هل تخرج السويداء من عنق الزجاجة؟

أحمد مظهر سعدو

تواكب الحالة المتغيرة في الجنوب السوري، وخاصة في السويداء وجبل العرب، جملة من الديناميات التي تسهم في بقاء الوضع على حاله، من دون إمكانية حقيقية أو ملموسة باتجاه الوصول نحو حل موضوعي ووازن وجدي يرضي الجميع، ويحافظ بالضرورة على إمكانية خروج منطقة السويداء برمتها من احتباس ليس حراريًا هذه المرة، بل أقرب ما يكون إلى مشهد فوران مجتمعي تتصارع رؤاه وتتنوع بين العودة المظفرة إلى الوطنية السورية المندمجة في أتون ومخرجات الدولة السورية، أو محاولة الانزياح باتجاهات أخرى، قد تكون تساوقًا مع ما يطرحه البعض من الاشتغال بطريقة ما على موضوع إقامة كيان لحكم ذاتي ينوس إجرائيًا وملموسيًا بين فكرة الحكم الذاتي والإدارة الذاتية، أو الانفصال التام عن الجسم الوطني والدولة الوطنية السورية الموحدة.

وإذا كانت جموع الناس عمومًا وأنساق المجتمع المدني في السويداء في كليتها، لا ترى في الخروج بعيدًا عن الدولة السورية حالة ممكنة أو مرغوبة لديها، إلا أن البعض الآخر، الذي ما زال يعتقد واهمًا أن إسرائيل تحرص عليه وعلى مجموعاته العسكرية، وأنها بصدد فرض دويلة ما في الجنوب السوري على قده ومقاسه، هو نفسه الذي لم ينفك حثيثًا يحاول المراهنة على ورقة الخارج والاحتماء بالكيان الصهيوني، لكنه لم يدرك بعد أن إسرائيل، سواء كانت بقيادة نتنياهو أو سواه من قادتها، تحرص على مصالحها أولًا، ويمكن أن تتخلى مباشرة عن أي مجموعة تابعة لها أو مدعومة منها، بمجرد أن تجد مصالحها تميل نحو مساحات وحيازات أخرى، أو ضمن سياقات حيز آخر من حقل السياسة البراغماتية لها، أو على أساس انجدال مصالحها وتحققها عبر مسارات أخرى.

الدولة السورية لا يمكنها أبدًا التوقيع على أي اتفاق سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من دون عودة الجولان كاملًا إلى الدولة السورية الموحدة.

اليوم، وكما يعلم الجميع، فإن هناك مفاوضات تجري، صحيح أنها متقطعة، غير مباشرة أو مباشرة، تسير رويدًا رويدًا بين إسرائيل والدولة السورية الوليدة، وهناك رعاية دولية أميركية، تركية، أذربيجانية، وإماراتية لها، وهناك حرص إقليمي ودولي على الوصول إلى خواتيمها المرجوة دوليًا وإقليميًا. كما أن هناك بعض التقدم في مسارات هذه المفاوضات، ويبدو أنها ستكون الأقرب إلى تسوية أمنية ليس إلا، ترتبط بإشكالية احتلال المنطقة العازلة التي دخلتها إسرائيل بعد سقوط نظام بشار الأسد، من دون التطرق من قبل المفاوضين لدى الطرفين إلى حالة اتفاقات سلام شامل، لا يبدو أن إسرائيل ولا حتى الحكومة السورية الحالية جاهزة للولوج فيه، لأن إسرائيل لا يمكنها حاليًا التخلي عن الجولان السوري المحتل من قبلها منذ 5 حزيران/ يونيو 1967، حيث سبق أن اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى بسيادة إسرائيل على الجولان، كما أن الدولة السورية لا يمكنها أبدًا التوقيع على أي اتفاق سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من دون عودة الجولان كاملًا إلى الدولة السورية الموحدة.

من هنا، كانت الأمور، ضمن هذه السياقات المتحركة (كما يبدو)، ذاهبة نحو تفاهمات أمنية سورية – إسرائيلية مرتبطة ببعض الملفات العالقة، ومنها بالضرورة موضوع المنطقة العازلة. وفيما لو تم ذلك، فسوف يجد حكمت الهجري نفسه، مع مجموعاته العسكرية المدعومة إسرائيليًا، في مهب الريح، تتقاذفه الأمواج، وتعتريه كثير من حالات الفوات غير المسبوقة، التي لن تنتج شيئًا يُذكر لمصلحة كيانه المرتجى.

ويبقى الحال الوطني السوري الجامع، والحوار المستمر والمنفتح بين الدولة السورية ومجمل أنساق النخب والوجهاء والفاعلين الأساسيين في السويداء وجبل العرب، وكذلك أهمية إشاعة وتشجيع الحوار السوري – السوري الشامل، هو الحل والملاذ من أجل خروج آمن من عنق الزجاجة، والعودة إلى الوطنية السورية التي تجمع ولا تفرق، توحد ولا تبدد، تعيد المسارات إلى سابق عهدها، وتعيد إنتاج المسألة الوطنية السورية على أسس جديدة، من دون التخلي عن فكرة وضرورة وأهمية المحاسبة وجبر الضرر، وهي أساس مهم من أساسات العدالة الانتقالية، ومحدد أساسي في عملية الولوج ضمن أتون قضية السلم الأهلي المبتغى، الذي كان الشعب السوري وما يزال يصبو إليه ويعمل على أساسه.

المشهد السوري اليوم برمته متحرك ومتغير سياسيًا وجيوسياسيًا، ومليء بالتحديات، لكن الوعي المجتمعي السوري، والفكر الوطني المستنير، واستمرار الحوار، قادر على إعادة إنتاج الوطن السوري على أسس بنيوية عالية المستوى وتوحيدية بالضرورة.

وإذا كانت متغيرات المسارات في السويداء ما برحت في حالة عثار كبير، إلا أن النيات الطيبة والحسنة وبلسمة الجراح ما زالت ممكنة وحاضرة بحق وجدية. ولعل عملية إعادة تفعيل الحوار الوطني إلى الطاولة المستديرة باتت ضرورة وطنية، لا يمكن اليوم الحياد عنها، حيث من الممكن أن تندمل الجراح من جديد، فيما لو وُجدت أن الفسحة الحوارية الجدية باتت متوفرة، وفيما لو توقفت إسرائيل عن تدخلاتها البينية التي تحول حاليًا دون التوصل إلى توافقات وطنية سورية، تقتنع بحق أن السلاح لا يجوز أن يكون متفلتًا، ولا يحق لأحد أن يمتلكه، ولا يجب أن يبقى إلا بيد الدولة ومؤسساتها، حيث يتوجب على الدول فقط مسؤولية حماية أبنائها وشعبها بكليته وجموعه.

لا يمكن للفكر الطائفي المتشدد أن يبني دولة، أو أن يسهم في قيامها، ولا يمكن أيضًا للقطيعة بين أطراف الوطن الواحد أن تسهم في بناء الدولة الواحدة، إذ لا مناص من العودة الواعية والعقلانية السياسية إلى طاولة الحوار وجبر الضرر لدى الجميع بلا استثناء، وإعادة قيامة الوطن السوري الواحد الموحد من جديد، الخالي من كل النزعات ما قبل وطنية من عشائرية وطائفية وسواها، الحوار الذي يعتمد على توافقات وتفاهمات وطنية، “لا يوجد فيها أي مطلق سوى الله، وما عدا ذلك فنسبي وتاريخي، نحن منه حركة وعي إنساني يتقدم ونحن فيه حركة جدال”.

المشهد السوري اليوم برمته متحرك ومتغير سياسيًا وجيوسياسيًا، ومليء بالتحديات، لكن الوعي المجتمعي السوري، والفكر الوطني المستنير، واستمرار الحوار، قادر على إعادة إنتاج الوطن السوري على أسس بنيوية عالية المستوى وتوحيدية بالضرورة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى