في بعض من صفحات كتابها «الرحلة الناقصة»، تستعيد الناقدة العراقية فاطمة المحسن، تجربة الاعتقال في سجون، صدام حسين. وإذ تعيد النظر، في تلك «التجربة المؤلمة»، مشيرة إلى أنها تجدها اليوم «محض حماقة ارتكبتها» بحق نفسها، تتساءل «لم يطلب الأمن سوى توقيعي عن براءتي من الحزب (الشيوعي)، ما الضير لو وقعت وخرجت مبكرة من هذا الجحيم؟ سؤال المحسن مفتاحي لمقاربة تجربة الاعتقال السياسي في أنظمة تلغي السياسة أساسا، وتستخدم المعتقلين، كنماذج لتربية المجتمع، لتكون النتيجة، ذوات محطمة نفسيا وجسديا، في أوطان غير مؤسسة أصلا.
والسؤال طبعا، لا يهدف، للتقليل من شأن عذابات وآلام معارضين، تمسكوا بمواقفهم ورفضوا التنازل للديكتاتور، مفضلين البقاء في الزنازين سنوات طويلة، تحت سوط الجلادين، وفنونهم السادية، بل هدفه تقدير هؤلاء المعتقلين وتضحيتهم النبيلة، انطلاقا من سؤال الجدوى، في ظل انعدام أي فرصة لتثمير التضحية، إذ ما تأثير أن يُعتقل معارض سياسي، لدى نظام لا يمارس السياسة؟
فمعتقل وسياسة، كلمتان متنافرتان، الاعتقال، حجز للحرية وإسكات الرأي المختلف، واختلال لموازين القوى بين الجلاد والضحية، أما السياسة فهي ممارسة حرة، ونقاش مع المختلف وبناء موازين قوى ورأي عام، وعليه السياسة تنفي الاعتقال، والاعتقال ينفي السياسة، ليصبح المعارض الذي يسجنه نظام مستبد، معتقلا لا سياسيا، مجردا من أي أداة سياسية، لتحرير نفسه ومواجهة خصمه. المعتقل دليل انعدام السياسة، الأنظمة خصوصا البعثية، تعتقل انطلاقا من تحدٍ ما، يهدد سلطتها، تنزع الاعتقال عن السياسة، وتجعله اعتقالا لأجل الاعتقال. وعليه، فإن الفرصة التي أتيحت للمحسن، لم تتح لسواها من المعتقلين، التنصل من حزب ما، لم يكن مخرجا للكثير ممن أمضوا سنوات في السجون. صدام، نفسه أعدم هذه الفرصة لاحقا، إذ إن المحسن تتحدث عن السنوات الأولى لحكم البعث، قبل أن يزداد قسوة، ويصبح الاعتقال عنده «حركة في حركة مستمرة»، على ما تصف الكاتبة، حنة أرندت، سلوك الحركات التوتاليتارية، في كتابها التشريحي عنها.
في بلدان تنشط فيها السياسة، ولو في الحدود الدنيا، قد يعتقل معارض ما لسنة أو سنتين، ثم يخرج ليواصل نشاطه، لكن المعتقل عند هذه النظم، يتم رده إلى ما قبل السياسة وتنتهي فرص النجاة لديه، وتنعدم الخيارات وتتقلص إلى ما يساعد الجسد المعذب والنفس المحطمة. الاعتقال يبتلع سببه، ويعدم الخيارات، ويصبح السجين درسا للخارج ونموذجا لإرهابه. ما درجنا على تسميته معتقل سياسي، هو أداة تم تطويعها من قبل الأنظمة، لتمنع السياسة عن المجتمع. هذه مفارقة ثانية، لا تحصل إلا مع أنظمة تشبه أنظمتنا، فالمعتقلون ليسوا فقط غير سياسيين بفعل قسوة الأنظمة، لكنهم أيضاً أدوات لمنع السياسة وتيئيس الناس منها. المعتقلون أنفسهم، فهمهم للسياسة، كان قوامه الأيديولوجيا، هم يساريون، إسلاميون، قوميون، وبالتالي نضالهم كان من أجل تحقيق أهداف عقائدية، فكرة الديمقراطية نفسها لم تكن ضمن أولوياتهم، والسياسة كانت مرادفا للأيديولوجيا. ما رتب صراعا عابرا للأوطان، مع الأنظمة المستبدة، حيث إن أسباب الاعتقال بالنسبة للمعتقلين هي أفكارهم، المرتبطة بالأمة والعالم الاشتراكي والوحدة.
من هنا فإن من اعتقلوا في المراحل الأولى لتشكل الاستبدادات في منطقتنا، هم أقرب ليكونوا معتقلين أيديولوجيين، علاقتهم مع السياسة تشكلت من جديد، عند مراجعة العقائد التي آمنوا بها وتطويرها، وإدخال تعديلات عليها. لكن ذلك، بقي نظريا، حيث الأنظمة كانت قد أغلقت كل إمكانية لممارسة السياسة، وهم أنفسهم باتوا معتقلين من أجل الاعتقال.
علما أن، فهم المعتقلين للسياسة، أي أولوية الأيديولوجيا والعقائد، كان يمكن أن يتطور، ويصبح أكثر مطابقة لمفاهيم السياسة المنتجة، لو لم يتم إدخالهم إلى السجون وإفناء حيواتهم في زنازينه، ولو كانت هناك دول طبيعية، يمارس فيها الفعل الديمقراطي من دون عنف وانقلابات. وبالتالي، لا مقارنة بين فهم المعارضين الطوباوي للسياسة، وإلغاء الأنظمة للأخيرة وتحويل الاعتقال لهدف بحد ذاته، لتأديب المجتمع وإخضاعه. ويبقى أن محاولة خلخلة العلاقة، بين المعتقل والسياسي، في بلدان تحكمها أنظمة مثل أنظمتنا، هدفه طرح أسئلة، حول جدوى الاعتقال، ومشروعية استغلال فرص النجاة الفردية؟
المصدر: القدس العربي