لمصر أولًا وأخيرًا

د- عبد الناصر سكرية

أثارت مناقشات مجلس الأمن الدولي حول قضية سد النهضة وما تلاها من تصويت وخيارات دولية، جملة حقائق تتعلق  بمصر وبالوضع العربي ما يزال يتجاهلها كثيرون من أبناء مصر والأمة العربية وتحديدًا أصحاب النفوذ فيها ونخبها المثقفة أو بعضهم على الأقل..
ففيما يبدو بوضوح شديد أن بناء سد النهضة مخالف للقانون الدولي الذي ينظم أوضاع وحصص المياه في الأنهار الدولية العابرة للدول بين منابعه ومصبه ، كما يخالف اتفاقية ١٩٠٢ التي أعطت بريطانيا بموجبها منطقة شنقول السودانية  -حيث يتم بناء السد –
إلى إثيوبيا لقاء عدم إقامة سدود على النيل الأزرق تضر بمصالح السودان ومصر المائية..
رغم هذا الوضوح في عدم شرعية بناء السد من وجهة القوانين الدولية ؛ إلا أن الدول الأعضاء في مجلس الأمن لم تقبل تحمل أية مسؤولية في مناقشة الأمر في المجلس المذكور..بل ساندت موقف إثيوبيا وعدوانها الذي يشكل تهديدا حياتيا مباشرا على شعبي مصر والسودان العربيين..
وهكذا تخلى مجلس الامن عن مسؤولياته وواجباته بالإمتناع عن إتخاذ موقف رادع لتجاوزات إثيوبيا بحق القوانين الدولية وأمن منطقة بكاملها..
كان اللافت موقف الصين التي إنحازت أيضا إلى الموقف الغربي والروسي ..
وبذلك تكون أثبتت مجددا أنها تنتهج خطا مصلحيا صرفا متناسقا مع الدور الإسرائيلي في إفريقيا ومع الرؤية الصهيونية للمنطقة العربية..
الصين صاحبة الإستثمارات الضخمة في دولة العدو الصهيوني منذ ما يقارب ربع قرن ، تنسق مواقفها السياسية مع هذه الدولة العنصرية لا سيما في أفريقيا والبلاد العربية ضاربة عرض الحائط بكل مصالحها مع العرب ..اما إتخاذها موقف المؤيد لسد النهضة الصهيوني الذي يستهدف مصر وجوديا ، فهذا يعبر عن مرحلة إنتقالية جديدة للعصر الصيني القادم لم يعطها أحد من العرب التقدير المسؤول اللازم..
أما الموقف الروسي فلم يكن غريبا ولا مفاجئا .. فروسيا المتحالفة مع دولة العدو الصهيوني والمتواطئة معها في كل البلاد العربية بدءا من سورية العربية ؛ اعلنت صراحة إلتزامها بالأهداف الصهيونية حيال البلاد العربية..وإذا كانت تحاول تغطية مشروعها في سورية بحجة مواجهة الإرهاب ؛ إلا أنها في قضية سد النهضة قد إتخذت الموقف السافر الصريح الذي يؤكد تحالفها مع دولة الإسرائيلي المعتدي المحتل وتنسيقها التام معها…
أما مبادرتها الفورية لعقد معاهدة دفاع مشترك مع إثيوبيا فهي تجسيد حي مباشر لتبعية السياسة الروسية الرسمية للسياسة الإسرائيلية وإعتراف واضح بالدور المناط بها صهيونيا لا سيما ما يتعلق بالبلاد العربية..وهو ما كان جليا ثابتا منذ تدخلت في سورية قبل سنوات..وها هو يسفر عن نياته العدائية العدوانية تجاه مصر تحديدا بعد سلسلة مواقف – وتقاربات مصلحية  – كانت تدعي صداقة مع مصر او غيرها من البلدان العربية ..فالمعاهدة وفي هذا التوقيت بالذات ، ليست فقط تأييدا لأثيوبيا بل تهديدا عسكريا مباشرا للسودان ولمصر على وجه التخصيص…وهي بذلك تتماهى تماما مع موقف الإسرائيلي الذي يقيم قواعد عسكرية صاروخية تحمي سد النهضة من اي تهديد مصري محتمل..
وعلى الرغم من أن هذا الإحتمال لا يزال ضعيفا بمعنى أنه لا شيء يشير إلى تفكير رسمي مصري بالتصرف الجدي حيال أزمة سد النهضة..فكيف بالإحتمال العسكري أي توجيه ضربة للسد في أحد مراحله او مقوماته لمنع أثيوبيا من إستكمال بنائه خاصة أنها بدأت المرحلة الثانية من ملء الخزان الأساسي وهي المرحلة الأخطر..
وعلى العكس من ذلك جاءت الجنازة العسكرية الرسمية عالية المستوى لجيهان السادات زوجة الرئيس أنور السادات صانع كامب ديفيد ومصنع الإنحراف الرسمي عن خط الإلتزام بمصالح مصر العليا وتسليم كل اوراق النفوذ ومفاتيح القرار والسلطان للولايات المتحدة الأمريكية التي تلتزم أولا بحماية أمن ” اسرائيل ” ومصالحها بل وسيادتها على كل المنطقة..
جنازة عسكرية لإمرأة ليست لها أية صفة رسمية ولا تكتسب أية شهرة وطنية بإستثناء أنها من المبخرين المطبلين للصهاينة ومشروعهم الإستعماري وأطماعهم في مصر أولا وفي المنطقة ثانيا…مما حمل كثيرين من المراقبين والمحللين العسكريين الإستراتيجيين لإعتبار هذه الجنازة بمثابة إستخفاف متعمد مقصود بالجيش المصري وتوجهاته ووجهة توظيفه…الامر الذي أثار إستهجان بل وإستنكار معظم الوطنيين المصريين الذين ينظرون إلى الجيش المصري بإعتباره المؤسسة الوطنية التي تتعلق عليها آمال حماية مصر بل وإنقاذها من أية أخطار مباشرة أو غير مباشرة..
وإذا أخذنا في الإعتبار توقيت الجنازة والظروف التي تمر بها مصر وما تواجهه من أخطار وتحديات وجودية ليس سد النهضة هو وحيدها ، فإنها لا شك تشير – حسب المراقبين – إلى أن قيادة الجيش والدولة المصرية التي قررت الجنازة وشاركت فيها على أعلى المستويات ليست في وارد إستخدام القوة العسكرية لحماية شعب مصر من أخطار سد النهضة..ثم أن دفن المتوفاة في مقر نصب الجندي المجهول يزيد في إمعان الإستخفاف بالمؤسسة العسكرية وفي كل فكرة الجندية الوطنية وما تحمله من معاني الفداء والتضحية في سبيل الشعب والوطن…فأين جيهان أنور السادات من هذه المعاني وماذا قدمت لمصر وشعبها من تضحيات وبماذا افتدتهما حتى تدفن مع الجندي المجهول ؟؟ أليس هذا إستخفاف بمعاني الفداء ذاتها وبمعاني الولاء للوطن ذاته ؟؟
المعضلة أيضا أن التصريحات الرسمية المصرية لا تشير الى  تعامل بالجدية اللازمة مع القضية المصيرية التي يتعلق بها مستقبل الشعب المصري وحياته برمتها…إذ النيل هو عصب الحياة في مصر كما يعرف الجميع..
ووما لا شك فيه أن المواقف الرسمية باتت من الوضوح بحيث تشير الى توجه رسمي بقبول مفاعيل سد النهضة وتداعياته على الحياة في مصر…وهو قبول مرفوق بتوجهات توافقية نحو الرؤية الإسرائيلية لمجمل موضوع المياه في المنطقة ولموضوع النظر الى مصر بإعتبارها العدو الأول والأكبر والأخطر للمشروع الصهيوني…وما التصريحات السابقة والحالية بخصوص التوجه الى تحلية مياه الصرف الصحي كبديل عن مياه النيل إلا تأكيد على هذا التوجه الرسمي..وعلى الرغم من التكاليف الباهظة لمعالجة مياه الصرف الصحي فإنها لن تكون صالحة للاستعمال الآدمي..فضلا عن أنها لن تسد أكثر من نسبة ضئيلة جدا من مياه النيل المنهوبة من حصة مصر في مياه النيل الطبيعية …ثم أي عاقل يستغني عن مياهه الربانية الصافية الطبيعية ليستبدلها بمياه آسنة غير صالحة للشرب وبتكلفة عالية مرهقة..
وإذا عرفنا أن الشركات الإسرائيلية هي التي تعرض وتقدم الخبرة والتقنية لمعالجة مياه الصرف الصحي ندرك الأبعاد الخطيرة لمثل تلك المواقف الرسمية على مصالح مصر فيما تسهل لدولة العدو الصهيوني تمرير مصالحها ومشاريعها الإستعمارية العدوانية في مصر والمنطقة ؟؟
والأخطر من هذا الجانب التجاري المصلحي فأن قضية جر مياه النيل لتزويد الكيان الصهيوني ومستعمراته بها ، لم تعد خفية ولا خافية على أحد…فمن مشروع ترعة السلام الذي طرحه أنور السادات مترافقا بالتنازلات المهينة الخيانية لإتفاقيات كامب ديفيد وصولا إلى الكلام الكثير الذي قيل ويقال في هذا الموضوع مرورا بقناة توشكا وتفريغ سيناء وتوصيل المياه إليها مرورا بالتبني الصهيوني الكامل لسد النهضة وحمايته عسكريا ؛ فإنها جميعا تدلل على مشروع متكامل لحصار مصر وحرمانها من تغذيتها المائية الحياتية ومن ثم تهديدها بالتعطيش والجفاف تحصيلا لرضوخ تام فضلا عن تجويع وتركيع طويل المدى جدا..
وإذا أضيفت الى هذه الامور إجراءات رسمية كثيرة متوالية منذ سنوات تصب في نهج تصفية القطاع العام وبيعه بأبخس الأثمان لرجال أعمال ليست لديهم أية توجهات أستثمارية وطنية وممن يرتبطون مصلحيا بأجهزة النفوذ الأجنبي ومؤسساته الدولية الإحتكارية ؛ فضلا عن الإستدانة من مصادر دولية خاصة وبفوائد عالية من أجل بناء مشاريع إستهلاكية أو ترفيهية لن يستفيد منها شعب مصر ولن يكون بإمكان غالبيته الساحقة من العثور على ما يخوله الإستفادة الحياتية منها ، فيما تتراكم ديون خارجية لمؤسسات دولية تزداد فوائدها السنوية بشكل تراكمي دون انتاج يغطيها بالمقابل ؛ لأمكن القول ؛ إتفاقا مع ما يقوله كثير من المحللين المصريين المخلصين بتوجهاتهم الوطنية وولائهم لمصر وشعبها ؛ أن مصر لا تتجه في خط سير سيؤدي إلى حل مشكلاتها الداخلية الإقتصادية منها والحياتية وحتى الأمنية..على المدى القريب والآجل..
كما أنها على ما يبدو لا تسير في إتجاه تعزيز قدراتها الذاتية المتنوعة وتقوية مناعاتها الشعبية ودفاعاتها العسكرية والثقافية والنفسية والإجتماعية..الأمر الذي يؤشر إلى خلل في نهج الآدارة الرسمية وطريقة تعاطيها أو حتى رؤيتها لما تحتاجه مصر ولما يتوجب على قيادتها من مسؤوليات جسيمة ينبغي معالجتها بطريقة مختلفة أكثر وعيا وآدراكا وأكثر حرصا على إعطاء الأولوية لمصالح الشعب المصري وإحتياجاته ودور مصر حفاظا على أمنها هي أولا قبل أي شيء آخر..
وإذا ذهبنا بعيدا مع المتشائمين الذين يرون ما يجري في بلاد المشرق العربي من إنهيارات للمؤسسات العامة وتفكك إجتماعي وتراجع معيشي مترافق بتراجعات قيمية أخلاقية تفتح المجال واسعا لكل التدخلات الخارجية بما فيها من أخطار على الوحدة الوطنية والاستقرار السكاني التاريخي للمجتمع وتغيير طبيعته السكانية الديمغرافية ؛ فهم يحذرون من أن مصر أيضا مستهدفة بمثل هكذا توجه تتبناه قوى النفوذ الأجنبي وفي طليعتها الولايات المتحدة والعدو الصهيوني وأدواتهم الإقليمية والمحلية..
لذلك يقتضي الإشارة الى تلك المخاوف والتنبيه الى خطورتها لعل المعنيين يتنبهون إن كانوا لا يعلمون أو يرتدعون إن تنبهوا أو يُردعون إن تقاعسوا..
إن قوة مصر بذاتها مطلوبة أولا لذاتها هي قبل أي أحد آخر..
إن لم تكن مصر حرة قوية معززة بإقتصاد صناعي إنتاجي فعال وبوحدة وطنية شعبية تترجم مشروعا وطنيا متماسكا ومتكاملا للمواجهة والصمود والبناء ؛ فإن الأعداء المتربصين جاهزون فاعلون وغير مستترين ..
وعلى العرب الذين لم يدركوا بعد تحالف روسيا مع اعداء الامة العربية مراجعة مواقفهم اذا كان ولاؤهم لأمتهم متحررا من أية إرتباطات مصلحية..أما  مواقف الصين فتحتاج الى معرفة اعمق بحقيقتها وخلفياتها سيما تنسيقها المعمق مع العدو الصهيوني.

المصدر: كل العرب

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى