أسئلة الدولة والمواطنة في سوريا الجديدة

عبد الله تركماني

في دولةٍ تماهت معها سلطة المرحلة الانتقالية والأمانة العامة للشؤون السياسية “قائدة الدولة والمجتمع” والزعيم “الرئيس القائد”، وحوّلتها السلطة من فضاء عام لكل مواطنيها إلى فضاء خاص لأهل الولاء، من المؤكد أن تكون أسئلة الدولة والمواطنة من أهم إشكالياتها المعاصرة. وبعد أن استفحل التعاطي الأمني مع المواطنين السوريين، خاصة في الساحل والسويداء، فإن هذه الأسئلة تبدو أكثر أهمية.

إن آليات السيطرة، التي تكونت منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، شكّلت الغطاء للركود العام، كما أعاقت إمكانية التعامل العقلاني مع الموارد البشرية السورية، وعطّلت انطلاق مبادرات المجتمع السوري الذي يتميّز بالحيوية، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث.

ففي سوريا هذه، حيث سلطة الدولة لا تستند إلى شرعية دستورية ناتجة عن مؤتمر حوار وطني تأسيسي، وغير خاضعة لأية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود حاكمٍ فردٍ يقرّب أهل الولاء من “إخوة المنهج” وينفّر أهل الكفاءة من شباب ونساء ثورة 2011. وفي هذا السياق، من الضروري أن نذكّر أن الدولة مفهوم لا معنى له إلا إذا اقترن بمفهوم المواطنة، أي أن تكون إطاراً سياسياً ومؤسسياً لإدارة شؤون الناس جميعاً على أساس مبدأ المساواة بين المواطنين ومن خلال تشاركية سياسية.

من غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة.

إن سوريا أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، بعد أن أضحت دولة متأخرة بفعل 54 عاماً من سلطة آل الأسد وخيارها الأمني في مواجهة المطالب الإصلاحية لثورة 2011، فقد تسلّطت فيها جماعات طفيلية على مصالح البلاد والعباد، وحزب ومنظمات شعبية وأحزاب مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد بشكلٍ عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجلّ حافل بانتهاكات حقوق الإنسان.

أما في سوريا الجديدة، فإن غياب الديمقراطية عن الحياة السياسية والاجتماعية سيكون العثرة الكبرى أمام بناء الدولة الحديثة، والثغرة الأساسية في عدم تقدم البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ولعل مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إن التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التشاركية السياسية، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعّال بالحريات الخاصة والعامة، وبالتأكيد ليس بحملات تبرع شكلية للبهورة.

لذلك، فمن غير الممكن تصوّر سوريا لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إن الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من مجتمعها المدني، وليد مفاهيم السياسة المدنية والعقد الاجتماعي، تكون هشّة وضعيفة مهما ادّعت القوة.

إن صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر.

إن التاريخ السوري المعاصر قد رتّب على قوى الثقافة والعمل مسؤولية وطنية كبرى، تتناسب مع الدور الهام الذي تلعبه في الحياة الفكرية والمادية للشعب السوري. ولذلك، فإن إعادة بناء الدولة الحديثة العادلة سوف تقع على عاتق هذه القوى بالدرجة الأولى، خاصة شباب ونساء ثورة الحرية والكرامة، فهي التي ستكون القاعدة الاجتماعية الأهم للتغيير في سوريا الجديدة. ولا شك أن تحوّل هذه القوى إلى كتلة مؤثرة مرهون بقدرتها على جذب أوسع القطاعات الاجتماعية التي تطمح إلى التغيير، كما أنه مرهون بقدرتها على تجديد الثقافة السياسية السورية من خلال اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام أمام قوى ومجموعات سياسية ذات توجهات فكرية ومشارب متباينة، وضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، واعتماد ثقافة الحوار بديلاً عن ثقافة التخوين ومصادرة الاجتهادات المختلفة للبحث عن أقوم المسالك للوصول بسوريا إلى دولة لكل مواطنيها.

إن صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقنّنة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سوريا على أولى درجات الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه.

في كل الأحوال، وطالما أن كرامة وحرية الإنسان هما اللتان تشكلان أساس تطور أي مجتمع، فإن الحوكمة الرشيدة، التي تمكّن من وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية.

إن الدولة الوطنية، بما هي دولة حق وقانون، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، وبما هي دولة الكل الاجتماعي، هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والفئات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. وفي المحصلة، يبدو أن لا حل دائماً في سوريا خارج إطار دولة الحق والقانون التي تحمي كرامة المواطنين بمواطنة كاملة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى