء في الجمهوريتين اللبنانية والعربية السورية، عنوانه “وضع الحدود السياسية بين سورية ولبنان”. نصّ على أن يدعو القاضيان العقاريان السلطات الإدارية والهيئات الاختيارية إلى تنظيم تقرير مشترك يتناول طبيعة الخلاف، وأسبابه، وموقع الأرض المختلف عليها وحدودها، ومستندات كل طرف.
1970: تشكيل الهيئة الدائمة
جرى الاتفاق في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1970 بين الحكومتين اللبنانية والسورية على تشكيل هيئة دائمة تُعنى بملف الحدود، وهو تطوّر اعتُبر في حينه خطوة مؤسّساتية مهمّة نحو الحسم النهائي. غير أنّ هذه الهيئة لم تتمكّن من متابعة عملها طويلاً بسبب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وما تلاها من فوضى مسلّحة وصعود المليشيات اللبنانية والمنظّمات الفلسطينية، ثم دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 وتحوّله إلى قوّة مقرِّرة في السياسة اللبنانية. ومع ذلك، تمكّنت تلك اللجنة من الاجتماع نحو ست مرّات بين بيروت ودمشق حتى 1971. واتفق الطرفان في 18 مايو/ أيار من العام نفسه على اعتماد مشروع الكتاب الذي رفعته اللجنة إلى الهيئة الدائمة عن وضع الحدود السياسية بين لبنان وسورية، ورفعه إلى رئاستي مجلسي الوزراء في كلا البلدين.
استُعيض عن مصطلح “ترسيم خط الحدود” بعبارة فضفاضة هي “الحدود السياسية”، ما عكس رغبة دفينة في إبقاء الأمر عالقاً
وعند مراجعة عشرات محاضر اللجان الحدودية التي تراكمت منذ مطلع الستينيات وحتى عام 2000، يقدّم عصام خليفة قراءة نقدية تُظهر مكامن الخلل البنيوي التي رافقت هذه المساعي، نوجزها: النقاش كان فعلياً يدور حول الترسيم بمعناه القانوني والنهائي، بل اقتصر على “تخطيط” و”تعيين” الحدود في خرائط ودفاتر، وكأنّ المطلوب إدارة الخلاف لا حسمه. حتى في اللغة المستخدمة ظهر الالتباس: استُعيض عن مصطلح “ترسيم خط الحدود” بعبارة فضفاضة هي “الحدود السياسية”، ما عكس رغبة دفينة في إبقاء الأمر عالقاً، وإلى جانب هذا الغموض، ظهرت عراقيل أخرى: قضايا عقارية كثيرة كانت تُفتعل أو تُضخّم لتعطيل عمل اللجان، فيما كانت رئاسة الوفد اللبناني تتغيّر بتكرار، مقابل ثبات نسبي في رئاسة الوفد السوري. ورغم اجتماعاتها المتعدّدة، لم تتمكّن من إنتاج محاضر شاملة تحدد النقاط الحدودية وأرقامها مع خرائط موازية.
… وهكذا ظلّ العمل يتراكم كمراسلات شكلية من دون أن يُترجم إلى أيّ التزام دولي أو إيداع رسمي لدى الأمم المتحدة.
ما بعد عام 2000
تفاصيل كثيرة أوردها عضام خليفة في كتابه الصادر عام 2006، أي بعد عام من انسحاب الجيش السوري من لبنان. وقد دعمه بعشرات الوثائق ومحاضر المراسلات التي تعكس أنّ مسألة الترسيم بين لبنان وسورية أبعد وأكثر تعقيداً من نقاط حدودية وتداخل جغرافي وديمغرافي، إذ تصل إلى جوهر الاستقلال نفسه، ومدى القناعة السورية، وتحديداً في حقبة نظام الأسد، بأنّ لبنان دولة مستقلة ذات حدود وسيادة. وخلال ثلاثة عقود من الحرب الأهلية والوصاية السورية، نام ملف ترسيم الحدود في الأدراج.
باتت مسألة ترسيم الحدود اللبنانية – السورية اليوم مرتبطة بالموقف الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى
ومعه تزايدت عمليات التهريب عبر المعابر غير الشرعية، وتداخلت القرى والبلدات أكثر فأكثر على طول الحدود. وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان في إبريل/ نيسان 2005، زار الرئيس اللبناني الأسبق ميشال سليمان سورية عام 2008، وجرى الاتفاق على استئناف أعمال اللجنة المشتركة لتحديد الحدود اللبنانية – السورية وترسيمها وفق آلية يتفق عليها الجانبان، ثم لم يتحقق شيء.
عقوداً، بقيت عقدة مزارع شبعا المحتلة من إسرائيل مفصلاً مزدوجاً. ورغم الاعتراف الشفهي بلبنانيتها في خطابات وسيطة، لم تُستكمل الإجراءات السورية القانونية لإيداع ما يحسم هويتها لدى الأمم المتحدة. وهكذا بقيت إسرائيل المستفيد الأول من هذا التعليق، إذ تصرّ على أنها أراضٍ سورية محتلة، الأمر الذي يمنع لبنان من إنجاز ترسيمٍ نهائيٍّ مترابط برّيّاً وبحرياً مع سوريا.
أين نحن اليوم بعد سقوط الأسد؟
تظلّ معضلة الحدود اللبنانية – السورية من أكثر الملفات حساسية على جدول العلاقة بين البلدين، إذ تراها قوى محلية وإقليمية مفتاحاً لإعادة تنظيم العلاقة وبناء مستقبلها على قواعد واضحة وصلبة.
عقد في مطلع الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) اللقاء الأوّل بين اللجنتين اللبنانية والسورية في بيروت برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري. وجرى التطرّق إلى ملفات شائكة، مثل السجناء والمفقودين والنازحين، لكنّ العنوان الأبرز ظلّ مسألة ترسيم الحدود. وكان الموفد الأميركي توم باراك قد حمل في 19 يونيو/ حزيران إلى بيروت ما عُرفت بـ “الورقة الأميركية”. ورغم أنها تتعلّق مباشرة بمسألة حصر السلاح ونزع سلاح حزب الله، وقد صادقت عليها الحكومة اللبنانية، فإنّ باراك ناقش فيها أيضاً مع المسؤولين اللبنانيين إعادة بناء العلاقة مع دمشق أمنيّاً وسياسيّاً وحدودياً، وصولاً إلى الترسيم.
ترسيم الحدود بين لبنان وسورية ليس مجرّد إجراء إداري أو تقنية مساحية، بل عقدة مركّبة تتداخل فيها أبعاد تاريخية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية تعود جذورها إلى زمن الانتداب
واللافت أنّ الورقة خصّصت فصلين للعلاقة بين بيروت ودمشق، في مقدّمتها الدعوة إلى إطلاق مبادرة عملية لترسيم الحدود البرّية والبحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، من خلال لجنة مشتركة يشارك فيها خبراء خرائط من الأمم المتحدة، وتكون برعاية وإشراف أميركي وفرنسي وسعودي إلى جانب الأمم المتحدة.
وترتبط هذه التطوّرات أيضاً بحدث موازٍ بين لبنان وسورية في مارس/ آذار 2025، حين وقّع وزيرا الدفاع في لبنان وسورية اتفاقاً أمنيّاً في جدّة برعاية سعودية، مهّد لتشكيل لجان فنية وقانونية مشتركة لمتابعة ملف الترسيم وتعزيز التنسيق الأمني. ثم جاءت زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى دمشق في إبريل/ نيسان الماضي، حيث التقى الرئيس السوري، أحمد الشرع، وجرى الاتفاق على إنشاء لجنة وزارية تعالج القضايا المشتركة، وفي صلبها ملف الحدود البرّية والبحرية.
عقبات الترسيم
في الواقع، باتت مسألة ترسيم الحدود اللبنانية – السورية اليوم مرتبطة بالموقف الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً مع ترقّب نتائج المفاوضات السورية – الإسرائيلية بشأن الترتيبات الحدودية في الجنوب السوري. وبالتالي، ما لم تُحسم معضلة هوية مزارع شبعا، سيبقى الترسيم بين لبنان وسورية معلّقاً ومؤجّلاً. كما أنّ مسألة ترسيم الحدود في وجود أراضٍ محتلة تطرح علامات استفهامٍ كثيرة، خصوصاً حول ما تريده وتسعى إليه إسرائيل من واقع حدودي يصبّ في مصلحتها في البلدين. فمن جهة، تخوض مفاوضات مباشرة مع الجانب السوري، ومن جهة أخرى تجرى مفاوضات غير مباشرة مع الجانب اللبناني عبر الوسيط الأميركي توم بارّاك.
وعليه، يبدو واضحاً أنّ ترسيم الحدود بين لبنان وسورية ليس مجرّد إجراء إداري أو تقنية مساحية، بل عقدة مركّبة تتداخل فيها أبعاد تاريخية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية تعود جذورها إلى زمن الانتداب، وهي اليوم ترتبط بالاحتلال وما تريد إسرائيل فرضه من واقع حدودي بالقوة، على لبنان وسورية، في أكثر المراحل حساسية التي يشهدها البلدان الشقيقان، اللذان يتقاطعان في المصير كما في الحدود.
المصدر: العربي الجديد