
الحلقة الرابعة
الفصل الثالث
لم تكن بحمدون بالنسبة إلى عمر حسين حرب محطة دراسية عابرة، بل كانت المكان الذي اشتدت فيه ملامح شخصيته الأولى: صلابته، حسّه القومي، كبرياؤه الفطري، واستعداده المبكر للقيادة. هناك، على ارتفاع يعانق الغيم، بدأت الأسئلة الكبرى تتفتّح في داخله.
1. المعهد العربي في بحمدون… الفسيفساء الأولى (1958–1960)
التحق عمر حرب بالمعهد العربي في بحمدون أواخر الخمسينات، في زمنٍ كان فيه الجبل يموج بالأفكار العروبية، وتتداخل فيه تأثيرات الوحدة المصرية–السورية التي وُلدت سنة 1958.
كان المعهد، بإدارة الأستاذ خليل خيرالله، مدرسةً حيّة أكثر منه مؤسسة تعليمية. تتجاور فيه الخلفيات: طلاب من لبنان وسوريا والعراق والأردن، وأبناء القرى الجبلية، يشكّلون معًا مشهداً مصغّرًا للعروبة المتخيّلة.
من بين زملائه الذين بقيت أسماؤهم محفورة في ذاكرته:
عدنان حرب، جورج صابونجي، سمير أبو زيد، فوزي عبد الرزاق، خليل الخليل، ونصري الصايغ الذي سيحمل لاحقًا قصة وفاء مؤثرة.
أمّا أبرز الأساتذة فكان هاني أبو مصلح، معلّم اللغة العربية الذي لم يدرّس النحو فقط، بل درّس معنى العربية وهوية أصحابها.
لحظة المعجزة… درسٌ غيّر مساراً
في إحدى الحصص، سأل الأستاذ هاني الطلاب عن معجزات الأنبياء.
قال أحدهم: معجزة موسى عليه السلام أنه شقّ البحر.
وقال آخر: ومعجزة عيسى عليه السلام أنه يبرئ الأكمه والأبرص.
وعندما جاء دور عمر، قال بجدّيته المعتادة:
> “معجزة النبي محمد ﷺ أن الغمامة كانت ترافقه من مكة إلى بلاد الشام.”
توقّف الأستاذ، وقام من مقعده، ثم قال بصوت جهوري:
> “يكفي محمدًا أن تكون معجزته القرآن… لغة الضاد يا عمر!”
كانت تلك الجملة منعطفًا. جعلته يدرك أن العربية ليست درسًا، بل قدرٌ وانتماء.
حادثة التنمّر… أوّل مرّة يظهر معدن الفتى
بعد وفاة عمر بوقت وجيز، اتصل الصحافي والكاتب الكبير نصري الصايغ بابنه حسين، معتذرًا عن عدم قدرته على الحضور للتعزية بسبب المرض، وروى له حادثة لا ينساها:
> “كنت خجولًا، منطويًا… وكان بعض الطلاب يتنمّرون عليّ.
وحده والدك وقف في وجوههم، نهرهم، ودافع عني.
تغيّرت شخصيتي يومها… لأن في ظهري كان يقف عمر حرب.”
كان ذلك أول دليل على كره عمر العميق للظلم… وأول بذرة لرجولة مبكرة.
2. وحدة 1958… الشرارة التي أشعلت القلب
كانت بحمدون في تلك السنوات تغلي.
المدارس والمقاهي والممرات ترفع صور جمال عبد الناصر.
الطلاب يهتفون: “وحدة… وحدة… وحدة”.
وراديو المعهد يصدح بخبر ميلاد الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958.
تسلّل هذا المناخ إلى روح عمر. شعر لأول مرة أن هناك أمة تُبعث من جديد.
زيارة دمشق 1960… “كرامتكم بالسلة!”
عام 1960، كان عبد الناصر يزور دمشق. تقدّم عمر وصديقه جورج صابونجي بطلب رسمي للمدير للسماح للطلاب بزيارته. قرأ المدير الطلب… ثم رماه في سلّة المهملات.
خرج عمر وقال عبارته التي أصبحت مثلًا:
> “كرامتكم صارت بالسلة… بدنا نرجّعها!”
قاد مجموعة من الطلاب ونزلوا بالفعل إلى دمشق، متحدّين قرار الإدارة.
عادوا ليجدوا مجلسًا تأديبيًا صوريًا: قاضٍ من الطلاب، مدّعٍ عام من النظار، وإنذار شديد اللهجة…
لكن المدير، في داخله، كان فخورًا بهم كما كان واضحًا في نظرته الأخيرة لهم.
3. الانفصال 1961… خذلان بحجم حلم
في سبتمبر 1961، وقع الانفصال بين مصر وسوريا.
تلقّى عمر الخبر وهو في بلدته المرج خلال إجازة مدرسية.
كان الألم عميقًا… كأن حلمًا شخصيًا تحطّم.
لكنه لم ينكسر. تحوّلت الصدمة إلى غضب، والغضب إلى فعل.
حادثة “خط الشام”… أول اعتقال
كان عمر يقود دراجته وعلى المقعد خلفه صديقه نزيه ياسين جراح قرب الطريق الدولي.
عند دكان أبو صابر عراجي بالقرب من طريق بيروت الشام في بلدة برلياس، سمع أن سيارات السفارة المصرية تقلّ الموظفين الوحدويين المطرودين من سوريا.
لم يحتمل المشهد.
بدأ يوقف السيارات التابعة للنظام الانفصالي، يجبرالسائقين التابعين للنظام السوري انذاك على الهتاف لعبد الناصر.
من يرفض… تنهال عليه الشتائم من الناس.
تحوّل المكان إلى مظاهرة عفوية.
حضرت الشرطة، فاعتقلت عمر ورفاقه.
قضى يومين في مخفر شتورا وخرج… مختلفًا: أكثر صلابة، وأكثر وعيًا بثمن الموقف.
4. إلى مصر 1962… الرحلة التي تبدأ من البحر
عام 1962، قرر إكمال دراسته الثانوية في مصر.
يروي عمر رحلته الأولى كأنها أمس:
ذهب مع شباب من بلدة المرج إلى ميناء بيروت.
كان بينهم:
– علي القاق
– منير درويش
– عمر نفسه
ركبوا على ظهر باخرة ركاب، واقفين لساعات يراقبون البحر يتسع وراءهم.
عند وصولهم إلى ميناء الإسكندرية، تابعوا إلى القاهرة، حيث استقبلهم صديقهم سمير درويش (الذي سيصبح من أهم المخرجين في تلفزيون لبنان).
أقاموا أولًا في شقته في منطقة الجلاء، ثم استأجروا شقة كبيرة تتسع للجميع في منطقة العجوزة قرب المدرسة التي أنهى فيها عمر الثانوية.
وسيصبح رفاق الرحلة لاحقًا أصحاب مسارات لافتة:
– علي القاق: رئيس الدائرة الاقتصادية في جامعة الدول العربية.
– منير درويش: أحد أبرز مفتشي الضمان الاجتماعي.
– سمير درويش: من أعمدة التلفزيون اللبناني.
5. الجامعة في بيروت… ورفيق الحريري قبل أن يصبح رفيقًا للبنان
عاد عمر إلى لبنان ليلتحق بـ جامعة بيروت العربية – كلية التجارة.
وهناك التقى بالطالب رفيق الحريري.
كانت بينهما علاقة احترام، لا ملازمة يومية.
بحث الإدارة العامة
كلّفهـما الدكتور الهواري ببحث مشترك.
اجتمعا مرتين في مسكن الحريري في منطقة بربور على كورنيش المزرعة، قدّما البحث، ثم تفرّق الطريق بهما.
بعد سنة، التقى عمر بالحريري صدفة. قال له الأخير:
> “أشتغل بالسفارة العراقية نهارًا… وبدرس في معهد المحاسبة ليلًا.”
كانت تلك آخر لقاءاتهما قبل أن يصبح الحريري اسمًا يملأ السمع والبصر.
تفصيل اكتشفه عمر لاحقًا
علم بعد سنوات أن الحريري نقل زوجته (أم بهاء وسعد وحسام) إلى بعلبك وأقامها عند عبد القادر معصراني، صديق عمر. لم يعلم بالأمر إلا لاحقًا.
الذاكرة التي انفتحت في السبعينات
في أواخر السبعينات، سأل عمر صديقه مصطفى سعد:
“من هو الرجل الذي اشترى مرفأ صيدا وكفرفالوس واهدىطائرة خاصة للرئيس سليم الحص بالطبع قبلها الرئيس الحص واعطاها للدولة اللبنانية لانه لا يستطيع دفع رسوم ارضيتها في مطار بيروت.
فأجابه:
“إنه رفيق الحريري… ابن صيدا.”
فعاد عمر إلى ذكرى الطالب المكافح الذي عرفه يومًا.
6. المواجهة الأولى… رشق موكب بورقيبة
عندما هاجم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة جمال عبد الناصر في محاضرة بلبنان، اهتزّت الجامعة.
في اليوم التالي، توجّه الطلاب العروبيون، ومنهم عمر، إلى طريق المطار.
ورشقوا موكبه بالبيض، يهتفون لعبد الناصر.
كانت تلك أول مواجهة سياسية علنية في حياة عمر… ولن تكون الأخيرة.
المصدر: صفحة جمال حرب


