تمخض حوار المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي عن تفاهمات تعمق الانقسام الوطني بين السوريين، ولا تخدم التعايش والتآخي التاريخي بين العرب والكرد، وأوحت بعض المؤشرات، وخاصة الرعاية الأميركية له، وحضور الدبلوماسي ويليام روباك، والإصرار على مشروع (الفيدرالية) و (تقرير المصير) من طرف واحد، واستباقًا للحل الوطني عبر الحوار السوري العام، بعد حسم مصير النظام، الذي يتحمل القسط الأكبر من المشكلات المزمنة التي يعاني منها العرب والكرد وبقية المكونات والأطراف، وكأن أطياف المكون الكردي قد حسموا خياراتهم سلفًا، ويتعمدون تحدي شركائهم العرب في الوطن، واستفزازهم وتوجيه رسالة لهم، مفادها أن الأكراد ما عادوا حريصين على عرى الوحدة الوطنية.
ومن الطبيعي أن تثير تلك التفاهمات، والمؤشرات، التي رافقت الإعلان عنها يوم 17 حزيران/يونيو الجاري ردود فعل مضادة رافضة، ومحتجة، ومستنكرة، عبر عنها بيانان، حمل أولهما عنوان: “بيان الى الرأي العام”، ووقعه 600 شخصية سورية عربية وكردية، وحمل ثانيهما عنوان: “نداء من أجل تحالف ديمقراطي في الجزيرة والفرات”، وقعه 300 شخصية سورية. وأثار سجالًا ساخنًا لا يخلو في بعض جوانبه من التعصب والتشدد، وعكس ارتفاعًا ملحوظًا في درجة الحرارة والتوتر في المنطقة الشمالية الشرقية بين العديد من مكوناتها وأطرافها، بسبب خطورة الظروف الحالية، وتناقض الخيارات، والرهانات، والمشاريع، التي يسعى بعضهم لفرضها على المنطقة وسكانها بالقوة، وبمعزل عن حوار وطني يشارك فيه جميع السوريين.
لم يتوقف، يومًا، الحوار السوري_ السوري عن ضرورة “حل القضية الكردية في إطارها الوطني حلًا عادلًا” وذلك بإجماع القوى الوطنية السورية، ومنذ ما قبل الثورة المباركة، وفي أثنائها طوال السنوات التسع المنصرمة، وظلت تراوح في مكانها دون حسم، وتسببت بتعطيل جزء كبير من قوانا الوطنية، وعدم زجها في الصراع مع النظام المجرم وحلفائه، وربما ساهمت في تأخير تحقيق الانتصار الذي ينشده شعبنا بكل مكوناته، عربًا وكردًا، على نظام الطاغية الكوني في دمشق.
مع بروز مؤشرات عديدة لنهاية قريبة لنظام تعفن وأنتن، وبدأ أكثر داعميه، وحلفائه، يهاجمونه علانية، مع تعمق واشتداد تناقضاته البنيوية، وتجدد الحراك الشعبي السلمي بقوة، فقد بدأت تظهر على السطح مؤشرات الضغط الخارجي، خصوصًا الأميركي، الذي يرعى الجانب الكردي ويحتضنه، ويدعمه، على مختلف المستويات، وهو ما يتلاقى مع الرغبات الذاتية الكردية في ترتيب البيت الداخلي، تكريسًا للأمر الواقع الذي فرضته السنوات الماضية، الأمر الذي يكشف عن أجندات غير وطنية أحرجت حتى المدافعين عن المظلومية الكردية، والمتعاطفين معها، من المكونات الأخرى، والقوى والشخصيات الديمقراطية، أمام هول ما يصرح به هؤلاء ويطرحونه.
في ندوة حوارية ضيوفها شخصيات كردية مرموقة وفاعلة، على أحد القنوات الكردية، يوم 24 حزيران/ يونيو الجاري، وانتشرت أصداؤها بسرعة كبيرة على وسائط التواصل الاجتماعي، تحدث المشاركون بلغة تثير مخاوف كبيرة على مستقبل هذه المنطقة العزيزة من سورية، ومكوناتها، فهي عدا كونها لغة غير مسؤولة، أقل ما يقال عنها إنها تبث خطاب كراهية واستعداء، تجاه كل شيء، البشر والحضارة والأديان السماوية( الإسلام والمسيحية)، وبنعوت وألفاظ لا تنم عن العنصرية والانغلاق فقط، بل عن جهالة حقيقية، وتعمد لاختلاق حوادث وتركيب أخرى، وإجراء مقاربات أو إسقاطات، تدعم مزاعم باطلة جملةً وتفصيلاً تتعلق بالماضي والحاضر.
إزاء هذه التطورات وأمثالها، من المهم القول إن أي تفاهمات، بين أي طرفين وطنيين سوريين، وتحت سقف وحدة الوطن، تستهدف تعزيز اللحمة والوحدة بين مكوناته، عمل وطني وثوري إيجابي، وضروري في هذه المرحلة بالذات، أما أن يكون في إطار الاستقواء بالخارج وتعزيز مشاريع دون وطنية، أو تحت يافطات التحشيد والتخويف وإثارة النعرات، فهو مقتل للجميع، ولعل دروس التاريخ وتجاربه المريرة تؤكد ما نذهب إليه ونحذر من آثاره القريبة والبعيدة على جميع السوريين.
إن هواجس بعض المكونات والأقليات مشروعة حتمًا، ومحقة، ولكن لا يجب أن تدفع أي طرف لاستفزاز الآخرين، ولا للعمل على استغلال لحظة تاريخية، جراح الجسد السوري فيها مثخنة، لتعزيز سردية تاريخية، طالت عموم السوريين، بشكل أو بآخر، نتيجة نظام الاستبداد والطغيان، والفشل الذريع في تحصين الوطنية السورية، التي تبدو في هذه اللحظة ضرورية لبقاء الكيان السوري، من عدمه، والبديل عنها تشظيه وتفتته، لصالح كيانات يمكن أن تنشأ، مقومات الصراع في داخلها أكبر من عوامل وجودها، وقدرتها على البقاء.
إننا نحذر الذين يعملون على بث خطاب تفوح منه روائح العداء العنصري، وتنبعث منه سموم الوعيد والتهديد، ونقول لهم إن هذا التوجه لا يخدم أحدًا لا عربيًا ولا كرديًا، ولا تحقق لهم الأمان، وهي في الواقع ليست سوى أضغاث أحلام، لا أساس لها في التاريخ والواقع.
قبل أسابيع، وفي هذا المكان قلنا موجهين نداءنا لكل السوريين: اتحدوا، فوحدتكم طوق النجاة للجميع، والعروة الوثقى بيننا، وكلمة السر الجامعة، والموحدة، إسقاط نظام الطغيان والانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان وفق مفاهيمه العالمية، والحداثية، وإقامة دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع، بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم ومعتقداتهم.
إننا نحذر ونناشد مرة أخرى أشقاءنا الكرد ونقول لهم إنكم تخطئون بحق أنفسكم وقضيتكم حين تنسفون كل روابط التاريخ وصلات القربى لصالح وعود نظنها صعبة التحقق، وتُلحق الأذى بكم قبل أن تُلحقه ببقية السوريين، وعليهم كما علينا الاقتناع والتيقن من أنه لا بديل عن الحوار الوطني والتمسك بالتعايش والتآخي والسلم الأهلي، والتركيز على أولوية النضال المشترك لإسقاط نظام الطغيان الكوني.