
بعد استقلال السودان عن مصر سنة 1956 ، تسلمت السلطة في البلاد حكومة مدنية دامت أشهر معدودة فقط ، تخللها صراع شرس على السلطة بين الأحزاب السياسية خاصة حزبي الأمة والاتحاد الاشتراكي ، انعكس ذلك سلباً على الحياة الاقتصادية في البلاد ، دفع رئيس الوزراء عبدالله خليل إلى تسليم السلطة للجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود .
استمرت سلطة العسكر بقيادة إبراهيم عبود ثمان سنوات حتى سنة 1964 ، ساءت أحوال البلاد خلالها سياسياً وإدارياً وانتشرت مظاهر الفساد المالي وساءت الأحوال الاقتصادية ، واستاء الناس من حكم العسكر ، واشتعل الشارع بالمظاهرات مطالباً بالتغيير ، وفي أكتوبر 1964 أعلن إبراهيم عبود حل المجلس العسكري وإعادة السلطة للمدنيين .
سيطر الشيوعيون على الحكومة بادئ الأمر ، إلى أن تحرك أنصار الحركة المهدية بقيادة حزب الأمة وجرت انتخابات برلمانية دفعت حزب الأمة والاتحاد الاشتراكي للدخول في ائتلاف حكومي مشترك ، برئاسة الصادق المهدي ، إلا أن ولايته لم تستمر إلا عشرة أشهر ما بين 1966 و 1967 بسبب نشوء صراع جديد وتفكك الائتلاف الحاكم ، وأجريت انتخابات جديدة .
استمر تدهور الحياة السياسية فانعكس ذلك بشكل واضح على الحياة الاقتصادية .. للخروج من الأزمة اتفق حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي على الالتزام بمبادئ الدستور المؤجل ، وبدا أن السياسة الجديدة تتجه نحو الأسلمة والشريعة الإسلامية ، بمرحلة كان فيها تيار الإسلام السياسي مكروها في الشارع السوداني كالشارع العربي عموماً متأثراً بالناصرية والاشتراكية وحركة القومية العربية .
في 25 مايو 1969 ، قام العقيد جعفر النميري بانقلاب عسكري أطاح بحكومة الصادق المهدي ليعود البلد مرة ثانية إلى حكم العسكر .
انتفضت حركة أنصار المهدي فتصدى لها النميري عسكرياً ، وأودى الصراع المسلح بالآلاف من رجال حركة الأنصار، حتى قتل الإمام الهادي زعيم الحركة ، ونفي الصادق المهدي إلى خارج السودان في النصف الأول من عام 1970 ، وأحكم النميري قبضة سلطته العسكري بعد القضاء على حركة الأنصار ومنافسيه الشيوعيين ، وخاصة بعد أن تمكن من إحباط محاولة انقلابية شيوعية بقيادة الضابط هاشم العطا ، ومن ثم اعتقال العطا وإعدامه .
في النصف الثاني من سنوات حكم النميري الذي دام 16 سنة ما بين مايو 1969 ونيسان 1985 ) ، تقرب من الإسلاميين والحركة الصوفية على أمل التهدئة واستقرار نظامه ، مع ذلك حاول الإخوان المسلمين إشعال انتفاضة شعبية سنة 1973 ، واستمر صراعهم مع النميري ، إلى هدأت الأحوال واستقرت وتمكنوا من دخول مجلس الشعب سنة 1976 ، وبرز من بينهم حسن الترابي وتولى وزارة العدل .
في أواخر السبعينات مع صعود تيار الصحوة الإسلامية ، حاول النميري استغلال التيار الإسلامي ( الإخوان والأنصار والحركة الصوفية ) عمل على مصالحة الصادق المهدي سنة 1977 ، وفي عام 1983 أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد ، وخرج الإسلاميون بمظاهرات مليونية تأييداً ودعماً لنظام النميري ، مقابل انتقادات ساخنة في الجنوب ذو الأغلبية المسيحية .
تراجع النميري عن تطبيق الشريعة الإسلامية وفك تحالفه مع الإسلاميين باعتقال قادتهم وإيداعهم في السجون وعلى رأسهم حسن الترابي الذي كان بمنصب مساعد الرئيس للسياسة الخارجية ، وكان من قبل قد حل جميع الأحزاب السياسية باستثناء حزب الاتحاد الاشتراكي الحاكم .
انقلاب المشير سوار الذهب 6 نيسان 1985 :
أثناء المحاولة الانقلابية التي قام بها الشيوعيون بقيادة الرائد هاشم العطا بتاريخ 19 يوليو 1971 ، كان عبدالرحمن سوار الذهب قائداً للحامية العسكرية في مدينة الأبيض ، تصدى للانقلابيين ورفض تسليمهم المدينة ، مع ذلك بعد إفشال الانقلاب أقاله النميري وأصدر قراراً بنفيه خارج السودان ، فاختار التوجه إلى قطر ، وعينه الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني مستشاراً عسكرياً له . وفي عام 1975 سمح له النميري بالعودة إلى السودان وأعاده إلى الجيش وترقى إلى منصب رئيس هيئة الأركان ، ثم إلى وزير للدفاع والقائد العام للجيش قبيل أيام قليلة من انتفاضة الخرطوم بشهر آذار 1985 .
في شهر آذار 1985 انطلقت انتفاضة شعبية في العاصمة الخرطوم ، واتسعت رقعتها تباعاً لتمتد إلى باقي أقاليم السودان ، وفي صبيحة السادس من نيسان أعلن وزير الدفاع والقائد العام للجيش المشير عبدالرحمن سوار الذهب انحيازه للشعب ودعمه لمطالب الانتفاضة وقاد انقلاباً عسكرياً استولى من خلاله على كافة مفاصل السلطة ..
أعلن إيقاف العمل بالدستور وتعهد بإعادة السلطة للمدنيين بعد مرحلة انتقالية مدتها سنة واحدة .. في هذه الأثناء كان جعفر النميري في زيارة لواشنطن ، ومنها توجه إلى القاهرة لاجئاً سياسياً .
أفرج سوار الذهب عن كافة المعتقلين السياسيين ، وبعد أن استقرت الأمور للسلطة العسكرية استعادت الأحزاب السياسية نشاطها ، وعملت مع المنظمات والنقابات المهنية على تشكيل تجمعاً سياسياً موحداً استبعد فيه الإسلاميون .. في 22 نيسان وبدعم من سوار الذهب تشكلت حكومة انتقالية مؤقتة برئاسة نقيب الأطباء ” جزولي دفع الله ” .
نشطت الأحزاب السياسية بكل اتجاهاتها وألوانها ، الإسلامية واليسارية الشيوعية ، والقومية من الناصريين والبعثيين .. إقليم الجنوب ذو الغالبية المسيحية بزعامة جون جارينج عارض النظام الجديد واعتبره نظاماً نميرياً جديداً بدون نميري .
أعلن المجلس العسكري أهدافه وبرنامجه السياسي خلال المرحلة الانتقالية بترسيخ الوحدة الوطنية ومعالجة الأزمة الاقتصادية وإنهاء الحرب في إقليم الجنوب ، وتعهد سوار الذهب بإجراء انتخابات نيابية حرة وحل المجلس العسكري بنهاية المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة للقوى المدنية السياسية ، وتمهيداً للانتخابات أصدر قانوناً جديداً للانتخابات .
وفي السادس من نيسان 1986 أجريت انتخابات عامة استمرت 12 يوماً ، تصدر نتائجها حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي ، وبعدها أعلن سوار الذهب حل الحكومة المؤقتة وتكليف الصادق المهدي بتشكيل الحكومة الجديدة .
أعلن سوار الذهب الإيفاء بوعده في الموعد المحدد ، لم يتمسك بالكرسي وكان بإمكانه كغيره من جنرالات العسكر وأمثالهم على حساب مصلحة الوطن والأمة .. فاستقال وخرج من الحياة السياسية نهائياً ، بعد أن أرسى نظاماً مدنياً ديمقراطياً كامل الأركان والمواصفات ، لكن للأسف لم يستمر أكثر من ثلاث سنوات ، حيث أطاح به الإسلاميون بقيادة الرئيس المخلوع العميد عمر حسن البشير بتاريخ ـا 30 / حزيران / 1989 بانقلاب عسكري أطلق عليه ثورة الإنقاذ ، أطاح بحكومة الصادق المهدي ، وأعاد السودان إلى حكم العسكر بلون إسلامي هذه المرة ، وكان الانقلاب من ترتيب وإعداد وتخطيط وتنفيذ الجبهة الإسلامية القومية التي أسسها الدكتور حسن الترابي عام 1986 بعد انشقاقه عن جماعة الإخوان المسلمين .
توفي سوار الذهب في الثامن عشر من أكتوبر 2018 عن عمر ناهز الثالثة والثمانين ، ودفن في مقبرة البقيع في المدينة المنورة حسب وصيته … رحمه الله سجل نموذجاً عسكرياً سياسياً فريداً من نوعه بتاريخ العرب المعاصر .
المصدر: صفحة بشير حنيدي
قراءة دقيقة لمسيرة السودان منذ استقلالها رسمياً عن مصر سنة 1956 ، ومرحلة إنقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985 ، وتسليمه السلطة للشعب بعد استتباب الأمن والإنتخابات ، مسيرة مشرفة للمشير وبتنفيذه ما وعد به.