
لديّ أمل ضعيف حاليًا بإمكانية بلورة رؤية سياسية عامة وشاملة يمكن أن يتفق عليها السوريون، بسبب تعقيد المشهد السوري الداخلي وتداخله مع ملفات إقليمية وعالمية معقدة.
لا يملكون فيها شيئًا لكنها بلدهم
عفوًا، ماذا قلت؟ سوريون؟ نعم، سوريون! لكنهم ، أيها الفيلسوف، ليسوا في مركب واحد يسافرون. فثمّة سوري ما زال عالقًا في مخيمات اللجوء اللبنانية أو الأردنية، أو حتى في مخيمات الشمال السوري، وأكاد أجزم أن هؤلاء الملايين الفقراء لا يملكون شيئًا سوى وجوههم المتعبة وأرواحهم التائهة، التي تتابع الأخبار وتأمل في حلول واقعية تسمح لهم بالعودة إلى بلادهم، رغم أنهم لا يملكون فيها شيئًا. مع ذلك، هي بلادهم.
القاسم المشترك بين هذه الملايين هو القلق والخوف. نعم، الخوف يرافق السوري منذ عقود، والآن زاد خوفه أكثر، فلا يكاد يمرّ يوم في أوروبا إلا ونسمع خبرًا جديدًا عن إمكانية الترحيل إلى سوريا!
منذ لحظة هروب الأسد وحتى اليوم، ننام على خبر ونصحو على آخر: كل من لم يندمج من فئة الشباب سيُعاد ترحيله، خاصة من أصحاب الحماية الثانوية، وقد بدأ المكتب المختص بالهجرة واللجوء بمعالجة بعض طلبات اللجوء.
ترحيل السوريين
ترحيل السوريين! كم أقلقت هذه الكلمة اللاجئين. منذ عام 2015 وهذا الخبر يعود، وبصيغ متعددة، ويبهّره أصحاب القنوات على “يوتيوب” بمزيد من بهارات الرعب للتشويق. فيلتهم المهاجر الخبر رغم إحساسه النسبي بالأمان.
منذ أيام، بدأت ألمانيا بتطبيق سياسة الترحيل، حيث تم ترحيل عائلة سورية كبيرة مكوّنة من 13 فردًا ارتكبوا جميعًا أعمالًا جنائية مخالفة للقوانين، حيث تم ترحيلهم عن طريق تركيا إلى سوريا.
لن يزعل كثيرون على هؤلاء لأنهم يستحقون الترحيل، ولكن ثمّة ما هو مخفي وموجع في الخبر: فالترحيل إلى الوطن عقوبة؟ وشرحها يعني أنك، أيها المخالف للقوانين، لا تستحق حتى أن تُسجن في ألمانيا.
والوطن؟ هل قلت وطن؟ وكم تاجر بهذه الكلمة أسديون وغير أسديين! وكم باعونا عبرها أوهامًا، وبمجرد لحظة الانفجار السوري الكبير تبخرت الكثير من الأوهام وبقي الواقع العاري المرعب، واقع دفع ضريبته الملايين، وخاصة فقراء هذا البلد، وما أكثرهم.
كأن السوري يمشي في الفراغ
كأن السوري الآن يمشي في الفراغ؛ لا أرض تريده، ولا جاذبية تشدّه، ولا سماء. كأن القلق قدره أينما حلّ. كل يوم تصريح جديد للسياسيين الأوروبيين عن إعادة اللاجئين. فمنذ لحظة هروب الأسد وحتى اليوم، ننام على خبر ونصحو على آخر: كل من لم يندمج من فئة الشباب سيُعاد ترحيله، خاصة من أصحاب الحماية الثانوية، وقد بدأ المكتب المختص بالهجرة واللجوء بمعالجة بعض طلبات اللجوء.. إلخ.
كأننا جميعًا نشبه بطلة قصة تشيخوف الشهيرة “المغفلة”، تلك الخادمة التي اختبرها صاحب البيت الذي تعمل فيه، وصار يحسم من فاتورتها الكثير من الحسومات الظالمة، ورغم أنها تعرف أنها مظلومة، لم تنطق بأي كلمة تعبّر عن رفضها.
يريد هؤلاء الحصول على حقوقهم الأساسية، ومنها حق السكن والطعام والشراب والأمان والتعليم.
يريدون طيّ صفحة الماضي والبدء بحياة جديدة تليق بهم كبشر. يريدون أن يشاهدوا بلدهم وقد بدأ بالتعافي، وإعادة الإعمار ليست جملة سهلة المعنى أو التطبيق، فهذه وحدها تحتاج إلى خبراء حقيقيين في علم السياسة، ليعرفوا من أين يبدؤون، وما السبل الكفيلة بسلوك الطرق الآمنة للبدء.
هذه المأساة السورية المترامية الأطراف والمستمرة تحتاج إلى سياسيين قديرين يتعلمون رغم خبراتهم، ويقدّرون خطورة كل خطوة يخطونها، لأن عليهم مسؤولية سياسية وأخلاقية ضخمة جدًا.
فحين ينطفئ الحريق، يحتاج أهل البيت الناجون لتلمّس خطوات الخلاص والبحث عن طرق صحيحة لإعادة الترميم. فماذا لو كان هذا البيت المحترق وطنًا بكامله!
تحتاج إعادة إعمار سوريا إلى مئات المليارات، وإعمار الروح السورية يحتاج إلى عمل سياسي وقانوني مستمر.
القليل من التواضع في التعامل
بلد يصحو كل يوم على خبر اكتشاف مقبرة جماعية جديدة، يستحق من الجميع التواضع والعمل الدؤوب والصامت. فمساعدة الناس لبعضهم بعضًا لا تحتاج إلى كاميرات وأضواء، إنما إلى صمت وشغل مستمر.
أعرف أن كثيرين يعملون بصمت، وثمة منظمات مدنية وجهات محلية ودولية تساعد وتقدّم وتشتغل ليلًا ونهارًا، وهناك سوريون في كل الأمكنة يعملون ويقدّمون كل جهد ممكن. ومع ذلك، فإن هذا البلد المنهك يحتاج إلى المزيد والمزيد من الجهود على كل المستويات.
وقبل كل شيء، واحترامًا لحجم الضحايا والتضحيات، يجب التوقف فورًا عن ارتكاب جريمة نشر الكراهية، حيث اعتاد واستسهل الكثيرون، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، شتم كل رأي معارض وناقد.
ويجب محاسبة كل شخص يرتكب هذه الجريمة قانونيًا، فهذا البلد المنهك يحتاج إلى قانون وخطاب وطني جامع يشمل جميع أبنائه. ويجب أن نتعلم أن الحقوق ليست منحًا من الحكومة أو السلطة تُعطى للناس، وبالمقابل فإن الواجبات المطلوب تنفيذها من الجميع على حدّ سواء هي بنفس السوية من الفهم والمعاملة القانونية.
في هذا العالم، عبر تاريخه وحاضره، الكثير من المآسي والكوارث، وهناك شعوب نجت وتتابع الآن طريقها، بينما تنتظر شعوب أخرى بعد. أي إننا لسنا استثناء من ناحية الكارثة التي تسبب بها عهد أسدي قمعي شمولي مرعب. ونحن الآن، وفي كل وقت، بحاجة إلى فتح الطرق الآمنة للتعافي والشفاء، وهنا لا أحتاج لإعادة تكرار كمية الجرائم وحجم الكارثة السورية.
وكلما ذكرت بعض الأهوال التي عاشها السوريون، يجيبني أصدقائي الألمان، وخاصة كبار السن، قائلين: لقد عشنا تجربتنا القاسية جدًا في الحرب العالمية الثانية التي استجلبها الحزب النازي وزعيمه هتلر.
ليست نصائح إنما طريق طويل
تحتاج إعادة إعمار سوريا إلى مئات المليارات، وإعمار الروح السورية يحتاج إلى عمل سياسي وقانوني مستمر. ولا بدّ أن يتوقف أولئك الذين يتاجرون بالمأساة السورية، خاصة الساعين وراء مكاسب مادية أو سياسية، ونحن نعرف من هم هؤلاء. فالجريح ينتظر إسعافًا وخدمة طبية، لا تاجرًا يبيعه.
والسؤال الذي يبقى عالقًا في البال: هل نسير نحن في الطريق الصحيح؟
ربما علينا أولًا أن نقدّم هذا السؤال إلى السوريين في المخيمات ليجيبوا عليه، ثم إلى الجميع.
المصدر: تلفزيون سوريا






