المخاض السوري… حلّ مرحلي مع “قسد”

علي العبد الله

أثارت اللقاءات العديدة بين مسؤولين في السلطة السورية وقيادات من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، والتصريحات المتفائلة التي أطلقوها، والاشتباكات المتنقلة، من دير حافر وسد تشرين إلى قلب مدينة حلب إلى ضفاف نهر الفرات في محافظة دير الزور، بين قوات من الطرفين، أثارت شكوك السوريين وحيرتهم إزاء امكانية تنفيذ اتفاق 10 مارس  (2025) الذي وقعه الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي حول دمج القوات في الجيش السوري تحت التأسيس، وبسط سيطرة “السلطة” على منطقة شمال سورية وشمال شرقيها التي تسيطر عليها “القوات” وتديرها أجهزة مدنية تابعة للإدارة الذاتية الكردية، عبر تسلّم المنافذ الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز والسجون ومخيمات اللاجئين ودمج المؤسّسات المدنية في مؤسّسات السلطة الجديدة. وُقّع الاتفاق العتيد في لحظة سياسية شديدة الحساسية، لحظة وقوع المجازر في الساحل السوري، التي راح ضحيتها 1479 مواطناً سورياً من العلويين، بالإضافة إلى آلاف من المفقودين، ومقتل 238 عنصراً من الأمن العام و26 من المدنيين، ما استدعى “طبخ” الاتفاق وإعلانه بسرعة قياسية للتغطية عليها وإبعادها عن دائرة اهتمام المواطنين والمراقبين المحليين والإقليميين والدوليين، عبر صياغة بنوده بصيغ عامة من دون تحديد معناها وحدودها، ترك تحديدها للقاءات تالية لتسهيل الاتفاق وتوقيعه.

فتحت صيغ البنود العامة الباب للطرفين للمناورة والتريّث بذريعة التباين في تفسير هذه البنود وصعوبة وضع تصوّر عملي لتنفيذها من دون الاتفاق على تفسير واحد يسمح بتحديد مغزى كل بند وسبل تجسيده على أرض الواقع ووضع التفاصيل على الطاولة، ما أدخل الاتفاق ككل في دائرة التجاذب والأخذ والردّ وعطّل عملية تنفيذه، ترتب على ذلك تقييد فرص الاتفاق على خطط وبرامج لإعادة الإعمار وإطلاق مشاريع تنموية في الصحة والتعليم وتطوير البنى التحتية في مجالات الإنتاج الزراعي واستخراج النفط والغاز وإعاقة دخول استثمارات كبيرة إلى البلاد على خلفية عدم وجود استقرار وأمن يطمئن المستثمرين على استثماراتهم.

لم يكن التريث، وما صاحبه من ضغوط دبلوماسية وإعلامية واحتكاكات عسكرية لاستنزاف الطرف الآخر، أكثر من محاولة لكسب الوقت على أمل حصول تطوّرات تصب في صالح رؤية هذا الطرف أو ذاك، وهو ما أثار حفيظة النظام التركي، الذي يستعجل الأمور، لأنه يربط حل القضية الكردية في سورية بحل القضية الكردية في تركيا، فعاد إلى التهديد بعمل عسكري ضد “قسد”، مذكّراً بالمدى الزمني الذي حُدد لتنفيذ الاتفاق في نهاية العام الحالي وتحرّك مع السلطة السورية يحفّزها على التمسّك بقراءتها بنود الاتفاق، ما يعني رفض اللامركزية السياسية، وعلى استخدام القوة لفرضها.

تفاهم مبدئي على اللامركزية مع بقاء عدم اتفاق على معناها ومغزاها

تعاملت الإدارة الأميركية ومبعوثها الخاص إلى سورية السفير توماس برّاك مع مناورات الطرفين وتعاطيهما الفاتر مع استحقاقات اتفاق مارس بروية ونفس طويل من دون أن تظهر الاستياء والضيق، تاركة الطرفين يتبادلان الضغوط واللكمات في لعبة عضّ أصابع، بانتظار أن يصلا إلى حل وسط، أو يصل أحدهما إلى القبول برؤية الطرف الآخر، قبل أن تلمس تنامي التصعيد بينهما، تصعيد كلامي واحتكاكات عسكرية متواترة، حيث لوّح الرئيس أحمد الشرع بالحل العسكري، حيث نسب إليه قوله “في حال فشل المفاوضات السياسية كل الخيارات مطروحة بما فيها المواجهة العسكرية”، وجدّد وزير الخارجية أسعد الشيباني تأكيد موقف السلطة من منطقة شمال سورية وشرقها في تصريحه، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إن الحكومة تنطلق في حوارها مع تنظيم “قسد” من مبدأ دولة واحدة وجيش واحد وأرض واحدة. وتمسك قيادات “قسد” و”مسد” بما تصفه بإنجازاتها ومكاسبها، وإصرار قائد “قسد” مظلوم عبدي على موقفه من طبيعة النظام السياسي وتأكيده على مسار سياسي يقود إلى تكامل وطني سوري، أي أنه يستبعد خيار الاندماج بالصيغة التي تطرحها السلطة. وجدّد عبدي في كلمة له في العاشر من الجاري، في الذكرى العاشرة لتأسيس “قسد”، المطالبة بلامركزية سياسية، ورفض الانسحاب من محافظتي الرقة ودير الزور.

دفعت التطورات الإقليمية المرتبطة بالوضع في قطاع غزّة وتبعاته، خصوصاً بعد العدوان الصهيوني على الدوحة، وما ترتب عليه من مواقف عربية، خليجية بشكل رئيس، أساسها اعتبار الكيان الصهيوني خطراً على دول المنطقة، وتراجع الثقة بالتعهدات الأمنية الأميركية ووضع الولايات المتحدة في خانة التواطؤ مع الكيان الصهيوني، ودخول الإدارة في عزلة دولية على خلفية تأييدها ودعمها غير المحدود الكيان الصهيوني، واتخاذ الدول العربية خطواتٍ عملية لتأمين قوة ردع لمواجهة التغوّل الصهيوني، قرارات القمتين العربية الإسلامية والخليجية والاتفاق الدفاعي السعودي الباكستاني والمناورات البحرية المصرية التركية، دفعت الإدارة الأميركية إلى إجراء مراجعة لتعاطيها مع العدوان الصهيوني المتواصل على الشعب الفلسطيني وترتيب اجتماع مع ثمانية قادة عرب ومسلمين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك للبحث عن مخرج للعدوان الصهيوني القائم على الشعب الفلسطيني في غزّة والاتفاق على خطة لوقفه من 20 بنداً لا تنطوي على تهجير للغزّيين أو تحويل القطاع إلى “ريفييرا” شرق المتوسّط، مع تكثيف دخول المساعدات إلى القطاع والانخراط في إعادة إعماره، تلاه لقاء خاص في البيت الأبيض مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نجم عنه تفاهم حول إدارة الوضع في سورية، جدّد ترامب في المؤتمر الصحافي مع أردوغان نسبة عملية التغيير في سورية إلى تركيا، في رسالة إلى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، الذي نسب الفضل بتحقيق التغيير في سورية لنفسه، فالحل في غزّة ومنح تركيا فرصة للعب دور وازن فيه، عبر إشراكها في مفاوضات شرم الشيخ حول خطّة ترامب ومنحها فرصة للمشاركة في رعاية تنفيذ الخطة، بما في ذلك إرسال قوات تركية إلى القطاع للمشاركة في حفظ الأمن خلال المرحلة الانتقالية والاتفاق معها على منحها دوراً في رعاية السلطة السورية وتوجيهها والمشاركة في عملية إعادة الإعمار في سورية وغزّة مقابل تخفيف اعتراضها على صيغة اندماج “قسد”، والإدارة الذاتية في النظام السوري الجديد، قد يقنع تركيا بتخفيف معارضتها صيغة لامركزية في سورية.

أعلن عبدي عن نية “الإدارة الذاتية” إرسال وفود لزيارة عدة محافظات سورية في حملة علاقات عامة

تجلّى تغير موقف الإدارة الأميركية في ملفّين: الفلسطيني، حيث ضغط ترامب على نتنياهو لقبول الخطّة التي اتفق عليها مع ثمانية قادة عرب ومسلمين، قبلها نتنياهو بعد الاتفاق على إجراء تعديلات، بدأ تنفيذها، والسوري، حيث بدأ برّاك بالتحرك لدفع السلطة و”قسد” للعمل على تنفيذ اتفاق العاشر من مارس، زار وقائد القيادة المركزية الأميركية، الأدميرال براد كوبر، شمال سورية وشرقيها، واجتمع إلى قياديين في “قسد” و”مسد”، ضغط عليهم عبر تحذيرهم من أنه بعد نهاية السنة الحالية (موعد الانتهاء من تطبيق اتفاق العاشر من مارس) لن يكون له أي تدخّل سياسي أو عسكري في حال أفشلت “قسد” تنفيذ الاتفاق. وقد أبلغ هذا التحذير للسلطة كذلك، انتقلا بعدها إلى دمشق وبرفقتهما مظلوم عبدي ووفد من “الإدارة الذاتية” لتنشيط التفاوض حول تنفيذ الاتفاق، حيث عُقدت لقاءات، وجرى الاتفاق على وقف فوري لإطلاق النار في مدينة حلب، وعلى دمج “قسد” مع الجيش السوري، وقوى الأمن الداخلي (الأسايش) في وزارة الداخلية، أسوة بالقوات العسكرية، وفق إعلان عبدي، وتسليم إنتاج حقول النفط والغاز في محافظة دير الزور للسلطة، ومنح السلطة الحقّ في تعيين موظفين وأعضاء ضمن حقول النفط والقوات الأمنية والعسكرية والمؤسّسات الخدمية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” من المحافظة، مع بقاء موظفي الإدارة و”قسد” في عملهم، أي قبول إقامة شراكة أولية في إدارة المحافظة، بدل تسليمها للسلطة وفق الطلب الأميركي، وعلى إرسال لجان تخصّصية إلى دمشق لمناقشة تنفيذ بنود الاتفاق مع لجان مقابلة من السلطة، بعدما جرى تفاهم مبدئي على اللامركزية مع بقاء عدم اتفاق على معناها ومغزاها، وفق عبدي، الذي أعلن عن نية “الإدارة الذاتية” إرسال وفود لزيارة عدة محافظات سورية في حملة علاقات عامة، يبدو أن هدفها جعل حضور الأخيرة في المجال السوري العام مفهوماً ومألوفا.

تسعى الإدارة الأميركية إلى تعزيز روابطها السياسية والعسكرية مع السلطة السورية من دون التخلّي عن “قسد”، ما يستدعي دفعهما إلى التفاهم عبر تدوير الزوايا والحلول الوسط، والبدء بتعزيز الثقة عبر تسليم الرقة ودير الزور للسلطة، على أمل تحقيق الاستقرار بحيث تصبح سورية مع السعودية وتركيا مرتكزاتٍ في تصور الإدارة الأميركية لهذا الجزء من المنطقة وكيفية خدمة المصالح الأميركية فيها؛ والدفع، في الوقت نفسه، نحو دخول السعودية وسورية في علاقات تطبيع مع الكيان الصهيوني عبر الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى