
لا بد من الموازنة بين توحيد الجغرافيا والانفتاح على مشروع وطني يجمع كل المكونات على اختلاف أعراقها وتأطيرها لإعادة بناء الدولة.
حين تصبح الجغرافيا السورية مسرحا للصراع، لا بد من استحضار التاريخ كشاهد معطوب حول من يملك البلاد، وما هو تعريف الوطن ومن يرسم حدوده وشكل هويته..؟
سوريا الجديدة ليست مجرد جغرافيا متنازع عليها، بل مرآة لبلاد قام جزء من شعبها بالثورة على حاكمها من أجل استعادة حريته وتعريف المواطنة وحقوقها وواجباتها من جديد.
ففي المسافة بين وعي الشعب السوري، وبين التشوهات العميقة التي صنعها نظام الأسد على مدار سنوات حكمه والذي جعل البلاد مزرعة له وموردا اقتصاديا لتمكين سلطته وإفقار شعب بلده، وثقب وعاء الهوية الجامعة، وتشويه التاريخ وإذكاء الصراع الطائفي والعرقي.
كان آل الأسد ينظرون لسوريا على أنها امتياز عقاري لهم، وسلطتهم وسيلة لإدارة ولاءات العرقيات والطوائف بما يخدم مصالحهم ويثبت حكمهم، وكانت العلاقة بين سلطتهم وزعماء المكونات مناصب وهبات، والقرب من السلطة يعني في نظام حكم الأسد أن القريب منها أصيل والبعيد تقليد، وذلك للحفاظ على توازن السلطة وإدارة العلاقات بين تلك السلطة وزعمائها وشيوخها، وتحويل الدولة من مشترك جماعي لكل العباد لهم حقوق وواجبات، إلى ساحة للتنافس على الولاء لزعيم القطيع، وتحول التعايش السلمي إلى تصادم صامت ومفروض بالقوى الأمنية ومسنود بالحماية الرسمية.
◄ في سوريا متى تشفى السياسة، تستقيم بقية القطاعات تلقائيا، لأن القرار السليم يعيد توجيه كل المجالات، ويُمكّن الكفاءات، ويطلق مشاريع النهوض بكل الجهات
كانت الدولة في ظل نظام الأسد مخطوفة من السلطة، ولا يمتلك مسؤوليها فهما عميقا لبنية المجتمع السوري ومكوناته، وكانت تلك السلطة تنظر للجغرافيا السورية على أنها مساحة للإنتاج تدر عليها الخيرات والشعب مجرد عمال وموظفين وجباة عند السلطة، ولا تنظر للتنوع السوري على أنه غنى للهوية، وتعمل دائما على إثارة احتكاك مكوناتها وقطع نسيجها، واختزلت سوريا باسم “سوريا الأسد”، وكذلك سميت الكثير من المؤسسات الرسمية باسم مديرها الذي يرأسها طالما هو حي ودرجة تحزّبه وولائه للسلطة ومدى كبر صورة حاكمها في مكتبه تضمن استمراره في منصبه.
التاريخ المعطوب لحكم آل الأسد في سوريا شاهد على نظام استبداد عمل على تفكيك الدولة وتوظيف السلطة وتجريد المجتمع بأكمله من أدواته الرمزية والتنظيمية وجعلهم أدوات لحماية السلطة، وصير الجغرافيا السورية لعقار وليس هوية وانتماء، وسعى النظام بكل جوانب سلطته في سوريا إلى القضاء على عالم الأفكار والنقد البناء نحو إبراز عالم الأشخاص وأصبح تقديس رموز وشخوص سلطته بدلا من الأفكار والمبادئ والقيم.
مع العلم أن الأشخاص لا يصمدون كقيم بديلة لأنهم بطبيعتهم لا يصلحون أن يحلوا محل القيم السامية والخالدة فيسقط الأشخاص كقيم بديلة ويبرز عالم الأشياء وبذلك يتحول الأحرار إلى عبيد وهم لا يشعرون، وعمل على عسكرة المجتمع ومنح الأجهزة الأمنية شأنا أكثر من مدنية المجتمع وقلم المعلم، ومسطرة المهندس ومشرط الطبيب ومعول الفلاح، ورسخ ثقافة الغابة والغلبة، ومنح القيادة للزعامات الأكثر قوة ونفوذا وعلاقات وصفيقا ومقاعد مجلس الشعب للأعضاء الذين ينتصبون وقوفا وتصفيقا لكل قرارات السلطة.
وفي عهد نظام الأسد البائد زاد دور النخب التبريرية الانبطاحية والتي تبنت رؤية سلطته بحجة الأمر الواقع وعلى العباد تحمل التقشف وشظف العيش بحجة المقاومة والمواجهة، وبررت تمكن الأقلية الحاكمة من مفاصل السلطة، بحجة الأمر الواقع، وعززت سيادة السلطة على الدولة، وجعل الدولة مزرعة لرأس السلطة، ومسخ الهوية السورية الوطنية، وكذلك جعلوا نصف الشعب موظفين عند السلطة، والنصف الآخر عامل يبحث عن لقمة عيشه في دول الجوار.
وكان لسان حال تلك النخب الجبانة: الأمر الواقع هو النظام والسلطة، وهو المرجع والميزان، والسلطة هي المبدأ والمنتهى، وبعد سقوط النظام وتحرير البلاد من قبضة حكمه وسلطته، نفس تلك النخب الجبانة كوعت باتجاه السلطة الجديدة، ومازالت تنهج نفس التبرير بحجة الأمر الواقع، وعلى سلطة الدولة الجديدة أن تحذر هذا الصنف من عبيد سلطات الواقع.
◄ السياسة في سوريا ليست حاضرة في الميدان، بل ممددة في غرفة الإنعاش، تحتاج إلى عملية قلب مفتوح، تستبدل فيها العضلات برؤية جديدة
ما يحدث اليوم من تفرّق العباد إلى أعراق وطوائف، هو نتيجة لتراكم إرث نظام الأسد الذي شوه كل التاريخ السوري، زرع في النفوس الأحقاد بدل التسامح، وعمّق الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، والكثير يتربص بتحويل الهويات الفرعية إلى عداء سياسي مدعوم خارجياً يحاول كل طرف فيه احتكار الحقيقة، لا يعترف بالآخر كشريك، بل كمنافس يجب سحقه. والنتيجة: دماء، دمار، وتخوين.
البلاد أمام لحظة فارقة، تتطلب شجاعة وتحررا من الانتماء المزيف، إذ لا يمكن للبلاد أن تتقدم في ظل تاريخ مشوه، تستحضر الماضي وعيونها شاخصة إلى الوراء، متعلقة بأوهامه، وغير قادرة على الاعتراف بأخطائها، وأن تاريخ البلاد لا يُكتب بمداد المنتصر فقط، بل بأقلام النخب الحرة، ومن يريد أن ينقل الحقيقة لا يخشى أن يكشف القبح كما يكشف الجمال. فالاعتراف بالخطأ هو أول طريق التصحيح، والتعددية ليست ضعفا، بل قوة، إذا فُهمت وأُديرت بعقل راشد، لا بشهوة سلطة الحكم.
سوريا بعد التحرير تواجه تحولات كبرى، والسياسة ليست شكلا لتنظيم الأرض والسلطة فقط، بل إيجاد صيغة جديدة عن العلاقة بين السكان والمكان، وصياغة هوية جامعة بغض النظر عن الانتماءات الفرعية تذيب كل المكونات في بوتقة الدولة والتشاركية في السلطة وتضمن حقوق الجميع.
سوريا بعد 14 عاما من المعاناة لم تعد إرثا لسلطة متنازع عليها بين نظام مستبد وشعب ثائر، بل السلطة الجديدة في سوريا أمام واقع جديد تجاوز الصراع التقليدي، ليصبح سياسة متعددة المستويات: وحدة الجغرافيا، والعدالة الانتقالية، وصياغة الهوية ومن يمتلك الشرعية، وشعب ثائر محكوم بذاكرة مؤلمة لم تعد تُقنعه الشعارات والوعود.
لقد فرضت سنوات قبل تحرير البلاد، تموضعات متعددة للشعب السوري على كل الجغرافيا السورية مع تعدد سلطات الأمر الواقع، ولم يكن تموضع السكان بالجغرافيا قائم بمجمله على الولاء للسلطة الحاكمة، باستثناء الغالبية في الشمال السوري الذين كانوا نواة الثورة على نظام الأسد وأجبروا على التهجير القسري، بينما البقية لم يكن مجملهم قائما في مكان سكنه بناء على الولاء بقدر الحياد وطلب الحماية وبعضهم شارك نظام الأسد في قمعه للشعب الثائر سواء من خلال وجوده ضمن صفوف الجيش والقوى الأمنية والميليشيات المتعددة، وتطبيق القانون والعدالة يفرز كل هؤلاء ومن هو بريء أو مدان.
أما في جنوب سوريا وبمحافظة السويداء، كانت تلك البقعة الجغرافيا غالب سكانها من الطائفة الدرزية مع وجود البدو ببعض قراها، واتخذت الطائفة من بداية الثورة موقفا تكتيكيا ليس انحيازا بالمجمل لطرف معين، بل رفضا لمشروعات وشعارات لا تتوافق مع مذهب الدروز وخوفا من تحول مفاجئ يهدد وجودهم ويفقدهم جغرافيتهم المكانية بقرب إسرائيل التي تدعي حمايتهم لتحقيق مصالحها في سوريا.
◄ آل الأسد كانوا ينظرون لسوريا على أنها امتياز عقاري لهم، وسلطتهم وسيلة لإدارة ولاءات العرقيات والطوائف بما يخدم مصالحهم ويثبت حكمهم
أما في الجهة الشرقية من سوريا والتي تعد سلة خيرات سوريا والتي تسيطر عليها الآن قوات ميليشيات قسد والتي جاءت بدعم من أميركا وقوات التحالف الدولي لطرد تنظيم داعش، استغلت تلك القوى وجود المكون الكردي ببعض المناطق وبدعم من حزب العمال الكردستاني، لفرض أجندتها وأيديولوجيتها على المنطقة رغم التفوق العددي للمكون العربي في جغرافية المنطقة، وأصبحت لها مطالب انفصالية عن الوطن الأم سوريا، وتهميش المكون العربي الذي بالمجمل يرفض وجودها.
وإزاء ذلك الوضع المعقد لا بد من الموازنة بين توحيد الجغرافيا السورية، والانفتاح على مشروع وطني يجمع كل المكونات على اختلاف أعراقها وتأطيرها قانونيا لإعادة بناء الدولة من الأطراف والجهات، وإعادة تعريف العلاقة بين الأرض والسيادة السياسية، على نحو يُؤسس لحل شامل وعادل، وصياغة نظام حكم يؤسس لتمثيل مجتمعي للجميع يخضع لضوابط القانون لا لهيمنة عرق أو طائفة أو لقوى السلاح، ويُعيد توزيع الشرعية على أسس مدنية، وضمان حق الشعب الثائر سياسيا وإنسانيا، واعتبار العدالة الانتقالية غير قابلة للتفاوض مرتبطة بالمساءلة عن الجرائم، لا بالترضيات الأمنية، وجعل الجغرافيا السورية ميدان شراكة لا حلبة صراع وقتال تحت مظلة قانون يعترف بالمكونات كلها ولا يُكرّسها كأساس للإقصاء، بل كجزء مؤسس في مشروع وطني جامع يستدعي الإرادة السياسية.
في سوريا متى تشفى السياسة، تستقيم بقية القطاعات تلقائيا، لأن القرار السليم يعيد توجيه كل المجالات، ويُمكّن الكفاءات، ويطلق مشاريع النهوض بكل الجهات، فالسياسة عندنا ليست حاضرة في الميدان، بل ممددة في غرفة الإنعاش، تحتاج إلى عملية قلب مفتوح، تستبدل فيها العضلات برؤية جديدة.
نحن بحاجة إلى غرفة عمليات، إلى جرّاح ماهر، ونقاهة قصيرة تتبع بإرادة حقيقية، ويجب أن تعي السلطة ومسؤوليها بمقومات سياسة البلد الداخلية والخارجية، وتوجيهها نحو أهدافها بإدارة الصراع، وكذلك في الإعلام توجيه مسار الوعي الشعبي الجمعي لأن تداعياته انفعالية وحادة، وخاصة بعد مرحلة صعبة من المعاناة التي عاشها على مدى سنوات، وانهيار نظام مستبد طاغٍ بعمق أيديولوجيته وتحالفاته، حيث الوعي السوري مختلط الهويات والأعراق، وأصبحت تحولاته سريعة، ومتغيراته لحظية وانفعالية، وفتح وبكثافة مساحات للتفاعل والحوار، ولا يسبح مسؤوليها في أمواج الأحداث بمزاج فردي لا يتأقلم مع المعادلات الكبرى لتحول سياسات الدول.
المصدر: العرب