جبر الضرر لفلسطينيي سورية.. استحقاق عاجل ومسؤولية وطنية مؤجلة

ماهر حسن شاويش

هذا المقال يناقش مأساة فلسطينيي سوريا منذ عام 2011، ويطرح فكرة جبر الضرر كاستحقاق وطني عاجل لكنه مؤجل التنفيذ، يتطلب الاعتراف والاعتذار والتعويض وإعادة التأهيل، باعتبارها خطوات ضرورية وليست ترفًا سياسيًا أو بندًا اختياريًا.

لم تكن مأساة فلسطينيي سورية حدثًا عابرًا في تاريخ الشتات الفلسطيني. فمنذ اندلاع الثورة السورية، تحوّل المخيم الفلسطيني من مساحة أمل وذاكرة إلى مسرح حصار ودمار وتهجير. مخيم اليرموك، الذي كان يُسمّى «عاصمة الشتات»، غدا ركامًا بعد سنوات من الجوع والقصف والتدمير الممنهج. مخيم حندرات اختفى من الخريطة تقريبًا، ومثله مخيم درعا، ولا يقلّ عنهما بقية المخيمات التي عانت بدرجات متفاوتة. آلافٌ قضوا تحت القصف أو في السجون، وعشرات الآلاف تشتتوا بين لبنان ومصر والأردن وتركيا وأوروبا، وبعضهم وصل إلى أقاصي العالم في تايلند والبرازيل. إنها نكبة جديدة تضاف إلى النكبة الأولى، لكنها أكثر قسوة لأنها جرت على يد من كان يفترض أن يكونوا أشقاء في الجغرافيا والتاريخ.

ومع كل هذه الجراح، ظلّ السؤال معلّقًا: ماذا قدّمت الفصائل الفلسطينية لأبناء شعبها هناك؟ وهل يكفي الصمت أو البيانات المقتضبة والخجولة لتضميد هذا الجرح الكبير؟ إن مسؤولية الفصائل لا تُقاس فقط بمواقفها السياسية، بل أيضًا بقدرتها على الاعتراف بأخطائها وتعويض الضحايا، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

إقرار مبدئي بالمسؤولية من الفصائل، إنشاء هيئة مستقلة لجبر الضرر تضم ممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني، إطلاق صندوق وطني بإسهامات الفصائل ورجال الأعمال الفلسطينيين والشتات.

بين السياسة والإنسان

تعددت مواقف الفصائل الفلسطينية إزاء الثورة السورية. بعض الفصائل انحاز صراحةً للنظام السوري البائد، وشارك في حصار مخيمات فلسطينية وإراقة دماء أبنائها ودمار بيوتها، فيما اكتفى البعض الآخر برفع شعار «الحياد المخادع». لكن الحقيقة المؤلمة أن هذا الحياد لم يمنع وقوع المجازر والجوع، ولم يحمِ المخيمات من الدمار. والأسوأ أن هذا الموقف ولّد قطيعة بين القاعدة الشعبية والفصائل، ما زالت آثارها ماثلة حتى اليوم.
في تجارب العدالة الانتقالية حول العالم، لم تكتمل مصالحة وطنية دون جبر الضرر للضحايا. في جنوب أفريقيا مثلًا، لم تكن لجنة الحقيقة والمصالحة مجرد استماع للشهادات، بل تضمنت اعترافًا علنيًا واعتذارًا وتعويضات. وفي بلدان أخرى، تحوّل «الإنصاف والمصالحة» إلى أداة لترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد سنوات الرصاص.

جبر الضرر لا يعني المال وحده، بل يتسع ليشمل: الاعتراف والاعتذار، التعويض المادي والمعنوي، إعادة التأهيل الصحي والنفسي، حفظ الذاكرة في أرشيف وطني، وضمانات لعدم التكرار من خلال مدونات سلوك وآليات رقابة. بالنسبة لفلسطينيي سوريا، فإن غياب هذا المسار يعني أن الجرح سيبقى مفتوحًا بلا علاج.

لماذا الآن؟
قد يقول قائل إن الظروف السياسية لا تسمح، وإن الانقسام الفلسطيني يجعل أي خطوة من هذا النوع مستحيلة. لكن الحقيقة أن الجرح يزداد عمقًا مع الوقت، وإنكار المسؤولية يضاعف الألم. وكل يوم يمر من دون اعتراف أو تعويض يعني مزيدًا من التباعد بين الفصائل والناس، ومزيدًا من فقدان الثقة في المشروع الوطني برمته.

ما هو المقترح؟
المطلوب ليس معجزة. يمكن البدء بخطوات عملية متدرجة، مثل: إقرار مبدئي بالمسؤولية من الفصائل، إنشاء هيئة مستقلة لجبر الضرر تضم ممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني، إطلاق صندوق وطني بإسهامات الفصائل ورجال الأعمال الفلسطينيين والشتات، وتوثيق شامل للذاكرة الفلسطينية – السورية في أرشيف وطني يحفظ الحقيقة للأجيال القادمة.

لقد آن الأوان أن تتحمل الفصائل الفلسطينية مسؤوليتها، وأن تبدأ مسيرة جبر الضرر لفلسطينيي سورية. فالتاريخ لن يرحم المتقاعسين، والشعب لا ينسى.

أكثر من قانون.. مسؤولية وطنية

قد يقول البعض إن مثل هذا المشروع يحتاج إلى قانون رسمي، لكن حتى في غياب الأطر التشريعية الكاملة، يمكن البدء به كمبادرة مدنية أو ميثاق وطني جامع توقعه الفصائل وتلتزم به علنًا. المهم أن تبدأ الخطوة الأولى، لأن الانتظار يعني المزيد من الإنكار والتجاهل.

جبر الضرر لفلسطينيي سورية ليس صدقة ولا منّة. إنه حق مكتسب، واعتراف بالخطأ، وتصحيح لمسار العلاقة بين الفصائل والقاعدة الشعبية. وهو أيضًا مصالحة مع الذات الفلسطينية، تعيد الثقة إلى جمهور يشعر أنه تُرك لمصيره في لحظة تاريخية قاسية.
لقد أظهرت التجربة السورية مؤخرًا أن تحويل الممتلكات المصادَرة إلى موارد عامة يمكن أن يكون مدخلًا عمليًا للعدالة الانتقالية، كما جرى مع سيارات آل الأسد التي رُصدت قيمتها لصندوق التنمية السوري. وبالمثل، فإن الممتلكات والمبالغ المالية التي صودرت من بعض الفصائل الفلسطينية في سورية بعد سقوط النظام السابق يمكن أن تتحول إلى نموذج لجبر الضرر لفلسطينيي سورية. فهذه الأصول، التي كانت يومًا رمزًا للنفوذ أو أداة للهيمنة، يمكن أن تصبح وسيلة لتعويض الضحايا وإعادة إعمار المخيمات ودعم التعليم والصحة وحفظ الذاكرة. بذلك لا يقتصر جبر الضرر على الاعتراف والاعتذار، بل يمتد ليأخذ بعدًا عمليًا ملموسًا، يربط بين الرمزية والمصلحة المباشرة، ويفتح الطريق نحو أسس متينة لكل من العدالة والكرامة وعدم التكرار.

أخيراً
لقد آن الأوان أن تتحمل الفصائل الفلسطينية مسؤوليتها، وأن تبدأ مسيرة جبر الضرر لفلسطينيي سورية. فالتاريخ لن يرحم المتقاعسين، والشعب لا ينسى. ومع ذلك، يبقى واضحًا أن المسؤولية الأساسية عن المأساة تقع على عاتق النظام السوري البائد وحلفائه من إيران وروسيا والميليشيات التابعة لهم، الذين ارتكبوا الجرائم وحاصروا المخيمات ودمّروها وشرّدوا أهلها. غير أن هذه الحقيقة لا تُعفي الفصائل الفلسطينية من مسؤوليتها السياسية والأخلاقية، لأنها صمتت أو انحازت أو تخلّت عن واجبها في حماية أبناء شعبها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى