
في لحظة ابتهاج، ذرفَ رئيس الحكومة الإثيوبية، أبي أحمد، الدموع بحرارة في ليلة حبست الأنفاس وأضاءت فيها الألعاب النارية السماء ورسمت العلم الإثيوبي فوق سدّ النهضة. بدا الرجل واقفاً صامداً لا يتحرّك ولا يرمش له جفن. تناقلتْ وسائل الإعلام المحلية والدولية المشهد. صورة خطفت الأضواء وملأت بزخمها المنصّات الرقمية حتى صارت أيقونة النصر وفخر إثيوبيا بإنجاز تاريخي يعتبره الإثيوبيون مجد أفريقيا وصمودها في تحقيق ما تريد من تطلّعات شعوبها. حقاً يعرف أبي أحمد، الشعبوي بامتياز، كيف يخاطب جمهوره ويستعطفه، ومع اختلافهم عرقياً ودينياً وثقافياً، وحتى مع تنوّع أطباقهم ورقصاتهم الفلكلورية، إلا أن الرجل وجّههم نحو هدفٍ واحد، وعلى قلب رجل واحد. يقولون إن مشروع سدّ النهضة نبض إثيوبيا، وحجر الزاوية للنهوض من قاع الفقر والحرمان.
رحلة الشغف، وبناء سدّ النهضة، ما كانت لتكتمل لولا تضحيات الإثيوبيين على مرّ السنين، ويكشف وزير الريّ الإثيوبي في مقابلة تلفزيونية له أن بناء سدّ النهضة كلّف الإثيوبيين ما يقدّر بخمسة مليارات دولار، وأزهق أرواح 15 ألفاً من الإثيوبيين، كان من بينهم سمنجو بقلي، مدير المشروع، الذي وجد مقتولاً في سيارته بطلق ناري في ظهيرة يوم من أيام العام 2018. يعني ذلك أن التحدّيات التي واجهها هذا المشروع لم تكن هيّنةً، كما أن تصريحات أبي أحمد يوم تدشين سدّ النهضة: “أودّ أن أقول لأعدائنا في الداخل والخارج: لنا نحن الإثيوبيين تاريخ طويل من الوطنية. نحن شعب اعتاد أن يضحّي في سبيل ترك إرث خالد. لذلك، فإن التعاون معنا مُجدٍ، أمّا قتالنا فلا جدوى منه. والسبب أن محاولاتهم استمرّت آلاف السنين من دون أن يحقّقوا نجاحاً واحداً، بينما تمكّنا نحن اليوم من إنجاز ما عجزنا عنه على مدى آلاف السنين”… تلخص هذه التصريحات ما واجهته أديس أبابا من مصاعب جمّة محلياً وخارجياً، تحت الضغط الدبلوماسي، وأوراق الاتفاقات المتعثّرة مع دولتي المصبّ مصر والسودان، منذ اتفاق إعلان المبادئ عام 2015.
عدم الحوار مع إثيوبيا، ومن دون توفّر ضمانات حقيقية لإدارة ملفّ السدّ، قد يقودا المنطقة إلى شلّال من الدماء
صحيحٌ أن الآمال ارتفعت، بعد اكتمال سدّ النهضة في يوليو/ تموز الماضي، في تحقيق عوائد مالية يمكن أن ترفع فاتورة الاقتصاد المحلي بنسبة 2%، وكذلك أن تجني إثيوبيا ما يقدّر بمليار دولار أميركي سنوياً، وهي آمال برزت في تصريح لأبي أحمد قبل يوم من افتتاح السدّ بالقرب من مرتفع ضخم للسدّ الرئيس (يصل ارتفاعه إلى 145 متراً فوق سطح البحر)، مرتدياً لباسه التقليدي، وواضعاً إحدى قدميه على الأخرى أمام كاميرا التلفزيون الحكومي، مؤكّداً أن السدّ العظيم بمنزلة قوة اقتصادية حافزة لإثيوبيا، وأن مصير الدولة برمّتها بات مرتبطاً بعوائد سدّ النهضة، وكأنه يعاكس العبارة السائدة التي صاغها المؤرّخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد: “مصر هبة النيل”، بأخرى جديدة تقول: “إثيوبيا هبة السدّ”، لكن الطريق أمام تحقيق قفزة اقتصادية سريعة دونها تحديات لوجستية شائكة، فالأبراج الكهربائية المشيّدة ليست كافيةً، كما أن توزيع شبكة الكهرباء على القرى والأرياف أولاً ليست مضمونةً، حتى في الأعوام المقبلة، فإثيوبيا أرض شاسعة وخضراء جميلة، لكن الفقر والحرمان بمثابة سوس ينخر العظام نتيجة قلّة الموارد المتوفّرة للدولة، ناهيك عن الفساد الإداري والمالي. ولهذا فإن جني أرباح مالية لدعم ميزانية الدولة هي مجرّد تصريحات شعبوية لذرّ الرماد في العيون. فبناء سدّ النهضة، الذي استغرق قرابة عقد ونيّف، لا يمكن أن يدرّ على خزينة الدولة فوائد مالية كبيرة، فالحكومة الإثيوبية بحاجة إلى سنوات أخرى من شدّ البطون بالأحجار، وشحذ الذهن، لتشييد منظومة متكاملة من الكوابل والشبكات الناقلة للكهرباء في الداخل الإثيوبي وإلى دول الجوار، بالإضافة إلى فرض مصالحة حقيقية مع القوميات والإثنيات المتحاربة، ووأد الصراع في إقليم تيغراي، حتى تكون إثيوبيا مهيأةً للاستفادة القصوى من عوائد سدّ النهضة المتوقعة، وإلا فسيكون المشروع مجرّد شلال يفيض فيضاناً عارماً تارة، وورقة ضغط دبلوماسية توجَّه لدولتي المصبّ تارة أخرى.
تحقق لإثيوبيا ما أرادت في فرض الأمر الواقع على دولتي المصبّ، مصر والسودان، ودشّنت السدّ أخيراً. وتبدو الخيارات المصرية محدودةً، فرفع شكوى إلى مجلس الأمن بعد تدشينه بيوم ليس كافياً، بل كان ينبغي على القاهرة ممارسة أقصى الضغوط الدبلوماسية قبل اكتماله، فضلاً عن افتتاحه على مرأى ومسمع من العالم في التاسع من الشهر الجاري، بينما السودان تكفيه مشاغله مع مليشيا الدعم السريع، ولا تهمّه حتى لو انفجرت مفايض السدّ على القرى والبلدات الحدودية وابتلعتها عن آخرها، فالانهيارات الأرضية في كردفان، التي أدّت إلى مقتل ألف سوداني، كانت كارثةً لم يسبق لها مثيل، لكنّها مرّت من دون أن تثير صخب العالم ولا انتباه الأشقاء العرب. ولهذا، فإن مصر والسودان أمامهما خياران فقط، إمّا قبول دعوة رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي محمود علي يوسف، الذي قال في كلمة له في افتتاح سدّ النهضة: “إن أفضل سبيل لحلّ هذه المسألة بين الدول الثلاث هو الوسائل الدبلوماسية وطاولة المفاوضات، وعلى أساس اتفاق المبادئ الموقّع في الخرطوم عام 2015”. وفي حال بادرت حكومة أبي أحمد لفتح باب الحوار وبذل مزيد من الجهود لإقناع دولتي المصبّ بالتفاوض معها، يمكن أن يوفّر ذلك أرضيةً مشتركةً للحوار والتفاوض في ما يتعلّق بتشغيل السدّ والرقابة الفنّية، لرأب الصدع والتوتّرات الإقليمية، أو التوجّه نحو خيار التصعيد وعدم الجلوس مع إثيوبيا من دون توفّر ضمانات حقيقية لإدارة ملفّ السدّ، وهو ما قد يقود المنطقة إلى شلّال من الدماء ومحاولات جديدة لإعادة تدوير الخراب، والعبث بالجغرافيا السياسية للمنطقة.
أصبح مصير الأمن المائي لكلٍّ من السودان ومصر رهناً بسدّ النهضة الإثيوبي
لافت أن مشروع سدّ النهضة لن يكون مجرّد محطة توقّف دائمة للطموح الإثيوبي الآخذ في الاتساع والنفوذ في المنطقة، بل كان جسّ نبض، ورسالة مثل مذكّرة التفاهم الموقّعة مع أرض الصومال، وكانت باختصار ورقة استفزاز إلى دول المنطقة، وفي مقدّمتها مصر، فأبي أحمد أعلن بلا تردّد أن هناك المزيد من المشاريع التي ستُقبل عليها إثيوبيا، ومن ضمنها إقامة سدود مائية جديدة، ما سيضعف جريان المياه وتدفقاتها. كما أن قضية الوصول إلى منفذ بحري حضرت وبقوة في جلّ تصريحاته في الفترة الماضية، وهو ما يعني أن إقليم القرن الأفريقي لن يبقى كما هو من دون وجود منفذ بحري لإثيوبيا، فنظرية إعادة تشكيل الإقليم من جديد، بعد نحو ثلاثة عقود، تتردّد راهنا في الأروقة الإثيوبية، فأنظار أديس أبابا تتجّه نحو ميناء عصب الإرتري باعتباره حقّاً تاريخياً انفلت في لحظة ما نتيجة خطأ جيوسياسي تاريخي ارتكبته القيادات الإثيوبية السابقة بعد إعلان إرتريا الاستقلال عام 1994، لكن الأخطاء الاستراتيجية نفسها ارتكبتها القاهرة في قضية التعاطي مع ملفّ سدّ النهضة، فمصر كانت حاضرةً وبقوة في المشهد منذ التسعينيّات، لكن في أعقاب التوغّل الإثيوبي في الصومال عام 2006، تراجعت مصر كثيراً، تراجع ازداد عمقاً حتى أخمص أقدامها في وحل انشغالها بثورات الربيع العربي عام 2011، وهي الفترة التي وجدت فيها أديس أبابا الفرصة سانحةً لبدء مشروع سدّ النهضة. ومنذ ذلك الحين، اتبعت إثيوبيا استراتيجية المناورات الدبلوماسية التي لا جدوى منها، وفي الكواليس عمل شاقّ وآليات تحفر الأرض وعمّال لا يتوقّفون عن العمل ليل نهار بلا كلل أو ملل، حتى رأى السدّ النور أخيراً.
مصير الأمن المائي للسودان ومصر بات رهناً بسدّ النهضة الإثيوبي أكثر من قبل، ولا سيّما في حالتي الفيضان والجفاف، فكلّما امتلأ السدّ عن آخره انسكب فائض الماء عبر المفيضات، وكلّما قلت الأمطار الموسمية حبست المياه في خزاناته التي تتّسع لنحو 74 مليار متر مكعّب. لكن تبقي آمال الكادحين والفلاحين المصريين معلّقة على بحيرة ناصر (550 كيلومتراً)، لتروي ظمأهم وحاجاتهم من المياه عدّة سنوات على الأقلّ، حتى في حال حدوث أزمة جفاف خانقة. وكذلك بحيرة سدّ الروصيرص بالنسبة إلى السودانيين. لكن ذلك لا يكفي ليوقف التوتّرات حول أزمات مياه مقبلة منفذاها نهر ومحيط في القرن الأفريقي.
المصدر: العربي الجديد