
لم تكن فلسطين يومًا قضية عابرة في الوجدان الليبي، ولم تكن نشرة أخبار مؤقتة، ولا شعارًا سياسيًا يُرفع عند اللزوم ثم يُطوى مع انتهاء المناسبة.
فلسطين، بالنسبة لليبيين، كانت دائمًا جزءًا من الذاكرة الجماعية، من اللغة التي تربّوا عليها، من الأغنية الوطنية التي تحفظها الأجيال، ومن الدعاء الذي يخرج من القلب في كل صلاة جمعة، منذ أن كان اسم “القدس” يُذكر في البيوت بوقار يشبه قدسية الأم نفسها.
ولهذا، لا تحتاج ليبيا إلى وسيطٍ ليذكّرها بفلسطين، ولا تحتاج فلسطين إلى وسطاء ليؤكدوا أن الليبيين لم يخذلوها يومًا.
فالعلاقة بين الشعبين لم تُبنَ على مواقف الحكومات، بل على ذاكرة الشعوب التي تتوارث الوفاء كما تتوارث الأرض.
من نكبة 1948 إلى استقلال ليبيا: الجرح العربي المشترك
في عام 1948، حين اقتُلعت آلاف العائلات الفلسطينية من أرضها تحت نار العصابات الصهيونية، كانت ليبيا ما تزال في طريقها نحو الاستقلال بعد عقود من الاحتلال الإيطالي والوصاية الدولية.
كانت البلاد فقيرة في مواردها، مدمّرة البنية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعها من فتح أبوابها للفلسطينيين.
بحسب ما يرويه باحثون في العلاقات العربية (ومنهم عبد الله أبو عياد في أرشيف معهد البحوث العربية بالقاهرة)، استقبلت ليبيا أولى دفعات اللاجئين الفلسطينيين في مدن طرابلس وبنغازي والبيضاء، ومنحتهم حق الإقامة والعمل والتعليم.
كان استقبالًا نابعًا من شعور قومي وديني، لا من وفرة أو مصلحة، ولذلك بقي في الذاكرة أكثر من سبعة عقود.
لم يكن ذلك في زمن “النفط والثروة”، بل في زمن الندرة. وهذا ما يجعل الموقف الليبي أصدق: تضامن في العُسر لا في اليُسر، واحتضان في زمن الضعف لا في زمن النفوذ.
ليبيا والموقف الثابت: دعم مادي ومعنوي عبر كل المراحل
منذ البداية، لم تتغيّر البوصلة الليبية.
ففي كل عهد، كان شكل الدعم يختلف، لكن جوهره يبقى واحدًا: فلسطين قضية وطنية عربية لا مساومة فيها.
في العهد الملكي
كان الملك إدريس السنوسي يرى أن دعم فلسطين واجب أخلاقي وديني.
تؤكد وثائق من أرشيف جامعة الدول العربية أن المملكة الليبية شاركت في أولى حملات التبرع العربية للاجئين الفلسطينيين عام 1949، وأرسلت مساعدات مالية رمزية رغم عجز ميزانيتها آنذاك.
كما سُجّل في الصحافة الليبية (صحيفة “برقة الجديدة”، عدد مايو 1951) أن طلاب المدارس الليبية نظموا حملة لجمع التبرعات لصالح “أطفال فلسطين المشردين”.
في عهد القذافي
اتخذ الدعم طابعًا مؤسساتيًا وأكثر انتظامًا.
منذ مطلع السبعينات، أصبحت ليبيا واحدة من أبرز الداعمين السياسيين والماليين للفصائل الفلسطينية، واحتضنت في طرابلس اجتماعات “جبهة الصمود والتصدي” التي ضمّت ليبيا وسوريا والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1977.
وفي عام 1972، زار ياسر عرفات طرابلس لإبرام تفاهمات حول المشاركة الليبية في دعم المقاومة، كما أوردت جريدة “القبس” الكويتية آنذاك.
لم يقتصر الدعم على المال والسلاح فقط، بل شمل التعليم والمنح الجامعية والعلاج الطبي.
فقد استقبلت المستشفيات الليبية عشرات الجرحى الفلسطينيين من الانتفاضتين الأولى والثانية، ومنحت طرابلس منحًا دراسية لآلاف الطلبة الفلسطينيين في الجامعات الليبية.
يقول عبد الرحمن شلقم ممثّل ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة (سفير ليبيا لدى الأمم المتحدة)
“القذافي كان يرى في فلسطين ساحة لتصفية حساباته السياسية مع العرب والغرب، وكان يقدّم دعمًا للفصائل، وأحيانًا يرسل السلاح، لا المال، لأن المال كان يريده للزعماء الذين يمدحونه.”
(ورد هذا المعنى في حوار مع قناة العربية ضمن برنامج “الذاكرة السياسية”، الحلقة الثانية، ديسمبر 2020)
وقد كان اسم ليبيا حاضرًا في كل مؤتمر عربي يناقش القضية، كما كانت طرابلس وبنغازي محطتين رئيسيتين لدعم المقاومة الفلسطينية، سواء عبر المؤتمرات أو المنابر الإعلامية.
من طرابلس إلى غزة… سفينة “عمر المختار” في أسطول الصمود
لم يكن الدعم الليبي محصورًا في المواقف الخطابية أو التبرعات الرسمية، بل تعداه إلى الفعل الميداني.
في مايو 2010، شاركت ليبيا رسميًا في أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة عبر سفينة “الأمل” الليبية، بتمويل من “مؤسسة القذافي للتنمية”، التي كان يرأسها آنذاك سيف الإسلام القذافي.
انطلقت السفينة من ميناء لافاليتا المالطي محمّلة بمئات الأطنان من الأدوية والمساعدات الإنسانية، ورفعت علم ليبيا إلى جانب علم فلسطين.
ورغم اعتراضها من قبل البحرية الإسرائيلية، إلا أن رمزية المشاركة رسّخت اسم ليبيا في ذاكرة تلك الحملة كدولة لم تتخلَّ عن واجبها الإنساني.
“سفينة ليبية في طريقها إلى غزة لكسر الحصار”
على موقع BBC Arabic بتاريخ 12 يوليو 2010:
قالت مؤسسة القذافي للتنمية إن السفينة الليبية (الأمل) أبحرت من اليونان متجهة إلى غزة وعلى متنها 2000 طن من المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية.
وأضافت المؤسسة أن السفينة تحمل رسالة تضامن من الشعب الليبي إلى الشعب الفلسطيني في غزة، وتأتي في إطار دعم الجهود الإنسانية لكسر الحصار المفروض على القطاع
وبعد خمسة عشر عامًا، عادت ليبيا لتؤكد حضورها من جديد في أسطول الصمود 2025 عبر سفينة أخرى تحمل الاسم ذاته: “عمر المختار”، في إشارة واعية إلى الربط بين رمزية المقاومة الليبية ورمزية الصمود الفلسطيني.
انطلقت السفينة من طرابلس محمّلة بالأدوية والأغذية ومستلزمات الطوارئ، جُهّزت لتكون “عيادة عائمة”، وفق ما أعلن المنظّمون في بيان صحفي نشرته TRT عربي بتاريخ 19 سبتمبر 2025.
شارك فيها متطوعون ليبيون وأجانب من كندا وبريطانيا وأمريكا، وأُشرف عليها طاقم طبي ليبي.
لكن البحرية الإسرائيلية اعترضت السفينة في المياه الدولية، واعتقلت كل أفراد الطاقم
وعقب الحادثة، احتجت وزارة الخارجية الليبية رسميًا وطالبت بالإفراج عن الطاقم، بينما وصلت سبعة من الناشطين إلى إسطنبول في طريق عودتهم إلى طرابلس، حسب وكالة الأناضول.
وأفرج عن الباقي لاحقا.
لقد أصبحت “عمر المختار” رمزًا مزدوجًا: للذاكرة الليبية التي لا تنسى تاريخها، وللإرادة الشعبية التي تصرّ على أن تكون فلسطين في مقدمة أولوياتها رغم تعقيدات الداخل.
كما كتبت Libyan Express:
“عندما تحمل طرابلس اسم عمر المختار عبر البحر إلى غزة، فهي لا تُرسل سفينة فقط، بل تُعيد تعريف نفسها أمام العالم.”
ذاكرة الناس قبل مواقف الأنظمة
الليبيون لا يتذكرون فلسطين من خلال نشرات الأخبار، بل من خلال تفاصيل الحياة اليومية.
في كل بيت صورة قديمة للمسجد الأقصى، أو خريطة معلّقة لفلسطين، أو قصيدة كتبها معلم فلسطيني لطفل ليبي.
في المدارس والجامعات، وفي المصانع والمستشفيات، عاش الفلسطيني والليبي كتوأم، بلا فواصل أو طبقات.
لم يُسجَّل في أي مرحلة أن الفلسطينيين استغلوا ضعف الدولة الليبية أو تورطوا في الفوضى؛ بالعكس، كانوا نموذجًا للانضباط والعمل الشريف.
هذه الذاكرة جعلت التضامن الليبي مع فلسطين فطريًا.
عندما تُقصف غزة، تتحرك في ليبيا غريزة النخوة كما لو أن الحدث يقع في طرابلس نفسها.
تشتعل وسائل التواصل، تُرفع الأعلام، وتتحول الشوارع والمساجد إلى منابر للتعبير عن الغضب.
هذا التفاعل لا يمكن تفسيره بالسياسة فقط، بل بالضمير الجمعي الذي يربط المظلوم بالمظلوم.
الأصوات الطارئة ومحاولة تشويه الذاكرة
في السنوات الأخيرة، ظهرت على وسائل التواصل وبعض البرامج أصوات تدّعي الواقعية السياسية وتبرر “التطبيع الهادئ” مع إسرائيل.
تقول هذه الأصوات: “الليبي أولى بنفسه من فلسطين”، أو “الفلسطينيون باعوا قضيتهم”، أو “الصراع لم يعد يعنينا”.
لكن هذه الأصوات تبقى محدودة، ممولة، وغريبة عن السياق الوطني.
تحقيقات صحفية تشير إلى أن بعض هذه الحملات تُدار من حسابات وهمية مرتبطة بشبكات تمويل خارجي تهدف إلى تهيئة الرأي العام لتقبّل فكرة “التعايش مع إسرائيل” في المنطقة.
إلا أن الرد الشعبي في ليبيا كان فوريًا:
فكل منشور تطبيعي يُقابَل بموجة من الرفض والسخرية والتنديد، حتى باتت الصفحات المؤيدة للتطبيع تُغلق أو تُجبر على حذف محتواها من شدة الضغط الشعبي.
من يقف خلف هذه الأصوات؟
الجواب، كما يرى مراقبون ليبيون، واضح:
إنها محاولات ناعمة يقودها أصحاب النفوذ الباحثون عن شرعية دولية.
خليفة حفتر في الشرق، الذي فتحت وسائط إعلامية إسرائيلية (مثل Jerusalem Post) قنوات اتصال معه عبر وسطاء إماراتيين منذ 2017، وعبد الحميد الدبيبة في الغرب، الذي يلمّح باستمرار إلى “الانفتاح على الجميع” تحت شعار المصالح الوطنية.
وراء هؤلاء شبكات من المستشارين الإعلاميين والناشطين الذين يُعيدون صياغة الخطاب السياسي الليبي بوجه أكثر “واقعية” في الظاهر، لكنه في الجوهر يسير نحو التطبيع التدريجي.
لكن ليبيا — التي لم تخضع يومًا لاحتلال مباشر ولم تساوم على دماء أبنائها — لا يمكن أن تبيع ذاكرتها.
فالشعب الذي قاوم الاحتلال الإيطالي لن يقبل بتجميل وجه الاحتلال الصهيوني.
فلسطين في وعي الليبيين: من التاريخ إلى الهوية
ليست فلسطين بالنسبة لليبيين قضية خارجية، بل جزء من هويتهم الثقافية والدينية.
في الأدب الليبي، نجد حضورها في القصائد والأغاني والمناهج الدراسية، وفي الحكايات الشعبية التي تقرن بين “القدس والكرامة”.
حتى الطفل الليبي الذي لم يزر فلسطين يعرف أسماء مدنها وشهدائها، ويشعر بأن صواريخ غزة تُطلق نيابة عنه.
عندما يتحدث الفنانون والشعراء الليبيون عن المقاومة، فإنهم يستحضرون فلسطين كصورة مكثفة للحرية.
علي الفزاني (1936–1989)
من أوائل الشعراء الليبيين الذين كتبوا عن فلسطين والقدس في سياق التحرر العربي.
في ديوانه «حنين الأزمنة المنسية» وردت أبيات يقول فيها:
“يا قدسُ… يا طفلةَ العربِ الحزينة،
ما زال فينا القلبُ يخفقُ باليقينِ.”
(ديوان حنين الأزمنة المنسية – الطبعة الأولى، طرابلس، 1978)
الفزاني كثيرًا ما شبّه صمود الفلسطينيين بمقاومة الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي، وقال في مقابلة مع مجلة “الفكر” الليبية (عدد 1981)
فلسطين ليست اختبارًا لليبيا… بل مرآة لها
الموقف من فلسطين ليس امتحانًا للوطنية، بل مرآة تُظهر نقاءها.
حين يقف الليبي مع غزة، فهو لا يتبنى شعارًا سياسيًا بل يُعيد تعريف نفسه كإنسان.
من يرفع علم فلسطين في ساحة الشهداء لا يوجه رسالة للعالم، بل لنفسه:
“ما زلنا بخير، ما دمنا نشعر بألم الآخرين.”
وهنا تصبح فلسطين معيارًا للكرامة، لا موضوعًا للنقاش.
فمن يتخلى عن فلسطين اليوم سيتخلى عن طرابلس غدًا، لأن منطق اللامبالاة واحد، والعدالة لا تتجزأ.
الوجدان لا يحتاج إلى توجيه رسمي
واحدة من أجمل مفارقات العلاقة الليبية-الفلسطينية أن التضامن لم يكن يومًا مشروطًا ببيان حكومي أو خطاب رسمي.
في فترات الانقسام، حين اختلفت الحكومات شرقًا وغربًا حول كل شيء، بقيت فلسطين هي النقطة الوحيدة التي لا يختلف حولها أحد.
حتى عندما خمدت السياسة، ظلّ الدعاء لفلسطين حاضرًا في المنابر، والحديث عنها جزءًا من لغة الناس.
ومن الأمثلة الحديثة قضية محمد الجراح، الناشط الليبي الذي أطلق حملة تبرعات لغزة في طرابلس عام 2023، قبل أن تُجبره السلطات على التوقف بقرار من مفوضية المجتمع المدني.
رغم التهديدات، واصل الجراح بثّ مقاطع مصوّرة تُظهر وصول المساعدات فعلاً إلى القطاع، ليصبح رمزًا للموقف الشعبي المستقل عن السلطة.
في مقال صحفي بعنوان “الساعدي: من يشككون في محمد الجراح يجمعهم رابط التصهين”
(المرصد، سبتمبر 2025)،
دافع الداعية سامي الساعدي عن الجراح من اتهامات التلاعب والتشكيك في نزاهته، معتبراً أن الشبهات التي أُثيرت ضده “باطلة” وموجّهة سياسيًا.
خاتمة: صوت ليبيا الأصيل لا يُشوَّه
منذ النكبة وحتى اليوم، لم تخلُ مرحلة من مراحل ليبيا من شكلٍ من أشكال الدعم لفلسطين: من تبرعات الملك إدريس، إلى تمويل القذافي للفصائل، إلى مسيرات فبراير، إلى سفينة “عمر المختار” في أسطول الصمود، إلى مبادرات الجراح في طرابلس.
تتغير الأنظمة، تتبدل الشعارات، لكن الثابت واحد: الضمير الليبي لا يساوم على فلسطين.
أما الأصوات التي تحاول تشويه هذا الثابت، فمصيرها الزوال، لأن التاريخ لا يحتفظ إلا بالمواقف النبيلة.
من يحاول اليوم مصادرة الوجدان الليبي أو تحريفه، يجهل أن العلاقة بين ليبيا وفلسطين لا تُقاس بتغريدة أو تصريح، بل بتاريخٍ من الدم والدمع والمواقف المشرفة.
لقد وقفت ليبيا إلى جانب فلسطين عندما كانت وحيدة، وفتحت قلوب أبنائها قبل حدودها.
واليوم، رغم الانقسام السياسي والضباب الاقتصادي، ما زال صوتها الحقيقي يخرج من أعماق الناس لا من فوق المنابر
فليطمئن من يخاف على هذا الرابط:
ليبيا لا تحتاج إلى وسطاء لتذكّرها بفلسطين، كما لا تحتاج فلسطين إلى شكر الليبيين على وفائهم.
فما بين طرابلس وغزة، لا يفصل البحر بقدر ما يوحّد الوجع، ولا تُقاس المسافة بالكيلومترات، بل بعمق الانتماء والكرامة.
إنها ذاكرة لا تتبدل، وموقف لا يحتاج وسطاء.
المصدر: تلفزيون سوريا