اللا منتمي..     حروب العولمة والهوية – 1

  د- عبد الناصر سكرية

من بين مئات الأخطار التي تهدد مستقبل العرب، تبرز بإلحاح مسألة وعي الأجيال الجديدة لحقيقة انتمائها لأمتها وما يتعلق به من معرفة بالتاريخ وتحديات الواقع ومتطلبات حماية الذات الجماعية والهوية المجتمعية والقيم المشتركة ومن ثم القدرة على صناعة المستقبل وحمايته..

تواجه الأجيال الجديدة في عموم أجزاء الأمة نقصا حادا في المعرفة كأساس لتشكيل الوعي اللازم..وعلى العكس من هذا تماما؛ فإنها تتلقى معرفة مشوهة محرفة مسطحة الأمر الذي يجعلها تتبنى وعيا زائفا وسطحيا يبعدها عن فهم الواقع بصورة سليمة وبالتالي يفقدها القدرة على الإستجابة الموضوعية للأحداث والتفاعل الإيجابي مع ما تستوجبه من عمل ومواجهة وردود والقدرة على تحمل مسؤولية كل ذلك..

ومن بين أسباب متشعبة أوصلت الأجيال العربية الجديدة إلى هذا المستوى من الانفصال عن الواقع والإرتماء في أحضان الذاتية الفردية واهتماماتها المادية الاستهلاكية ؛ يحتل غزو العولمة دورا أساسيا متقدما في هذا الإبتعاد ..

ليست العولمة مجرد حداثة تقنية بغير ثقافة خاصة بها ومفاهيم ملازمة لها تعبر عنها وتسوقها باهتمام شديد ؛ بل هي كذلك مع قيم سلوكية خاصة بها تتناسب مع آخر ما توصلت إليه عقول وبدع النخبة الرأسمالية العالمية المتحكمة بالمال والإعلام  العالميين وليس أقلها شأنا تطبيع الشذوذ والتحولات الجندرية …

العولمة ثقافة تسوق لكل تلك المفاهيم المادية النفعية الغريزية وما ينتج منها وعنها من سلوكيات منحرفة ولا أخلاقية ؛  بأسلوب فائق القدرة على جذب الإنتباه والإهتمام مستخدمة كل منتجات العلم الحديث وتقنيات التأثير في العقول والتلاعب بها وتوجيهها بل وإغتصابها بقوة الحض والإغراء والإبتزاز.. من اول الفن وأنواعه وتقنياته إلى كل أنواع التثقيف بالمعرفة المضللة والبعيدة عن إحتياجات الواقع وتحدياته مرورا بالإعلام الكثيف الذي يلاحق عقل الإنسان في كل ظرف وكل مكان..

إن الغاية المؤكدة التي تعمل عليها ومن أجلها ثقافة العولمة هي إنتاج إنسان لا ينتمي إلا إلى ذاته وملذاته وحياة اللهو والمتعة ..وحينما يفقد الإنسان إهتمامه بما يحيط به من أحداث ، يصبح فريسة سهلة لقوة التأثير والتوجيه وضبط السلوك بما يخدم توجهات أرباب وقوى العولمة وأدواتها..

حينما يفقد الإنسان معرفته بذاته المجتمعية وبتاريخه وبتراثه ؛ يفقد القدرة على تشخيص واقعه ومعرفه ما فيه من أخطار وتحديات وما يستدعيه من اولويات وإهتمامات ..

وحينما يفقد معرفته بالواقع يفقد القدرة على إستشراف المستقبل أو حتى مجرد الإهتمام به وما يتطلبه من فكر وعمل ونظام..

وعندها يكون قد فقد إنتماءه وهويته وأصبح بلا قضية وبلا هدف مركزي وبلا إهتمام عام بمصير الجماعة التي ينتمي إليها..

يظن حينها أن إهتمامه بذاته فقط هو الهدف المحرك لكل فعاليته الفكرية والميدانية الحركية..

وحينما يصل المجتمع إلى هذا الوضع من الضياع وغياب الوعي وعدم الإدراك وعدم الإهتمام العام ؛ فإنه يكون قد أصبح مهيأ تمام لفقدان القدرة على الفعل والتأثير بفقدان القضية المحركة والإلتزام بأهداف كبرى مشتركة وبمثل عليا وقيم جامعة موحدة ؛ وهكذا يكون قد فقد مناعته كجماعة متميزة لها هويتها الخاصة وشخصيتها الإعتبارية ؛  ليصبح فريسة سهلة ينقض عليها الأعداء – من الداخل والخارج – متحالفين متكاملين للسيطرة التامة عليه والتحكم بسلوكياته وتوجهاته وإهتماماته وإبعاده عن كل ما من شأنه أن يحضه ويمكنه من التفكير الجماعي المشترك ؛ و يسقط بالتالي في شراك ما يرسم له من مستقبل مظلم وحرية مفقودة وإمكانيات مهدورة ومنهوبة وفقدان القدرة على التحرر والوحدة والتقدم..

ومن أجل التمكن من هذا المستوى من الضياع و اللا إنتماء ؛ خضعت مجتمعاتنا لسلسلةمؤثرات و تغييرات مدروسة تشتغل عليها كل تلك القوى المحلية – ذات السلطان والنفوذ – والخارجية ذات الأهداف المعادية الخبيثة ؛  منذ عقود ..مؤثرات وتغييرات شملت جميع مناحي الحياة وميادين النشاط الإنساني ؛ لتجتمع معا في نزع الهوية وإتلاف القيم وتفكك المجتمع وتعميم ثقافة التفاهة والفساد والإنتهازية والأنانية ..أو بمعنى آخر نشر وتعميم ثقافة اللا إنتماء يتبناها ويتزعمها أجيال جديدة متعلمة طموحة إنما لا تنتمي إلى أوطانها وأمتها بل إلى أنانياتها الذاتية وتطلعاتها الغريزية..

تلك هي رسالة العولمة الرأسمالية وثقافتها ومفاهيمها..تلاحقنا في كل وقت وكل ظرف وكل ميدان..لا تترك فينا مجالا لرأي حر وعقل متفتح وتفكير نقدي بناء؛ بما تمتلكه من وسائل التأثير وصناعة الرأي وتعميم التفاهة وتسطيح الوعي وتكذيب الحقائق ونشر الجهل والفساد..

فكيف ولجت تلك الرسالة في عقول أجيالنا وكيف وصلت مجتمعاتنا إلى وضع تمكنت فيه رسالة العولمة من أبنائها فأفقدتها حريتها وصادرت وعيها وحركتها وبالتالي مستقبلها؟؟

                                                يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى