“العداء العدمي” عن معارضين ينتظرون الكارثة

مالك داغستاني

في خضمّ الفوضى الإعلامية التي تضرب سوريا اليوم، تتكرّر حالة مقلقة لا تقلّ خطورة عن التضليل الذي يمكن أن يمارسه الإعلام الحكومي. حالة التسرّع، بل التواطؤ أحياناً، في تبنّي كل خبر سلبي عن الحكومة أو الدولة، حتى قبل التحقق من صحّته.

انتشر مؤخراً خبر عن “اقتحام عناصر يتبعون للسلطة السورية سوقاً للألبسة في مدينة حماة” وقيامهم بتحطيم المانيكانات بحجة أنها “أوثان من عمل الشيطان”. ظهر فيديو للحادثة، ورُوِّج على نطاق واسع، بوصفه دليلاً على هيمنة تيارات متطرفة في أجهزة الأمن الداخلي، ونموذجا عن الواقع السوري المنهار. ليتبين فيما بعد أن الحقيقة كانت مختلفة، وأن كل ما جرى لم يكن أكثر من شجار عادي بين جارين في السوق، تطور إلى تبادل للشتائم والعنف، ولا علاقة له بأي تنظيم متطرف أو خلفية دينية. ورغم وضوح التحقق، تمسك بعض الناشطين بروايتهم الأولى. بل استمروا في تداول الفيديو كدليل على زحف الفكر التكفيري ضمن مؤسسات الدولة.

نجد الأخطر أن المعارضة العدميّة لا تعارض الدولة فقط، بل تتورط تدريجياً في معاداة المجتمع نفسه.

من البديهي أنه لا أحد عاقل يتمنى لبلده الانهيار، لكن سلوك بعض المعارضين يوحي بالعكس على نحوٍ يدعو للأسف. فكل خبر عن خطف، أو جريمة، أو حتى احتمالات انهيار اقتصادي، يُستقبل لديهم لا كأزمة تجب معالجتها، إنما كدليل إضافي لتأكيد نظريتهم عن سقوط الدولة وفشل النظام وصوابية موقفهم.

هنا تبرز للمراقب مفارقة قاتلة، تتبدّى بأن الرغبة الجامحة في تأكيد السردية الخاصة أقوى من أي ميل للتحقق أو للتماس مع الواقع. وكأنّ الحقيقة غير مهمة، طالما أن “الخبر يخدم القضية”! لا شك أن للحكومة السورية الجديدة سجلاً طويلاً وحافلاً من الأخطاء والانتهاكات والجرائم التي قام بها عناصر يتبعونها أو يوالونها، ولا غرابة في أن يعارضها كثيرون. لكن المشكلة لا تكمن في المعارضة ذاتها، بل في تحوّل جزء منها إلى ما يشبه المراقب الشامت، لا المشارك في التغيير. وبالتأكيد هنا لا أتحدث عن التمييز التافه بين النقد البنّاء والهدام، فالنقد نقدٌ وهو مطلوب دائماً، والتمييز يجب أن يكون بينه وبين الشماتة الكيدية.

في حالات الخطف التي حصلت مؤخراً في بعض مناطق الساحل وغيرها، تسرّع ناشطون إلى تبنّي كل ما نُشر، سواء كان موثقاً أو مفبركاً. وتمّ استغلال القضايا الجنائية كذخيرة سياسية، حتى ضد رغبة الضحايا أنفسهم أحياناً. المقلق هنا، وسيبدو كأنه نوع من الكوميديا السوداء، أن البعض لا يشعر بالغضب من وجود الجريمة، بل من توقفها أحياناً، الأمر الذي يؤدي لشحّ المادة التي سيتداولونها في مواجهة السلطات الجديدة. فالجريمة تمدّهم بالمادة الخام لروايتهم، وتُبقي حالة “التنديد الدائم” حيّة. ومع ذلك ففي غياب أو حتى نقص الوقائع، فلا بأس لدى البعض من صناعتها. هنا لا نعود أمام معارضة، لكن أمام مزاج سياسي عدمي، يتغذى على الخراب، ويعيش عليه.

العدمية السياسية ليست فقط ناتجة عن فقدان الثقة، أو الغضب من خطر حكومة ذات تاريخ أيديولوجي عنفي، بل هي حالة أعمق وأخطر. يمكن تلخيصها بأنها الانخراط في الصراع السياسي دون رغبة حقيقية في بناء بديل، بل فقط بهدف هدم القائم. وغالباً تنمو العدمية في بيئات تتوفر فيها بعض الشروط، منها غياب المشروع الواضح المعالم، فالمعارضة ليست موقفاً أخلاقياً فقط، بل مسؤولية تاريخية تتطلب مشروعاً بديلاً. حين تغيب هذه الرؤية، يتحول النقد إلى إدانة شاملة، والخصم إلى محض شيطان.

كثير من المعارضين، بعد تجارب النفي أو القمع، يُعرّفون أنفسهم فقط عبر ما يرفضونه، وليس عبر ما يقترحونه. يصبح الرفض هوية، ويختزل كل ما هو موجود باعتباره شرّاً مطلقاً. حين تنقطع المعارضة عن النسيج الاجتماعي، تصبح عالقة في فقاعة نظرية، أو في خطاب خارجي لا يعرف وقائع الأرض. فتتحول إلى معارضة منفية داخل ذاتها، لا داخل مجتمعها فقط.

في فنزويلا، حين أطلقت الحكومة مشروع دعم غذائي للفقراء بمساعدة الأمم المتحدة، أنكر المعارضون وجود هكذا برنامج. أما بعد تأكيد الكثير من المستفيدين أنهم يعيشون على تلك المساعدات، فإن  المعارضون ذهبوا للسخرية منها بشراسة، واعتبروها “رشوة انتخابية”. هذا ليس مديحاً لحكومة فنزويلا الديكتاتورية بالتأكيد، لكنه مثال فاقع على عدمية جزء من معارضيها.

النقد مسؤولية، لكنه لن يكون نزيهاً ما لم يُرافقه حرص على الدقة، وعلى نقل الواقع، لا على الرغبة في تشويهه.

في مثل هذه الحالات، وبدل أن تتحوّل المعارضة إلى نقيض أيديولوجي للنظام، فإنها تشاركه ذات الميكانيزمات في الإنكار والتهويل والعمى الأيديولوجي. في سوريا نلحظ هذا الأمر، أقلّه على المستوى الإعلامي. فبينما يذهب إعلام السلطة إلى محاولة تشذيب أي خبر عبر بعض المداورة، فإن معارضيها، على العكس، يحاولون تضخيم أي خبر، حتى لو كان عن جريمة جنائية، بهدف الاستثمار السياسي فيه.

من هنا، ومع محاولة التمييز بين نقد السلطة أو حتى الدولة وبين معاداة المجتمع، نجد الأخطر أن المعارضة العدميّة لا تعارض الدولة فقط، بل تتورط تدريجياً في معاداة المجتمع نفسه. أحياناً تقوم بعض النخب المعارضة، على نحوٍ تعميمي، باتهام جزء كبير من المواطنين بأنهم “خانوا الثورة”، فقط لأنهم يقدمون قراءة مختلفة لوقائع الأرض. بل ويرفض هؤلاء تصديق الحديث عن أي أمر إيجابي في منطقة معينة لأنه لا يناسب خطابهم. هنا تماماً تكمن الأزمة، فهم لا يبدون على أنهم يعارضون النظام وحسب، بل يعادون الحقيقة والواقع ذاته. في هذه اللحظة، تتحول المعارضة من أداة تغيير إلى أداة تدمير رمزي، ويُصبح بقاء الدولة لدى الكثير من منتقديها، حتى بوضعها السيئ، أفضل من تحقيق ما يروج له، بل ويتمناه هذا النمط من المعارضين.

من البديهي منطقياً ألا يكون النقد نوعاً من الشماتة، فالمعارضة مسؤولية، لا مجرد موقف. تحتاج إلى الشجاعة لمواجهة السلطة، ولكن أيضاً، وبموازاة ذلك، تحتاج الشجاعة لمواجهة الذات. لا يُبنى مشروع سياسي على الكذب، أو على تمني الخراب، أو على ركوب كل موجة سوداء. المعارضة التي تبني مشروعاً قادراً على الحياة، تحتاج إلى أخلاقيات تعتمد على الحقيقة، لا مجرد أخلاقيات الشماتة. وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود بعض المعارضين، للأسف ما زالوا قلّة، الذين يتبنون خطاباً نقدياً حاداً لكنه متزن وعقلاني.

مما ينطوي ضمن البديهيات أن النقد مسؤولية، لكنه لن يكون نزيهاً ما لم يُرافقه حرص على الدقة، وعلى نقل الواقع، لا على الرغبة في تشويهه. فسوريا اليوم فيها من التشوّهات ما يكفي ويفيض، ولا تحتاج المعارضة لتضخيمها كي تواجه سلطة تحتاج لمراجعة تاريخها، والأدهى أنها ما زالت تتعثر وتخطئ في العديد من الملفات. وهي تستحق النقد في كل ساعة، لكن دون شماتة واضحة أو مواربة في بلدٍ أكثر ما يحتاجه اليوم هو الخروج من الكارثة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى