تراجع مؤشر الجهود الدولية برعاية الادارة الأميركية والبنك الدولي، لإيجاد حل للنزاع المصري – الأثيوبي حول سد النهضة، بعد أن فاجأت أثيوبيا بقية الأطراف، ورفضت ارسال ممثل عنها الى واشنطن في 12 فبراير الماضي ، لمناقشة الصيغة النهائية للاتفاق على خطة ملء خزان السد بدون إضرار بدولتي المصب مصر والسودان ، وهو الاتفاق الذي توصلت له الأطراف الثلاثة برعاية ووساطة أميركية رفيعة ، وكان مقررا توقيع الاتفاق في نهاية فبراير ، ولكن اديس ابابا تراجعت عن التزامها لمصر , وللرئيس ترامب ، وأصدرت بيانا (اتهمت فيه الادارة الاميركية بالضغط عليها لصالح مصر ، وهو أمر يخالف دورها كمراقب فقط ). ولم تكتف أثيوبيا بهذا، بل طلبت تدخل الاتحاد الافريقي بدلا من الوساطة الأميركية. ولاحظ المراقبون أن رئيس الحكومة الاثيوبية لجأ الى استثمار النزاع في سوق الانتخابات الداخلية، وطرحه كقضية قومية تتعرض للتهديد الخارجي، وأن (آبي أحمد) يدافع عن الحقوق المائية القومية لبلاده، مما أكسبه رصيدا شعبيا كبيرا.
بالمقابل نقلت القاهرة القضية الى الجامعة العربية، طالبة دعم الدول الشقيقة، فأصدر مجلس وزراء الخارجية العرب في دورتهم الأخيرة قرارا بدعم مصر في نزاعها، إلا أن المفاجأة المثيرة تمثلت في موقف السودان إذ اعترضت على قرار مجلس الجامعة، واقتربت من الموقف الأثيوبي. وبالطبع استفز موقف الجامعة أديس أبابا، ورأت فيه انحيازا أعمى يقوم على عداء مسبق لها، وقالت إنه يعقد الخلاف ويسيسه، ويحوله بؤرة توتر. وشنت حملة سياسية وإعلامية هوجاء ضد مصر والعرب، واتهمت القاهرة باللجوء لتهديدها بالقوة، والدفع الى عسكرة الأزمة.
وقال محللون إن التقارب السوداني الأثيوبي سببه رغبة الخرطوم بالانتقام من مصر بسبب النزاع على حلايب. وقال محللون سودانيون إن من حق بلادهم كدولة مستقلة اتخاذ موقفها بحسب مصالحها، وتوظيف كل الأوراق المتاحة لها لاسترداد أراضيها التي تحتلها مصر! وتنبأ بعضهم بأن تقف السودان مع اثيوبيا في حال نشب صراع مسلح مع مصر. أما الموقف الرسمي للسودان فهو قائم على حجة أن سد النهضة مشروع اقتصادي لا سياسي ، وترفض تسييسه، وعسكرته ، وأن اثيوبيا كمصر جارة وشقيقة للسودان ، وعليها الحفاظ على العلاقات الحسنة مع الدولتين ، خصوصا أن النظام السوداني السابق أبرم اتفاقا للتعاون الاقتصادي في مجالات عديدة ، أوصل علاقات البلدين درجة التكامل بينهما ، كما أوصلها على الصعيد العسكري الى تحالف اثيوبي – سوداني ضد مصر ، وكأن بعض السودانيين يجدون في الأزمة الحالية فرصة لتصفية حسابات قديمة ، ويتهمون القاهرة بفرض الوصاية على السودان منذ استقلاله 1956 !
وقال آخرون إن السودان مستفيدة فعلا من سد النهضة وليست متضررة منه كمصر، فهو يوفر لها الكهرباء، وامكان اقامة مشاريع اقتصادية على الحدود، وينظم تدفق المياه اليها، وحصتها كبيرة تفيض عن حاجتها لأن لديها أنهارا عديدة. ويبدو أن أثيوبيا عملت مسبقا لكسب السودان الى جانبها بغرض عزل مصر، استعدادا لمواجهة قادمة حتما، لأن اثيوبيا تصرفت منذ بداية الأزمة بشكل منفرد غير مكترثة بموقف مصر. وعلى الرغم من تدخل الولايات المتحدة وسيطا بين البلدين إلا أن اديس ابابا عادت الآن لرفض الوساطة الاميركية، والتصرف منفردة، وكأن النيل ملكية خاصة، وبدون مراعاة مصالح ومخاوف وتحفظات مصر، وترد على تهديداتها بتهديدات مضادة.
على هذا المنوال تتوالى الأفعال وردود الافعال من الجانبين، رافعة درجة التوتر بينهما الى حافة صراع عسكري. ويرى مراقبون أنه لو كان للدولتين حدود مشتركة، لوقعت الحرب فعلا. ويبدو أن كلا من الدولتين تحاول حشد الحلفاء من الدول المجاورة، أو الدول الكبرى، ويخشى المصريون أن تكون الأزمة مخططة لتهديد مصر في أمنها القومي المائي، وأن تكون أثيوبيا مخلبا لدول أخرى، ويشير بعض المصريين الى اسرائيل، بينما تلتزم هذه الحياد رسميا بين دولتين تربطها بهما علاقات جيدة، ولا يعقل أن تغامر اسرائيل بخسارة مصر، لأن السلام القائم معها يمثل ركيزة قوية للأمن الاسرائيلي في محيطها العربي.
بعض أركان الدولة والنظام في مصر يصورون الأخطار الناجمة عن سد النهضة بأنها تبلغ درجة التهديد الاستراتيجي، من نوع حياة أو موت لمصر، لأن اثيوبيا أقامت حتى الآن ستة سدود وستقيم ثلاثة اخرى اضافة للنهضة (10 سدود) مما يضاعف حجم الأخطار ويهدد الزراعة تهديدا حقيقيا عاجلا لا آجلا.
ويقول معتدلون من الجانبين أن المشكلة نشأت عن شكوك مسبقة متبادلة ومزمنة. وأنه كان عليهما تكوين تجمع يضم كل الدول المشاطئة للنيل (11 دولة) للتعاون الاستراتيجي والتنمية بينها، ليكون النيل شريانا للتقريب بين الدول، وعاملا مساعدا للتعاون الجماعي بحيث تعود فوائد السدود والتنمية على الجميع، بشكل يراعي مضار وفوائد أي مشروع. وللأسف اضعفت مصر موقفها بنفسها، وكان بإمكانها الضغط على أثيوبيا لتأخذ تحفظاتها جديا، لأن بعض الدول العربية استثمرت ومولت في سد النهضة (كالإمارات والكويت) كما أن السعودية مهددة أيضا من السد وكان يمكن التعاون معها ضد اثيوبيا. إلا أن غفلة القاهرة عن هذه المسائل، ويقظتها المتأخرة، جعلت موقفها ضعيفا، لأن اثيوبيا ملأت 70% من الخزان، وصار بإمكانها فرض كلمتها على مصر، وأن تقول (مصر هبة اثيوبيا لا هبة النيل) وتتصرف كأن النيل نهر اثيوبي لا نهر دولي.
بعض المصريين تذكروا قولا للرئيس انور السادات: إذا كنا سنموت عطشا بسبب تهديد اثيوبيا وتحكمها بالنيل، فلن نتردد في الذهاب الى اثيوبيا لنموت هناك ونحن نقاتل!
المصدر: مجلة الشراع اللبنانية