رجال دين عارضوا الخميني ورفضوا “جمهورية الوليّ الفقيه”.. (2)

محمد حمود

عقب إنتصار “الثورة الشعبية الإيرانية” في العام 1979، بقيادة الإمام الخميني، وعودته الى إيران، واتخاذه مدبنة “قمّ” مقرّا له، بدأت ملامح التغيير في البنية السياسية للنظام الإيراني تأخذ طريقها الى التحقيق سريعًا، بخاصة، وأن الميدان السياسي في البلاد، كان مُهيئًا لهذه الخطوة، بعد إنهيار نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وتعطّش الشارع الإيراني الى التحرر من “بطش أسرة بهلوي وظلمها”.
ومع استقرار الخميني في البلاد، وعودة غالبية رجال الدين الذين آزروه في مواجهته مع نظام الشاه، الى البلاد، بدأت تتضح الصورة المستقبلية لـ”الثورة الإيرانية”، من خلال ظهور شخصيات سياسية جديدة من رجال الدين المحيطين بالخميني، ومن أبرز هؤلاء القادة الجدد، رجل الدين المعروف كأحد قادة “الثورة” آية الله حسين منتظري، الذي (وُلد في 24 ايلول/ سبتمبر من العام 1922)، في منزل متواصع في مدينة “نجف آباد” القريبة من أصفهان. لأب يعمل فلاحًا ومزارعًا لدى أحد كبار الملاكين، رغم امتلاكه مزرعته الخاصة.
والجدير بالذكر، أن منتظري تعرّض الى الكثير من المتاعب والملاحقات من قبل أجهزة الأمن الإيرانية “السافاك”، في عهد الشاه، وحكم عليه القضاء الشاهنشاهي بالإعدام في العام 1975، لكن الحكم لم ينفّذ، ومكث منتظري معتقلًا لثلاث سنوات في أقبية النظام، قبل إطلاق سراحه.
ومع إنتصار “الثورة”، عيّنه الحميني نائبًا له، لكن سرعان ما تباينت وجهات النظر بين الحَليفين، واختلف منتظري مع الخميني، حول عدة قضايا، أبرزها عدم تطبيق القانون والشريعة، والسعي الدائم الى تعزيز سلطان وسلطات النظام الجديد، وتثبيت الحكم على قواعد لا تمت الى القوانين بصلة، كما تبيّن له أن “الثورة” المزعومة ضدّ الشاه، هي من أجل خدمة مصالح السلطة المستجدّة في البلاد، ممثلة بالخميني، وتوابعه المقرّبين الذين ينصاعون الى رغباته في السياسة والدين، وليست من أجل الشعب الإيراني ورفع الضّيم الشاهنشاهي عنه.
سبق للإمام الخميني، وأطلق على آية الله منتظري، لقب “الفقيه الأكبر”، وظلّ هذا اللقب يرافقه رسميًا لعشر سنوات، في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، وعلى ألسنة قيادات “الثورة”، في العديد من المناسبات.
وعلى الرغم من إنتشار الصورة الرائعة والمُحببة لمنتظري بين الإيرانيين، منذ البدايات، تبدّلت هذه الصورة فجأة، بالتزامن مع إقدام الخميني على عزل منتظري من منصبه الرسمي، في آذار/ مارس 1989 وتشوّهت سمعته، وتحوّلت الإتهامات الباطلة بحقه الى كابوس أسود يلاحق منتظري في حلّه وترحاله، ونفس الإعلام الذي وصفه بـ”الفقيه الأكبر أو المرجع الأعلى”، بدّل نظرته الى منتظري، وراح يطلق عليه شتّى النعوت المُشينة والسيّئة، وباتوا يعتبرونه شيخًا ساذجًا، وقرويًا أمّيًا متخلفُا.
لم يكن منتظري، مؤمناً بإطلاق ولاية الفقيه، التي تشمل كافّة شؤون الناس، واقترح حصرها في المسائل الدينية، فتكون للفقيه الولاية في الإفتاء والقضاء حصراً. وبذلك كان المنتظري من معارضي إقامة الحكم الديني في إيران، لافتا الى أن نفي ولاية الفقيه المطلقة ليس بحاجة الى إثبات، الذي يستدعي الدليل القاطع، مؤكدا أن نظرية النيابة العامة عن الإمام المهدي، إنما هي نظرية ظنية استنبطها بعض الفقهاء في القرن الرابع الهجري بعد غيبته في وقت لاحق، وطوّروها عبر التاريخ.
وخلال حقبة الثمانينات، فشل الخميني في تحقيق ما كان يصبو إليه الشعب الإيراني من تطلع للحريات، وتواصل اضطهاد وقمع المعارضة، وخلال تلك الفترة، واصل المنتظري معارضته لسياسة الخميني، وفي عام 1989، وفي الذكرى العاشرة للثورة الإسلامية، قام بكتابة وإلقاء سلسلة من الكتابات والخطب الناقدة، فما كان من الخميني، إلّا مقابلة هذا التوجه بقرار يقضي بعزل منتظري، من منصبه، وفرض الإقامة الجبرية على منتظري، بهدف تدجينه، وإلحاقه بركب المُطبّلين له ولنظريته “الدينية والسياسية”، وعلى الرغم من ذلك، رفض منتظري مبايعة خليفة الخميني السيد علي خامنئي، وواصل توجيه الإنتقادات له، مشككًا بكفاءته وقدراته وأهليته للحكم.
وعلى الرغم من وصول عدد من تلامذة منتظري، ومريديه الى مناصب عليا في النظام، منهم الرئيس محمد خاتمي، الذي انتُخب رئيسًا لإيران في العام 1997، وبقي في منصبه لدورة ثانية، إنتهت في العام 2005، لم يتمكن أيّ منهم من رفع الإقامة الجبرية عن منتظري، بل أن بعضهم مثل: وزير الداخلية السابق عبد الله نوري، والباحث وعالم الدين د. محسن كديور، وحجة الاسلام حسن يوسفي اشكوري، تعرّضوا للملاحقة أمام القضاء “الثوري” والمحاكمة والسجن، بسبب دفاعهم عن منتظري.
يذكر أن منتظري، الذي كان من أكثر المنظرين لـ”الثورة الشيعية” الإيرانية، يحظى بتأييد لا نظير له من “أهل السُنة والجماعة” في إيران، وكان إيمانه بـ”وحدة المسلمين”، كبيرًا وعظيمًا، وكان من أبرز دعاة السعي الى إزالة الخلافات والتباينات بين المسلمين، من الشيعة والسُنة.
كما عُرف عنه تأييده الجدّي والحقيقي للقضية الفلسطينية، منذ بدايات إنطلاقة “الثورة الفلسطينية، التي دعت بعض المراجع الدينية في قمّ، الى عدم مناصرتها أو مؤازرتها، لأن قياداتها من أهل السُنة، وكانت تربطه برئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ياسر عرفات (أبو عمّار)، وكافة قيادات الثورة الفلسطينية، وغالبية علماء المسلمين في العالم، علاقات وطيدة وثيقة.
وفي مراحل لاحقة، وفي سبيل الحدّ من إنتشار مؤيّدي منتظري، وتأثيرهم في المجتمع الإيراني، لم توفر سلطات نظام الخميني، وسيلة، إلّا واستخدمتها في سبيل تشويه صورة المرجع الديني الأبرز آية الله منتظري، رحم رحيله في 19 كانون الاول 2009 في مدينة قمّ،  فقدمت عبر إحدى شاشات تلفزيون النظام الرسمي، وثائقي عن منتظري، تحت عنوان: “قائم مقام”، وصفته عائلة منتظري بـ”المشوّه” لصورته ويسيء اليه، الأمر الذي دفع نجله أحمد منتظري، الى الإحتجاج على بث الوثائقي، وطالب بإتاحة الفرصة له، من أجل الردّ على الإفتراءات والترهات التي سيقت بحق والده، إلّا أن السلطات الرسمية تابعت غيّها وبغيها، ورفضت طلبه، ولم تستجب لنداءاته المتكررة.

ومع إعادة إنتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا لإيران، (كان منتظري من أوائل منتقدي النظام والاقتراع الرئاسي في حينه)، وإندلاع احتجاجات عامة في البلاد، طالب منظموها بحقوقهم الطبيعية المشروعة، والعيش بكرامة، حذّر منتظري من ممارسات السلطة، ومواصلتها قمع التظاهرات بطريقة عنفية غير مسبوقة، حتى في ظلّ حكم الشاه، وقال في بيان وزعته وكالة “فرانس برس” في حينه: “للأسف، إن فرصة الإنتخابات الممتازة في البلاد، استخدمت بأسوأ طريقة ممكنة، وإعادة انتخاب نجاد، أمر لا يمكن أن يقبله أيّ عقل سليم”، مضيفا “إذا لم يتمكن الشعب الايراني من المطالبة بحقوقه المشروعة من خلال تظاهرات سلمية، وتمّ قمعه، فانه من المحتمل ان يؤدّي تصاعد التبرّم الى تدمير أسس أيّ حكومة مهما كانت قوتها”، داعيًا “الإيرانيين الذين يرفضون شرعية إعادة انتخاب الرئيس نجاد، الى مواصلة تحركاتهم”، مندّدًا بـ”السلطات، لممارستها العنف والقمع تجاه المتظاهرين”. واتهمها بـ«تصفية حساباتها مع المثقفين والناشطين والمفكرين، وتوقيف العديد من مسؤولي الجمهورية الإسلامية بلا سبب”.
وتبقى الإشارة الأهم، الى أن منتظري، كان من أبرز وأكثر المتحمّسين لقيام “جمهورية الولي الفقيه”، وكان له الدور الأبرز والأكبر في اعتماد وتكريس “نظرية الولي الفقيه” في الدستور الإيراني، الذي أقرّ في العام 1979، هو نفسه، كان من أبرز معارض النظام، ورفضه ممارسة القمع، وحجز حريات المعارضين من دون مسوّغ قانوني حقيق، كما كان من أبرز الدعاة الى تحرر البلاد من الصنمية المستجدة في النظام، كما رفض فتح السجون عشوائيًا أمام المعارضين، ومنع الأحزاب من ممارسة نشاطاتها بحرية.
وعلى الرغم من إيمان منتظري بـ”نظرية الولي الفقيه، وتنظيره لها، إلّا أنه وبعد التجربة المريرة مع النظام، وسوء تطبيق هذه النظرية، أعاد النظر بطروحاته الفكرية، رافضًا مبدأ تعيين “الولي الفقيه، داعيا الى إنتخابه، إنسجامًا مع تأكيداته خلال إلقاء الدروس الفقهية، على أهمية الإنتخاب، مشددًا على ان شرعية الفقيه، لا يمكن أن تتحقق من دون رغبة الشعب.
والجدير بالذكر أيضًا، أن منتظري، رفض اعتماد نظام الخميني السرّية في التفاوض مع واشنطن (فضيحة مكفرلين)، كما رفص\ض وعارض التواصل العبثي للحرب العراقية – الإيرانية، بعد استعادة خورمشهر (1983)، لكن الخميني تجاوز هذا الاعتراض، وواصل الحرب المدمرة، لكنه ما لبث أن اتخذ قراراً بوقف الحرب، بعدما أقنعه هاشمي رفسنجاني بأن الوضع سيّء جداً وأخطر مما يمكن تصوّره.
ورغم محاصرة منزل متتظري في قمّ، من قبل قوات أمن النظام الإيراني، وإزالة صوره من المكاتب الحكومية والمباني الرسمية، وتعرّضه لحملة شعواء، واصل منتظري احتجاجاته، مسلطًا الضوء على ممارسات النظام السلبية، ففرضت السلطات عليه الإقامة الجبرية مجددًا لأكثر من خمس سنوات، وصودرت أملاكه الخاصة، وأغلقت كتبته الشخصية و”حسينية الشهداء” التي كان يلقي فيها محاضراته ودروسه الدينية، وقبل وفاته في العام 2009، أعلن منتظري تأييده “إنتفاضة الحركة الخضراء” المناوئة للسلطة، وانتقد تعامل الأخيرة مع المحتجين على إعادة إنتخاب نجاد رئيسًا للجمهورية لولاية ثانية، بالعنف والقوة المفرطة.

المصدر: “المدارنت”..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى