
دمشق – أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان بتاريخ 15 آب/أغسطس 2025 تقريراً بعنوان: “الحرب بين إيران وإسرائيل وتأثيرها على سوريا: تقييم انتهاكات السيادة، والأضرار المدنية، ومسؤولية الدولة بموجب القانون الدولي“، يتناول الانتهاكات متعددة الأوجه التي تمارسها كل من إسرائيل وإيران بحق السيادة السورية، وتحويل البلاد قسراً إلى ساحة صراع إقليمي متصاعد دون موافقة أو رغبة من الدولة السورية. يُسلط التقرير الضوء على الاستغلال الممنهج للمجال الجوي والأراضي السورية، في ظل مرحلة انتقالية هشة تمر بها البلاد بعد حقبة الأسد، مع افتقارها للقدرات الدفاعية الكافية لحماية سيادتها الوطنية. كما يُوثق التقرير الأضرار الواسعة التي لحقت بسوريا نتيجة هذا النزاع، ويُحلل المسؤوليات القانونية المترتبة على جميع الأطراف، بما في ذلك التزامات الحكومة السورية تجاه سكانها، رغم القيود الشديدة المفروضة على قدرتها على تنفيذ هذه الالتزامات.
انتهاك مبادئ القانون الدولي
أشار التقرير إلى أنَّ إسرائيل استخدمت المجال الجوي السوري بشكل مكثف ودون إذن رسمي، لاعتراض صواريخ وطائرات إيرانية، وتزويد طائراتها بالوقود جواً، وشنّ هجمات مباشرة في محافظتي درعا والقنيطرة. وفي المقابل، لجأت القوات الإيرانية إلى استخدام الأجواء السورية لإطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة باتجاه إسرائيل، منذ اندلاع الحرب بين الطرفين في حزيران/يونيو 2025.
وأكد التقرير أنَّ تحويل الأراضي السورية إلى ساحة حرب غير طوعية يشكل انتهاكاً صريحاً لعدد من المبادئ الأساسية في القانون الدولي. إذ يُعد ذلك خرقاً لمبدأ السيادة الكاملة على المجال الجوي السوري، كما تنص عليه المادة الأولى من اتفاقية شيكاغو، بالإضافة إلى كونه انتهاكاً لمبدأ السيادة الإقليمية الذي يحظر على أي دولة تنفيذ عمليات عسكرية على أراضي دولة أخرى دون موافقتها الصريحة.
كما أشار التقرير إلى أنَّ هذه الخروقات تمثل خرقاً لقانون الحياد المنصوص عليه في اتفاقيات لاهاي، حيث إنَّ إعلان سوريا التزامها بالحياد إزاء الصراع الإيراني – الإسرائيلي يُفترض أن يحميها قانونياً من أن تتحول إلى ساحة عمليات عسكرية. إلا أنَّ الواقع يظهر عجزاً فعلياً عن إنفاذ هذا الحياد المعلن، نتيجة التدمير الممنهج لقدراتها الدفاعية.
وبيّن التقرير أنَّ هذه الاعتداءات تُدخل سوريا في مفارقة قانونية دقيقة، إذ ينص مبدأ مسؤولية الدولة، وفقاً لما صاغته لجنة القانون الدولي، على أنَّه لا يجوز لأي دولة أن تسمح، عن علم، باستخدام أراضيها في أنشطة تنتهك حقوق دول أخرى. وبذلك تُحمّل سوريا مسؤولية منع استخدام أراضيها لشن هجمات، في الوقت الذي تفتقر فيه إلى الوسائل الفعلية لتحقيق ذلك.
تقييم الأثر على المدنيين السوريين والبنية التحتية
سلّط التقرير الضوء على الأضرار الواسعة التي لحقت بالدولة السورية نتيجة النزاع، ومن أبرزها:
- الأضرار المدنية والعواقب الإنسانية:
- الخسائر البشرية: وثّقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان عدداً من الإصابات المباشرة في صفوف المدنيين منذ تصاعد حدة النزاع في حزيران/ يونيو 2025، من بينها وفاة امرأة سورية إثر سقوط طائرة مسيّرة إيرانية على منزلها في ريف طرطوس. كما أسفرت التوغلات الإسرائيلية الأخيرة في محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق عن مقتل عشرة مدنيين، وإصابة آخرين، إضافة إلى احتجاز تعسفي طال أكثر من 13 مدنياً، خلال عمليات توغل عميق نفذتها القوات الإسرائيلية داخل تلك المناطق.
- النزوح القسري: تُعد أزمة النزوح من أبرز مظاهر الضرر المدني، حيث تسببت العمليات العسكرية في بلدة كويا، جنوب غرب درعا، في نزوح مؤقت لعشرات العائلات في أواخر آذار/ مارس 2025. ورغم أهمية الأرقام الواردة، إلا أنَّها لا تعكس الحجم الكامل للنزوح القسري، نظراً لأنَّها توثق فقط الحوادث المثبتة، دون احتساب النزوح التراكمي الناتج عن استمرار حالة انعدام الأمن.
- الأثر النفسي والمجتمعي
- الصدمة النفسية الجماعية: يعيش المدنيون في حالة قلق دائم جراء تكرار القصف، ما يؤدي إلى حالة تُعرف بـ “الحصار النفسي”، وهو شكل من أشكال الضغط النفسي المزمن.
- انتقال الصدمة بين الأجيال: يتعرض الأطفال لصدمات نفسية مباشرة وغير مباشرة، مما يشكل انتهاكاً صريحاً لحقوقهم المنصوص عليها في اتفاقية حقوق الطفل.
الدمار الاقتصادي وتراجع التنمية
- الأثر على القطاعات الحيوية
- القطاع الزراعي: تضررت الأراضي الزراعية والغابات في جنوب البلاد نتيجة الضربات الإسرائيلية، ما أدى إلى خسائر فادحة في المحاصيل، وانعكاسات سلبية طويلة الأمد على الإنتاج الزراعي المستقبلي.
- البنية التحتية والتجارة: أسهم تكرار إغلاق المجال الجوي والمعابر الحدودية في ارتفاع تكاليف النقل والتأمين، مما عرقل حركة الصادرات والواردات، وأثّر سلباً على سلاسل التوريد والأنشطة التجارية.
- الخسائر الاقتصادية غير المباشرة
- تجميد مشاريع إعادة الإعمار: أدى تدهور الوضع الأمني إلى تعليق العديد من المشاريع المخطط لها في مرحلة ما بعد سقوط النظام، مما يبرز الأثر العميق للصراع على جهود التنمية.
- عرقلة الاستثمارات: أسهم استمرار التوترات الأمنية في جعل البيئة الاستثمارية في سوريا محفوفة بالمخاطر، ما دفع المستثمرين الأجانب إلى التراجع، وتسبب في تجميد رؤوس الأموال المحلية.
- توقف النشاط الاقتصادي المحلي: لم تعد الشركات السورية قادرة على التخطيط أو التنفيذ نتيجة انعدام الأمن، مما أدى إلى شلل شبه تام في الاقتصاد المحلي.
- تفاقم أزمة الطاقة واستنزاف الموارد: تواجه البلاد نقصاً حاداً في الطاقة، بسبب تدهور قدرات التوليد الكهربائي والأضرار التي لحقت بشبكات النقل، الأمر الذي نتج عنه انقطاعات مزمنة وعشوائية في التيار الكهربائي.
- إغلاق المجال الجوي وآثاره
- أُغلقت الأجواء السورية مراراً بفعل تدهور الوضع الأمني، ما دفع عدداً من شركات الطيران الدولية الكبرى إلى تعليق رحلاتها إلى سوريا أو عبر أجوائها.
- لم يؤدِ تعطيل الطيران المدني إلى الإضرار بحركة المسافرين فحسب، بل أثّر أيضاً على الشحن الجوي للسلع الحيوية، كالأدوية والمعدات الطبية، مما فاقم هشاشة سلاسل الإمداد الحيوي.
التزامات الحكومة السورية بموجب القانون الدولي
ناقش التقرير التزامات الحكومة السورية تجاه السكان المدنيين، وعلى رأسها واجب الحماية، رغم ما تواجهه الدولة من قيود ناتجة عن التدخلات الخارجية. وينبع هذا الالتزام من مبدأ السيادة، ومن تعهدات سوريا الدولية، لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
غير أنَّ القدرة الفعلية للدولة على الوفاء بهذا الواجب أصبحت شبه معدومة، في ظل التدمير المتعمد لمنظومات الدفاع الجوي، ما جعل سوريا عاجزة عن أداء العديد من وظائفها الأساسية في حماية السكان.
ومع ذلك، اقترح التقرير مجموعة من الإجراءات الممكنة، التي تقع ضمن قدرة الدولة الحالية، وتشمل:
- توثيق الانتهاكات بشكل دقيق.
- تقديم المساعدات الإنسانية للسكان المتضررين.
- إنشاء أنظمة إنذار مبكر فعالة.
- تسهيل وصول المساعدات الدولية.
- تفعيل الأدوات القانونية والدبلوماسية المتاحة.
- الاحتجاج الدبلوماسي وتنفيذه
أكد التقرير على أهمية قيام الدولة السورية بتسجيل احتجاجات دبلوماسية رسمية ضد انتهاكات السيادة، باعتبار ذلك حقاً قانونياً يحفظ إمكانية المطالبة بالتعويض لاحقاً، ويحول دون تفسير الصمت باعتباره قبولاً ضمنياً. كما يُعد هذا الاحتجاج شرطاً إجرائياً أساسياً قبل اللجوء إلى القضاء الدولي، بما في ذلك محكمة العدل الدولية.
- موازنة تأكيد السيادة مع الاعتبارات البراغماتية
استعرض التقرير التحديات المعقدة التي تواجه سوريا في تأكيد سيادتها دون الانجرار إلى تصعيد غير محسوب، وأوصى باتباع نهج قانوني براغماتي يستند إلى:
- الاعتماد على أدوات القانون الدولي بدلاً من خيارات القوة العسكرية.
- المحافظة على وتيرة منتظمة من الاحتجاجات لتجنب منح شرعية ضمنية للانتهاكات.
- التمييز الواضح بين قبول المساعدات الإنسانية ورفض المساس بالسيادة.
- المطالبة بالتعويض عن انتهاكات السيادة
شدد التقرير على حق سوريا، بموجب القانون الدولي، في المطالبة بجبر الضرر الكامل عن أي أفعال غير مشروعة تمس سيادتها، وتضمّن هذا الحق أشكالاً متعددة من التعويض، منها:
- رد الحقوق: كوقف العمليات العسكرية، وانسحاب القوات الأجنبية، واستعادة القدرات الدفاعية.
- التعويض المالي: عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، والخسائر في التجارة والاستثمار، وتراجع النمو الاقتصادي.
- التعويض المعنوي: المرتبط بانتهاك كرامة الدولة والأثر النفسي والاجتماعي الذي خلفه العدوان على المجتمع السوري.
- ضمانات عدم التكرار: من خلال التزامات قانونية واضحة وآليات رقابة دولية لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.
التوصيات
أولاً: توصيات للحكومة السورية
- الإجراءات الدبلوماسية والقانونية الفورية
- تفعيل مسارات مجلس الأمن: أوصى التقرير بأن تتقدم الحكومة السورية بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن، استناداً إلى المادتين 35 و51 من ميثاق الأمم المتحدة. كما دعا إلى تحديث هذه الشكوى بشكل دوري لضمان استمرار حضور القضية على أجندة المجلس، وتوفير سجل قانوني رسمي يدعم التحركات المستقبلية. وأعربت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان عن استعدادها لتقديم الدعم الفني في هذا السياق.
- اللجوء إلى محكمة العدل الدولية: شدد التقرير على أهمية تحريك الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب رأي استشاري بشأن الانتهاكات المتعلقة بالسيادة. كما أوصى بتفعيل المادة 84 من اتفاقية شيكاغو، فيما يخص الانتهاكات الممنهجة للمجال الجوي المدني، مع الاستعداد المسبق من حيث جمع الأدلة الفنية والتحليل القانوني.
تنشيط الوكالات المتخصصة: دعا التقرير إلى التحرك عبر الأطر الدولية المختصة، من خلال:
- دعوة مجلس منظمة الطيران المدني الدولي لعقد جلسة طارئة حول تهديدات سلامة الطيران.
- المطالبة ببعثة مراقبة عربية لرصد الانتهاكات.
- طلب جلسة استثنائية لمجلس حقوق الإنسان بشأن الأثر الإنساني للنزاع.
- التعاون مع منظمة الصحة العالمية لإجراء تقييم شامل للتداعيات الصحية الناتجة عن الصراع.
- تدابير الحماية المدنية
إنشاء نظام إنذار مبكر وطني: أوصى التقرير بإطلاق منظومة وطنية متكاملة للإنذار المبكر، تشمل:
- تنبيهات فورية عبر الهواتف المحمولة.
- شبكات مجتمعية لرصد التحركات في المناطق الحدودية.
- التكامل مع رادارات الطقس والطيران.
- حملات توعية عامة لتعزيز الاستجابة المجتمعية في حالات الطوارئ.
تطوير آليات توثيق وتعويض الضحايا المدنيين:
- إنشاء سجل شامل للضحايا المدنيين والانتهاكات المرتكبة بحقهم.
- تقييم وتوثيق الأضرار في الممتلكات الخاصة والعامة.
- تفعيل برامج تعويض مؤقتة لدعم المتضررين.
- إعداد ملفات قانونية تؤهل لتقديم مطالبات أمام الهيئات الدولية مستقبلاً.
بروتوكولات حماية المرافق الحيوية:
- تعزيز حماية البنية التحتية الأساسية، مثل المستشفيات، وشبكات المياه والطاقة.
- استخدام علامات الحماية الدولية على المنشآت المدنية، وفقاً لما تنص عليه اتفاقيات جنيف.
- شراكات فنية استراتيجية
أوصى التقرير بتوسيع الشراكات الفنية على النحو التالي:
- الحصول على تقنيات الإنذار المبكر وخبرات تدريبية من الدول الصديقة.
- الاستفادة من الدعم الدولي لتعزيز حماية المدنيين.
- بناء كفاءات قانونية وطنية قادرة على خوض النزاعات القضائية الدولية.
- توثيق الانتهاكات بمنهجية قانونية معترف بها دولياً.
ثانياً: توصيات للمجتمع الدولي
- دعم مبدأ السيادة ومنع الإفلات من العقاب
تحرّك الجمعية العامة للأمم المتحدة: أوصى التقرير بأن تقوم الجمعية العامة بـ:
- اعتماد قرار يدين الانتهاكات ويدعو إلى وقفها بشكل فوري.
- تعيين مقرر خاص لانتهاكات السيادة في سياق النزاعات المسلحة.
- طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن المسؤولية الدولية في حالات عجز الدول عن حماية سيادتها.
- إنشاء صندوق تطوعي لدعم الدول المتضررة من الانتهاكات المنهجية للسيادة.
المساعدة الاقتصادية والإنمائية: أوصى التقرير بأن يعمل المجتمع الدولي على:
- إنشاء صناديق مالية مخصصة لدعم جهود إعادة الإعمار.
- توفير تيسير تجاري ودعم مباشر للأسواق المحلية.
- تقديم مساعدات فنية تعزز من قدرة الحكومة السورية على تخطيط برامج التعافي الاقتصادي.
فرض تبعات اقتصادية على المنتهكين
- تطبيق عقوبات مالية وأخلاقية تستهدف الصناعات العسكرية والكيانات المتورطة في الانتهاكات الجسيمة.
- إطلاق حملات لسحب الاستثمارات من الشركات والمؤسسات التي تسهم في تسهيل أو تمويل الانتهاكات.