
في ظل الأزمات السياسية والإنسانية التي تعيشها سوريا اليوم، شهدت بعض المناطق الساحلية في الآونة الأخيرة مظاهرات حملت مطالب قد تبدو مشروعة للبعض، لكنها في الواقع تعكس تحديات كبيرة تهدد مستقبل الوطن ووحدته. من بين هذه المطالب كانت الدعوة إلى الفيدرالية، والإفراج عن أفراد تم إدانتهم بارتكاب مجازر ضد الشعب السوري، إضافة إلى غياب رمزية وطنية أساسية، وهي العلم السوري، وكذلك إطلاق شعارات طائفية تنذر بمزيد من الانقسام بين مكونات الشعب السوري. ومن ناحية أخرى، هناك مطالب محقة تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تُعالج بشكل عاجل.
المطالب المحقة: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
في ظل الوضع الراهن، لا يمكن تجاهل المطالب المحقة التي يرفعها بعض المحتجين. فالمعاناة الاقتصادية التي يعيشها السوريون، لاسيما في المناطق الساحلية، تستحق اهتمامًا جادًا. فارتفاع الأسعار، تدهور الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى البطالة وفقدان الأمل في المستقبل، كلها مشاكل تتطلب حلولًا عاجلة. المطالبة بتحسين الظروف المعيشية وتوفير الخدمات الأساسية هي مطالب مشروعة تنبع من حق السوريين في العيش بكرامة وفي بيئة آمنة ومستقرة. من غير المقبول أن يظل المواطن السوري في حالة من الفقر والحرمان، في وقت تتفاقم فيه الأزمات الاقتصادية في البلاد. ومن الواجب على الحكومة والمجتمع الدولي الاستجابة لهذه المطالب والعمل على توفير الدعم اللازم لتحسين الوضع.
المطالب غير المحقة: الفيدرالية وإعادة تأهيل المجرمين
لكن بعض المطالب التي رُفعت في هذه المظاهرات هي مطالب غير محقة وقد تُسهم في زيادة التوتر والانقسام. أولًا، دعوة بعض المتظاهرين إلى الفيدرالية قد تفتح الباب أمام المزيد من التفتيت والتقسيم. في دولة مثل سوريا، التي تشهد تنوعًا طائفيًا وعرقيًا شديدًا، قد تؤدي الدعوات إلى الفيدرالية إلى تقسيم البلد إلى كيانات متناحرة. لا يمكن أن تتحقق الاستقرار والتقدم في سوريا إذا استمرت دعوات الفيدرالية التي ستزيد من الانقسامات الطائفية وتعزز العصبيات العرقية. بدلاً من ذلك، يجب التركيز على تعزيز الوحدة الوطنية وبناء مؤسسات ديمقراطية تضمن حقوق جميع المواطنين، دون تفرقة أو تقسيم.
أما المطالبة بالإفراج عن الأشخاص الذين تم إدانتهم بارتكاب مجازر ضد الشعب السوري في فترة النظام البائد، فتعد خطوة غير مقبولة. كيف يمكن للسوريين أن يحققوا العدالة والمصالحة الوطنية إذا تم تبرئة الجلادين وإعادة تأهيلهم؟ هذا لا يعزز المصالحة الوطنية، بل يعيد فتح جروح الماضي ويزيد من الانقسام بين أبناء الشعب. العدالة لا يمكن أن تتحقق إذا تم التغاضي عن الجرائم التي ارتكبت بحق الأبرياء، ويجب على الجميع أن يرفض هذه المطالب التي لا تخدم إلا المصالح الضيقة.
غياب العلم السوري: رمزية وأبعاد سياسية
ما يثير الاستفهام أكثر هو غياب العلم السوري عن العديد من الاحتجاجات. العلم السوري ليس مجرد قطعة قماش، بل هو رمز للوحدة الوطنية. على مر عقود، كان العلم السوري يرمز إلى وطن واحد يجمع جميع السوريين تحت راية واحدة. غياب العلم في هذه المظاهرات يطرح تساؤلات عميقة حول النوايا الحقيقية وراء الاحتجاجات: هل هي مطالبة بتغيير حقيقي من أجل سوريا ككل، أم أنها مجرد دعوة لتفكيك الوحدة الوطنية خدمة لمصالح خاصة؟
إن رفع العلم السوري في المظاهرات هو تعبير عن التزام بمبدأ المواطنة المشتركة. هو تجسيد لمفهوم أن سوريا هي وطن واحد لجميع السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو العرقية. عند غياب هذا العلم، يصبح من الصعب التأكد من أن المظاهرة تمثل المطالب المشروعة لجميع السوريين، وليس فئة معينة.
الشعارات الطائفية: خطر إضافي على الوحدة الوطنية
من بين أخطر ما شهدته هذه المظاهرات هو ارتفاع الشعارات الطائفية التي تهدد وحدة الشعب السوري. هذه الشعارات لا تسهم في التغيير البناء الذي يسعى إليه السوريون، بل تعزز من العصبية الطائفية والعرقية وتزيد من الانقسامات في المجتمع. في الوقت الذي يجب فيه على السوريين أن يتوحدوا من أجل بناء وطنهم، تأتي هذه الشعارات لتغذي الحقد والكراهية، وتعيد فتح جروح الماضي.
الشعارات الطائفية تهدد بتفكيك النسيج الاجتماعي السوري، الذي كان على مدى عقود نموذجًا للتعايش بين مختلف الطوائف. إحياء هذه الشعارات يفتح الطريق أمام عودة الصراعات الطائفية التي دمرت البلاد في السنوات السابقة. سوريا التي نتمنى أن نراها في المستقبل هي سوريا موحدة، قائمة على العدالة والمساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
الوحدة الوطنية أولًا: سوريا المستقبل
إن التحدي الأكبر اليوم أمام السوريين هو تجاوز الانقسامات والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية. الطريق إلى سوريا المستقبل لا يبدأ بتقسيم الأرض أو إحياء الفتن الطائفية، بل يبدأ من تعزيز الهوية السورية الجامعة لجميع السوريين. يجب أن تُبنى سوريا المستقبل على أسس من العدالة والمساواة، مع تأكيد احترام حقوق كل فئة من فئات الشعب السوري، لكن دون التفريق أو التفرقة بين أحد.
إذا كنا نريد سوريا موحدة، يجب أن نتمسك بمبدأ المواطنة المشتركة ورفع العلم السوري الذي يرمز إلى هذا الهدف. في اللحظة التي نتجاوز فيها الشعارات التي تدعو إلى الفيدرالية أو التقسيم، وفي اللحظة التي نعود فيها إلى الوحدة الوطنية، سنتجاوز العديد من الأزمات التي تعصف بنا.
إظهار حماية الأمن للمظاهرة
من المهم أيضًا الإشارة إلى دور الأمن في هذه المظاهرات. على الرغم من أن هناك بعض التجاوزات في بعض الأحيان، إلا أن القوات الأمنية غالبًا ما تحاول التعامل مع هذه الاحتجاجات بحذر واحترافية، في محاولة لحماية الأمن العام وعدم السماح بتحول المظاهرات إلى صراع أو فوضى. إن حماية الأمن للمظاهرات يجب أن تتم في إطار من الاحترام لحقوق الإنسان وحماية الممتلكات العامة والخاصة، مع ضمان الحفاظ على سلمية التظاهرات.
وفي الوقت ذاته، يجب أن نؤكد أن غالبية أهل الساحل السوري لا هم رهن المحرضين من الخارج، ولا يمكن أن يُختزلوا في مجموعات صغيرة تحاول خدمة أجندات ضيقة. الغالبية العظمى من السوريين في الساحل يرغبون في بناء وطنهم بسلام، بعيدًا عن أي تدخلات خارجية تسعى للهيمنة أو التفتيت. أهل الساحل السوري هم جزء من الشعب السوري الأكبر، وهم يريدون الاستقرار والأمن لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
الخلاصة
إن سوريا تحتاج اليوم إلى تجاوز أي أجندات تقسمها، وأن تركز على مصلحة الوطن بأسره. المظاهرات يجب أن تعبر عن مطالب شعبية حقيقية، ولكن في إطار من الوحدة الوطنية والعدالة والمساواة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بعيدًا عن العلم السوري الذي يمثل هذه القيم. فحتى التغيير السياسي يجب أن يكون في خدمة الجميع، دون استثناء، وأن يتم عبر حوار حقيقي بعيدًا عن الشعارات التي تفرق أكثر مما تجمع.
المصدر: صفحة يحيى الخطيب


