السودان في انتظار مَن لن يأتي أبداً

عمر العمر

                                                                                                     

دخلت حرب الحمقى السودانية مرحلة تناسل المآسي حدّاً يُخيم على الشعب والوطن فوق الإحباط السأمُ والضجر، فلم يعد مصدرُ الحزن وقفاً على أبرياء يحترقون بالنار وفقراء يدفعون الثمن. في ظلال الأطلال، تتفجّر بؤرُ أوبئةٍ تراكم أعداد الضحايا من البشر، الشجر والثدييّات. مع اللامبالاة تجاه مسبّباتها يتعاظم الرعبُ وسط المكلومين بأهوال الحرب. لا يدرك قيادات هذه الحرب الرعناء فصولَ المحن التالية مع التوغل في مستنقع الحرب. هم لا يعلمون أنه لم يعد في الإمكان تحقيق انتصار حاسم عقب الحرب الكبرى أخيراً، فإذا لم تستيقظ عقولهم وضمائرهم على ركام الدمار في مدن الاشباح لن يفيقوا على وقع الصدمات النفسية، الانكسارات الأخلاقية، وتصاعد معدّلات الجريمة واختلال الحال الاقتصادي. لم تعد كل هذه المظاهر السلبية حبيسةً داخل مرمى النيران.

***

مع ذلك، تأبى قياداتُ الحرب التسليمَ بأن الخروجَ من مستنقع الدم أفضلُ من التوغل فيه. وراء هذا الرفض مخاوفُ لا حصر لها على المستوى الشخصي والصعيد التنظيمي. كلُّ الشعارات المرفوعة فوق فوهات البنادق مِزقٌ خرقاء لا تستر عورات أصحابها. لو أن أحداً من قادة هذه الحرب يملك قبساً من تربية وطنية، أو ومضةً من الأخلاقيات العسكرية أو حفنةَ إحساسٍ بالمسؤولية أو قبضةً من عاطفةٍ إنسانية أو نطفةً من الفحولة السودانية، لما ارتضى توغلَ بنات الشعب وأبنائه في أُتون العذابات المحتدمة، فمن بين ما يزيد على عشرة شعوب تكابدُ ويلات حروب أهلية، يبدو السودانيون أكثرهم تعساً، فويلات التشريد القسري والتدمير الهمجي ووطأة التجويع المنهجي لا تكفي لتأطير مأساة شعب يتعرّض لمكايد غدر وخداع على رمالٍ متحرّكة من الخيانات.

تأبى قياداتُ الحرب التسليمَ بأن الخروجَ من مستنقع الدم أفضلُ من التوغل فيه

***

بينما ينشغل خيال بعضهم بنسج سيناريوهات لنهايات الحرب ينخرطُ قادتُها بدم بارد في رسم مخطّطات لتأجيجها. هم لا يعلمون أن أساتذة الاستراتيجيات العسكرية، ليس كخبرائهم الاستراتيجيين، استبعدوا تماماً فكرةَ تحقيق نصر حاسم في الحروب المعاصرة. من أبرز أؤلئك أستاذ العلوم السياسية في جامعة غلاسكو، سيان أودريسكول، إذ يصف “فكرة النصر في الحرب الحديثة ليست غير أسطورة”. هي رؤية تتناغم مع مقولة الفيتنامي باو نينة مؤلف “حزن الحرب”، وكأنه يوصّف الحالة السودانية، إذ يقول “في الحرب لا يفوز أحد أو يخسر، لا يوجد سوى الدمار”. يؤكّد المؤرّخ الأميركي فيكتور هانسون على الفارق الباهظ بين كُلف الحروب المعاصرة ونتائجها. في ضوء خلاصته، يمكن الاستدلال بحروب أميركا من فيتنام إلى أفغانستان والعراق، كما حروب إسرائيل الراهنة.

***

مهما حاول طرفا الاقتتال في السودان تزيين هذه الحماقة الخرقاء، بتلبيسها كساء النضال من أجل المهمّشين أو رداء الكرامة من أجل الشعب، فلن يخفف هذا وطأة الخيانة والخداع، فهي حرب قذرة أشعلها جنون الصراع المحموم على السلطة بين شركاء جمعت بينهم شهوة السلطة والثروة. هي حقيقة يعززها تورّط أطرافها في حماقاتٍ ليس أحطّها التقتيل قبل الثورة وبعدها. هي حقيقة يؤكّدها احتباس الجدل حول من أطلق الرصاصة الأولى، وليس من هو المسؤول عن إجهاض الثورة، وخرق السلم الوطني وهدم الدولة، فمحور الجريمة في حق الشعب والوطن هو من أهدر فرص دمقرطة الحياة، تنقيتها من الفساد، بسط قوة القانون والعدالة؟

كأنّما فات الأوانُ على ما يمكن تأمينه ضد التدمير والخراب السياسي والأخلاقي

***

صحيحٌ القول إن وراء الحروب الأهلية دوماً إقصاءٌ اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي. كما في متونها تمرّد عسكريٌّ، قبلي أو مناطقي. ولكن دعاوى التهميش زيفٌ لا يستقيم مع جرائم “الجنجويد” ضد قبائل مساكنة لحملة السلاح في دارفور؛ منبت الأزمة وموقد جمرها، بل على النقيض، تمتشق بعض قبائلها السلاح ضدهم، كما أن رجمَ “الجنجويد” بالتمرّد على الدولة خداعٌ لا يستقيم مع المديح العالي من الجنرالات قبل انفجار الصراع المكتوم على السلطة. صحيحٌ كذلك وجود فوارق مؤلمة وأخطاء فادحة في دارفور وأقاليم مغايرة على نحو يولّد التناقضات حد الصراع. ولكن ما كان ينبغي استثمارها وقوداً لحربٍ أهلية لا تستثني بشراً أو حجراً أو شجراً. هذه جرائم تنحت في صخر التاريخ براءة دولة 1956 المفترى عليها.

***

ما كان وقوع تلك الجرائم ممكناً في ظل حكومة راشدة، فارضة هيبتها على شعبها، باسطة سيادتها على أرضها. ولكن السلطة الانقلابية سليلةُ نظام فاسد، ظل يعتاش على تلك التناقضات، بل يعمد إلى تأجيجها. كما أن ما تسمّى سلطة الأمر الواقع هي ربيبة التمكين والإقصاء الأيديولوجي، القبلي والعائلي. ما يزيد العتمةَ ظلاماً انعدامُ بصيص من الأمل لإطفاء نار الحرب. الأكثر بياناً للعيان اتساع رقعة الإحباط مع تعدّد المعارك المتنقلة على مساحة الوطن. عجزُ طرفي الاقتتال عن حسم الحرب يضرم اليأس في نفوس الشعب البائسة، ويقحمُ مصيرَ الدولة برمتها في عين المجهول. ذلك مأزقٌ يستحكم مع بروز حكومتين تنقصهما الشرعية كما الفاعلية. كأنّما فات الأوانُ على ما يمكن تأمينه ضد التدمير والخراب السياسي والأخلاقي! تلك مهمةٌ لن ينهض بها متورّطون في التدمير، التهجير، التعذيب، انتهاك حقوق الإنسان، النهب، الاغتصاب، التقتيل، الإبادة.

إنتاج الباطل لا يُفرز حقاً، لكن الواقع القاتم أحطّ قدراً من كل باطل وأفدح بؤساً وأكثر إحباطاً وأشدّ إيلاماً

***

الاكتفاءُ بلعن الحرب لن يطفئَ نارها. الرهانُ على تدخّل خارجي حيلة الضعفاء. الخارج مثقلٌ بإخفاقاتٍ في مستنقعاتٍ أكثر دموية وتدميراً. القوى السياسية متبنيةُ شعار “لا للحرب” أوهنُ من بناء جبهة فاعلة قادرة على ترجمة الشعار على الواقع. انتظار انتصار طرفٍ مرتبك على آخر منقسم يفتح الأفق أمام تكاثر الضحايا، مراكمة الخسائر، مضاعفة الإحباط إزاء فرص استعادة تطبيع الحياة ودوران دواليبها. كوةُ الأمل الوحيدة تبدو في قياديٍّ، فصيلٍ، مغامرٍ ممتلئ بالمسؤولية الأخلاقية والشعور الوطني يستطيع فرض وقف العدائيات أولاً، إقناعاً أو عَنوةً، فمن هنا فقط يبدأ مشوار استرداد السلم الوطني، إعادة بناء الدولة، فوقف العدائيات فوق كونه الممكنَ المتاح يشكل الخطوةَ الأولى على درب إعادة التعمير والإنماء ثم دمقرطة الحياة وبسط العدالة.

***

لا أمل في القيادات العسكرية لأنها عاجزةٌ عن التطهّر من خطاياها والتحرّر من مخاوفها، ومجردةٌ من احتمالات استرداد ثقة الشعب. من فرط تفشّي الإحساس بالإحباط، نفترض، أو ربما نتوهّم، الرهان على القيادات المدنية، ممثلة في الحكومتين المنصّبتين عنوة، علّ ذلك يصبح إنجازاً يمنحهما قبلة الحياة. هما صنيعتا باطل. نعم إنتاج الباطل لا يُفرز حقاً، لكن الواقع القاتم أحطّ قدراً من كل باطل وأفدح بؤساً وأكثر إحباطاً وأشدّ إيلاماً. إنه واقعٌ جعل الجميع ينتظر مَن لن يأتي أبداً!.

المصدر: العربي الحديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى