
كان سقوط النظام السوري تحوُّلاً سياسياً ونهاية لحقبة استبدادية وزلزالاً وجودياً أعاد تعريف الوجود السوري وتحديد مكانه، فقد عاش السوريون أياماً من الفرح الغامر والتحرر الذي طال انتظاره، وهي لحظة تجسدت فيها أقصى درجات الوجود الأصيل الذي تحدَّث عنه هايدغر، لكن بعد انقضاء الأسابيع الأولى من النشوة، بدأ الوعي الجديد يتشكَّل ليشير إلى أنَّ الخلاص السياسي لا يعني بالضروري الخلاص الوجودي، إذ تجاوزت الأزمة حدود الجغرافيا والسياسة لتلامس جوهر الإنسان، دافعةً السوري إلى مواجهة أسئلة عميقة حول هويته ومصيره ومعنى وجوده في عالم ما بعد الطاغية، إنَّ الفكر الفلسفي، وتحديداً الوجودي، يقدم لنا عدستين حادتين لفهم هذه المرحلة المفصلية، مفهوم “الدازاين” لمارتن هايدغر، و”العبث” لألبير كامو، هذان المفهومان يضيئان على حالة الوجود السوري ما بعد التحرير، حيث يجد نفسه مرمياً في واقع جديد يواجه عبثاً لا نهائياً في سعيه نحو بناء معنى لوجوده.
أولاً: الدازاين السوري.. الوجود المرمي في عالم لم يعد له
يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أنَّ وجود الإنسان في العالم هو “الوجود-هناك”، ويطلق عليه اسم “الدازاين” وجوهر هذا الوجود هو أننا مَرْمِيُّون في واقعنا، أي أننا وُلدنا في ظروف لم نحددها. والسوري اليوم هو التجسيد الأكثر وضوحاً لهذا الرمي الوجودي. لقد وجد السوريون أنفسهم مرميين في عالم ما بعد الثورة، عالم محكوم بالصراع والنزوح والضياع، حتى بعد التحرير، لا يزال السوري يواجه حقيقة الرمي في عالم جديد لم يختر معالمه بعد، هذا الرمي ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو شرط وجودي يحدِّد كل خياراتهم اللاحقة، فالسوري الذي عاد إلى مدينته المدمَّرة، أو الذي يحاول بناء حياته من جديد، هو في كلِّ حالاته يواجه حقيقة الرمي في عالم لا يضمن له شيئاً سوى مسؤوليته عن وجوده.
إنَّ هذا الرمي الوجودي، الذي هو جوهر “الدازاين” السوري، هو ما يدفع بقوة نحو مسألة “الوجود الأصيل”. لقد تجسَّد هذا الوجود الأصيل بوضوح في لحظة التحرير التاريخية في ديسمبر 2024، حين واجه السوريون “العدم” (الموت والقمع) بشجاعة، واختاروا حريتهم ومسؤوليتهم عن مستقبلهم. كانت تلك اللحظة هي ذروة الوجود الأصيل، حيث تحرَّر الفرد من الوجود غير الأصيل الذي كان مفروضاً عليه.
يشبه السوري اليوم “سيزيف” في أسطورة كامو، الذي حُكم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة جبل لتهوي فور وصولها، ثم يعيد المحاولة إلى الأبد، فالسوريون يدفعون ثمن حريتهم بالدم، وفي كل مرة يقتربون من تحقيق هدف ما، يتدخَّل العبث السياسي ليعيدهم إلى نقطة البداية
لكن التحدي الوجودي الحقيقي يكمن فيما بعد الفرحة: هل يستطيع السوري الحفاظ على هذا الوجود الأصيل في مرحلة البناء وإعادة الإعمار؟ أم سيتراجع إلى الوجود غير الأصيل، الذي يتمثل في الانخراط في صراعات الهويات الفرعية، أو الهروب إلى اللامبالاة واليأس من جديد؟ هذا الوجود غير الأصيل هو هروب من مواجهة حقيقة الرمي ، ويظهر في حالة الجمود والانتظار التي قد تسود، حيث يتمُّ التخلي عن المسؤولية الفردية لصالح سرديات جاهزة جديدة.
ثانياً: العبث السياسي.. صمت العالم أمام نداء المعنى
إذا كان هايدغر قد قدَّم إطاراً لوصف حالة الوجود الداخلي، فإن ألبير كامو قدَّم تشخيصاً للعلاقة بين هذا الوجود والعالم الخارجي، ويكمن “العبث” عند كامو في التصادم المؤلم بين رغبة الإنسان الفطرية في إيجاد معنى للوجود، وبين صمت العالم وغياب أي استجابة منطقية أو أخلاقية. ويتجلَّى العبث السياسي في سوريا حين بدأ السوريون يصرخون بحثاً عن العدالة والمساءلة ومحاسبة من هو مسؤول عن الدمار الذي حلَّ في كلِّ مكان، لكنَّ العالم السياسي لا يجيب سوى بالصمت وهذا الصمت هو العبث حيث لا يوجد منطق أخلاقي يحكم مسار الأحداث.
يشبه السوري اليوم “سيزيف” في أسطورة كامو، الذي حُكم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة جبل لتهوي فور وصولها، ثم يعيد المحاولة إلى الأبد، فالسوريون يدفعون ثمن حريتهم بالدم، وفي كل مرة يقتربون من تحقيق هدف ما، يتدخَّل العبث السياسي ليعيدهم إلى نقطة البداية، إنَّ الشعور بأن التضحيات الجسيمة لا تقابلها نتائج منطقية أو عادلة هو جوهر هذا العبث، فبعد كلِّ هذه التضحيات، وفي ظلِّ عدم الاستقرار السياسي الذي أعقب سقوط النظام، لا يزال السوري يواجه تحديات الوجود اليومي، فوضى ما بعد التحرير، وتعدد السلطات، وغياب الدولة الموحدة، كلُّ ذلك يجعل بناء الدولة أمراً شاقاً، ويشكِّل عبثاً جديداً يضاف إلى العبث القديم.
لكن كامو لا يدعو إلى اليأس، بل إلى التمرد على العبث، أي الفعل الوجودي المتمثِّل في الوعي بالعبث ورفض الاستسلام له، فالسوري الذي يصرُّ على التعليم، أو يكتب قصيدة في المنفى، أو يوثِّق جريمة رغم المخاطر، هو سوري متمرد على العبث، إنه يقرر أن يخلق معنى ذاتياً في عالم لا يمنحه معنى لوجوده، هذا التمرد هو جوهر الهوية السورية الجديدة، الهوية التي ينبغي أن تتشكَّل في الفراغ بين “الدازاين” و”العبث”، هوية ترفض أن تكون مجرد رقم في إحصائية، أو ضحية صامتة في لعبة القوى الكبرى.
ختاماً، إنَّ الهوية السورية المعاصرة ليست كياناً ثابتاً، بل هي عملية وجودية مستمرة تتشكَّل في الفراغ بين “الدازاين” و”العبث”، في نهاية المطاف، يجد السوري نفسه أمام خيار وجودي حاسم بعد سقوط النظام، إما الانزلاق إلى الدازاين غير الأصيل والعيش في حالة من التبعية واليأس، أو تبنِّي التمرد الكاموي والعيش بوعي كامل للعبث، فحالة الوجود غير الأصيل تتجلَّى اليوم في الانزلاق نحو التبعية للجهات المانحة أو القوى الإقليمية، حيث يتحول الفرد من فاعل وجودي مسؤول إلى مجرد أداة في يد سرديات خارجية، هذا الهروب من مواجهة الحقيقة الوجودية للتحرر هو ما يعيق بناء هوية سورية جديدة، هوية قادرة على تحمل مسؤولية ما بعد السقوط، إن التحدي الوجودي يكمن في استعادة اللحظة الأصيلة للثورة، لحظة الاختيار الحر، وتطبيقها على تحديات البناء الجديدة.
المصدر: تلفزيون سوريا






