الشباب الفلسطيني، أسئلة الهوية وتحديّات الخروج من الشرانق الخانقة

أيمن أبو هاشم

التفكير والكتابة وإطلاق نقاش عام، حول تحولات الواقع الفلسطيني، وتأثيراتها على وعي الشباب الفلسطيني، لذواته الفردية، وهياكله الجمعيّة، ومكنون رؤيته لقضيته الوطنية وجدليات ارتباطه بها، ومستويات تفاعله مع انتفاضات وثورات الشعوب العربية. لا يبدو اليوم أنها مهمة نظرية سهلة، بحكم تردي أحوال المشهد الوطني الفلسطيني، ومنعكساته العميقة على أجيال الشباب الفلسطيني، في مختلف أماكن انتشارهم. بيدَ أن ثمة دوافع وتحديّات مركبة ومُلّحة، تفرض إنضاج مقاربة فكرية/ سياسية، لا تقف عند حدود التشخيص النقدي، حول تلك المسائل المعقدة وأسئلتها الشائكة، بل الانتقال إلى صياغة أجوبة من صميم الواقع، بهدف تلّمس ممكنات استنهاض دور الشباب الفلسطيني، في عملية التغيير الوطني، التي بات يشكل احتجازه عن خوض غمارها، خسارة كبرى بحق فلسطين ومصير شعبها.

لعل من أكثر الدوافع الواقعية والعملية، التي تحثنا وبقوة على المساهمة في صياغة وبلورة تلك الأجوبة، إنما تكمن في المعضلة المتفاقمة، التي لاتزال تحول فعلياً دون تصريف طاقات هذه الكتلة المجتمعية، الأكبر كماً وحضوراً وعطاءً، في سياقات توظيف الأداء النوعي الذي تتميز به، بما يضخ الحيوية والحياة في شرايين الواقع الفلسطيني، التي أصابها التصلب والانسداد. وهي عملية إنقاذيه لا مناص منها، لاستيلاد مرحلة وطنية جديدة، تقوم على انتزاع الشباب لدورهم بأيديهم، وليس التعويل على منحهم هذا الدور، من أية جهة تحتكر تمثيلهم دون وجه حق. غير أن وعي ديناميات العلاقة بين الكمي والنوعي في تناول قضايا الشباب، لا يتوقف فحسب على العلاقة الطردية، بين الجداول الإحصائية المتعلقة بأعدادهم وفق شرائحهم العمرية، وما تعكسه مؤشرات التنمية وغيرها، في تحديد نسبة فاعليتهم ومشاركتهم في الشأن العام. ذلك أن ما هو كامن ومختزن بين حدّي هذه العلاقة، يحتاج إلى استقراء بأدوات ومعايير، تُحيط وتلتقط تأثير المتغيرات السياسية في المحيط العربي، ودورها في تحفيز إرادة المشاركة والتغيير لدى الشباب الفلسطيني، أو انكماشها.

 يشكل الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين (18-29عاماً) حوالي 23%، من المجتمع، وفق الإحصاء الرسمي الفلسطيني، غير أن هذه النسبة التي تستند إلى حدٍ كبير، للمعايير الدولية في تحديد سن الشباب، لا يمكن اعتبارها نسبةً دقيقة، لأن تعريف الأمم المتحدة للشباب (وهو تعريف إجرائي لا يتسم بإطلاقيه، ويترك لكل دولة تعريفها الخاص) يستند على الفترة الفاصلة بين انتقالهم من سن المراهقة، إلى الانخراط في دورة الحياة الاقتصادية، وسوق العمل، ومشاركتهم السياسية. هذه المعايير لا تنطيق على سن الشباب في العالم العربي عموماً، الذي يشمل من هم أقل من (18عاماً) ويمتد إلى ما فوق (30عاماً)، بحكم تخطي نسبة كبيرة منهم ال(40 عاماً) ولازالوا على لوائح البطالة، إضافة إلى عوامل بيولوجية واجتماعية ونفسية متعددة. ما يرجح الفرضية التي ترى بأن نسبة الشباب الفلسطيني ” إناثاً وذكوراً ” تتجاوز النسبة المعتمدة رسمياً في مناطق السلطة الفلسطينية، وهي لا تمتد إلى نسبتهم الفعلية في مناطق لجوئهم خارج فلسطين. بما أن المجتمع الفلسطيني يتميز بخصوبة عالية، فإن هذه النسبة تتزايد تصاعدياً، وتضم أعداداً كبيرة من حملة الشهادات المتوسطة والجامعية والعليا، قياساً ببقية البلدان العربية، وهي غنيّة بالتنوع الاجتماعي والثقافي والمهني، وبالكفاءات والطاقات في مختلف المجالات.

بدايةً ثمة أهمية لتحرير مصطلح الشباب عموماً، والشباب الفلسطيني بوجهٍ خاص، من النظرة النمطية، التي تُعرّف الشباب بوصفهم فئةً أو شريحة “مُتخارجة” عن المجتمع، وكأنهم ذات حقوق ومصالح ومطالب، مختلفة عن بقية فئات المجتمع، وهي النظرة التي تقوم عليها مقولة ” صراع الأجيال ” التي تحرف الأنظار بدورها عن طبيعة الصراع الحقيقي في أي مجتمع، بين قوى سياسية ومجتمعية متباينة من حيث السلطة والثروة وفرص الحياة.

بناءَ عليه يغدو مفهوم الوحدة الجيلية للشباب، بمثابة تعميم اختزالي للفروقات بين فئاتهم العمرية، وتباين نزعاتهم ومصالحهم وتوجهاتهم. لذلك نحن إزاء كتلة مجتمعية، يكمن ثقلها التاريخي النوعي، بما تمتلكه من طاقات وإمكانيات هائلة، يتوقف عليها -إذا قُيض لها تفعيل دورها في الشأن العام – نهوض المجتمع الذي تنتمي إليه، وعبوره نحو المستقبل الموعود.

تأثير التحولات على نظرة الشباب لأنفسهم وعلاقتهم بقضيتهم.
 لطالما كشفت محطات التجربة الفلسطينية، عن أثر توزع الشباب على سياقات جغرافية/ وسيسيولوجية متعددة، كأحد العوامل الأساسية التي فرضت تأثرهم ببيئات مجتمعية مختلفة. في كل مرة كانت تتعرض البيئات التي يعيشون فيها، لأزمات وحروب وصراعات حادة، كان سؤال الهوية يبزغ جيلاً بعد جيل، كلّما تعرضت المشتركات الوطنية بفعلها للاهتزاز والتصدّع. رغم ذلك كان ارتباطهم بالثورة الفلسطينية في مراحل عنفوانها ونهوضها، قد خلق لديهم قدراً كبيراً من التوازن والثقة بالذات الجمعيّة، إلا أن بدأت مراحل الانكسار والتراجع، لا سيما بعد تداعيات خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، التي عصفت بالكثير من أحلام وآمال الأجيال الذي عايشت تلك المرحلة. ثم تتالت وقائع الافتراق والتنازع على مضمون فكرة الإجماع الوطني، إثر تحول مركز الثقل السياسي والمؤسساتي الفلسطيني، من ساحات اللجوء إلى الداخل الفلسطيني، عشية اتفاق أوسلو عام 1993، وصولاً إلى نتائج الانقسام الفلسطيني المُهلك منذ العام 2007، وما نجم عنه من فصل جغرافي وسياسي واجتماعي بين الضفة وغزة. أدت تلك التحولات العميقة، إلى طغيان شعور عارم لدى الشباب، بوجود خطر على مشتركات الهوية الوطنية التي يجتمعون عليها.  في حين كانت الصراعات والحروب، التي شهدها الشباب الفلسطيني في المنافي -كما أمسى عليه الحال في تجربتهم السورية -كفيلةً باستحضار أزمة الهوية في أطوار تصدّعها الحادة. بمعنى أن تحولات الواقع الفلسطيني، أفضت بعد تدهور المشروع الوطني، في حقبة ما بعد أوسلو على وجه التحديد، إلى تغييرات عميقة في وعي الشباب الفلسطيني لأنفسهم. فقد ولد ونشأ جيل جديد في الداخل الفلسطيني، على وقع الانقسام والصراع الداخلي، لم يختبر في زمن السلطتين المتصارعتين، سوى التهميش والبطالة والغضب من التباس المشهد، بين مقاومة الاحتلال، وبؤس التمثلات السلطويّة والفصائلية على المستوى الوطني. بينما أخذ ما ورثه من جيل الانتفاضتين الأولى والثانية، من حنين إلى زمن كفاحي زاخر بالصور المشرقة، يتآكل رويداً رويداً بفعل تكلس الاستجابات على أسئلة وتحديّات الواقع. الأخطر من ذلك ما فرضته تلك التحولات والحقائق، من اختلافات كبيرة في أولويات الشباب، تبعاً لاختلاف ظروف الحياة ومشكلاتها ما بين الضفة وغزة، والأوضاع الخاصة التي فرضتها سياسات الأسرلة، بحق شباب القدس، والمتواجدين في الأراضي المحتلة عام 1948. بالتوازي مع تهميش مجتمع اللاجئين خارج فلسطين، وشعور الشباب اللاجئ أنه أصبح خارج المعادلة الفلسطينية في زمنها السلطوي، ما فاقم من تباعد المسافة الوطنية والوجدانية بينه، وبين تقسيمات مجتمع الداخل الفلسطيني.

تعدّى ذلك الفصل والتفكك في مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، دور الاحتلال الصهيوني، ومسؤوليته عن تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية، والفصل بين المجتمعات الفلسطينية حسب توزعها بعد نكبة 1948، وهزيمة حزيران 1967، إلى مسؤولية العامل الذاتي الفلسطيني، في تمزيق المظلة المعنويّة التي كانت تجمع الكل الفلسطيني، وهي منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تحولها عشية أوسلو إلى مجرد جثة هامدة، يجري استحضارها لتمرير قرارات وسياسات، تزيد من إضعاف مكانتها الوطنية، ووأد دورها الكياني. هذا المسار الدراماتيكي وحصاده المرير، أدى إلى تقلبات في سؤال الهوية وتباين أولوياته، وهواجسه، وتعبيراته. ما ترك تداعيات وبصمات عميقة على وعي الشباب الفلسطيني لذاته، حسب الجغرافية والقوى التي تحكم حياة التجمعات الفلسطينية. هذه الوضعية التي أصابت الكينونة الهوياتية، بانزياح عن عناصرها المشتركة، كشفت حالة التناقض بين كينوناتها المتعددة، خلافاً لمفهوم الهوية باعتبارها حسب قاموس أكسفورد” حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة حد التطابق التام أو التشابه المطلق “.

 مع غياب أية محاولة أو مشروع لمعالجة هذه الأزمة البنيوية، التي تجاوزت الاستعصاء الوطني والسياسي، نتيجة افتقاد أدبيات وبرامج الفصائل الفلسطينية، لأي رؤية أو مقاربة، فيهما الحد الأدنى من الحساسية والجديّة، لفهم مشكلات وأسئلة الهوية التي داهمت الشباب الفلسطيني. تراكمت على الضفة المقابلة مشكلات وتحديات وثيقة الصلة بحياة الشباب ” الحريات والتعبير عن الرأي – المشاركة السياسية -التعليم -العمل -التنمية –الصحة ..الخ “. أوضحت تلك التحديات النسبية وفق اختلاف أشكال الحوكمة في المجتمعات الفلسطينية (احتلال – سلطتين فلسطينيتين– أنظمة عربية) أن ثمة جدلية لا تنفصل بين الوطني والإنساني، وبين الخاص والعام، وبين الفردي والجماعي، وأن الفشل في التنمية وإدارة الشأن العام، يُعمّق من سؤال الهوية ويُضاعف من هواجسه بلا هوادة.

كان أوضح مثال على ضمور وغياب تلك الجدلية، من ذهنية التركيبة الفصائلية، انكفاء واستدارة الشباب الفلسطيني، عن البنى التنظيمية التقليدية من جهة، مع انكشاف الفجوة بين النزعات المجتمعية المحافظة في المجتمع الفلسطيني، ونزعات التجديد والتغيير لدى الشباب من جهةٍ أخرى. ما يفسر بوضوح، تمرد الأجيال الصاعدة على مركبات القهر والتهميش والبؤس، التي وجدوا أنفسهم يرزحون تحت وقائعها القاسية، ورفضهم أن يكونوا أذرعاً استخدامية للفصائل، لا صوت وازن لها في صناعة القرار الوطني (أظهر تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2019، أن نسبة الشباب العاملين في مراكز صنع القرار الفلسطيني لا تتجاوز (1%). لعلّ انتشار مئات المراكز والمنتديات الشبابية “المُستقلة”، في الضفة وغزة خلال السنوات التي تلت أوسلو، لم تفلح بدورها في استعادة الشباب إلى حقل السياسية، بل وأدق من ذلك، لم يكن ضمن برامج الجهات المُمولة لها، تحفيزهم على المشاركة السياسية، بل على العكس من ذلك، كان التركيز على البرامج التنموية والجندرية والتوعوية، دون خطة وطنية تقوم على إشراك الشباب في المجال السياسي، تغميس من خارج الصحن، وتبديد لفرص قيام أطر شبابية فاعلة ومؤثرة، تعوّض الفراغ الناجم عن قصور المنظمات الشبابية، والهيئات الطلابية التابعة للفصائل. في الوقت الذي كانت تشتد   الحاجة في أوساط الشباب، إلى بناء تجمعات وهيئات تمازج بين الهمين الوطني والإنساني، وترسخ القيم الديمقراطية، من انتخابات وأفكار وبرامج حداثيّة. علماً أن آخر انتخابات للاتحاد العام لطلبة فلسطين، وكان المؤسسة الطلابية الفلسطينية الأهم، قد جرت في عام 1990.

لم يكن حال الشباب في دول اللجوء والمنافي أفضل حالاً، فعدا عن تهميش حقبة التسعينات وما تلاها، لدورهم وحضورهم في الحياة الوطنية الفلسطينية، كان ضيق مساحات الحرية في بلدان لجوئهم العربية، والضغوطات المعيشية والاقتصادية والنفسية التي يكابدونها، تقف عائقاً أمام توليد أطر شبابية تتمتع باستقلالية نسبية، حتى الهيئات واللجان التي تشكلت منذ منتصف تسعينات القرن الفائت، في سوريا ولبنان  والاردن، تحت عناوين الدفاع عن حق العودة لللاجئين، بعد وضوح مخاطر اتفاق أوسلو على قضيتهم، لم تكن قادرة على احتواء شرائح واسعة من أجيال الشباب، التي أصبحت تنفر حتى من الأطر الأهلية التقليدية، وتلوذ إلى تشكيل نوافذ ثقافية وفنيّة تعبر من خلالها عن مشكلاتها وهمومها.

 المفارقة التي أظهرها ذاك السياق المتغير في وعي الشباب لأنفسهم، ومكنون علاقتهم بقضيتهم، تجلت في تباعدهم عن التشكيلات الحركية الفصائلية، وذهابهم إلى إطلاق حراكات شبابية مستقلة، لم تسعفهم الأخيرة بالتعبير عن أصواتهم كما يأملون، لأسباب وعوامل عديدة سنأتي على ذكرها لاحقاً، لكنها كشفت المأزق الحاد الذي يسوّر حياتهم وتطلعاتهم، ويضعهم خارج معادلة الفعل والتأثير بصورة مؤلمة.

الشباب الفلسطيني في حقبة الانتفاضات والثورات العربية.
لم يكن الشباب الفلسطيني بمنأى عن ارتدادات الانتفاضات والثورات، التي بدأت في تونس عام 2010، ثم انتقلت تباعاً إلى العديد من الدول العربية، ولم يكن مصادفةً أن يكون الشباب العربي الغاضب، على أنظمة الفساد والاستبداد التي تجثم على صدور أوطانه، هو من أشعل شرارة تلك الثورات، وكان من طلائعها الثائرة في الميادين والساحات. اتخذ تفاعل الشباب الفلسطيني مع الثورات العربية المتنقلة، أشكال ومستويات مختلفة ونسبية، تبعاً لاحتكاكه المباشر بها أو غير المباشر، لكنها طرحت عليه منذ بداياتها، سؤال العدوى الذي جعلها تجتاح المجتمعات العربية، وهو كيف يمكن أن يجترح الشباب الفلسطيني ربيعهم الخاص، في ظل الانقسام الوطني والجغرافي الذي يظلل حياتهم !؟. أحيا بقدر ما فرض هذا السؤال الطاغي، سلّم الأولويات والخيارات التي تستوجب التفاف الشباب الفلسطيني حولها، للتعبير عن أصواته ومطالبه، ودوره في تغيير الواقع الفلسطيني. هنا سنجد أشكال مختلفة من استجابات الشباب الفلسطيني، مع هذا الاستحقاق، حيث تعددت رؤى ومواقف الشباب في المناطق، التي شملها الحراك في الداخل الفلسطيني (الضفة – غزة -القدس-أراضي 48)، وتعددت شعارات ومطالب كلٍ منها، وتوزعت ما بين “الشعب يريد إنهاء الانقسام” و”الشعب يريد إنهاء الاحتلال” و”الشعب يريد العودة” و”الشعب يريد إسقاط الفصائل” و ” لا للمفاوضات العبثية ” و ” الكفاح المسلح طريقنا”.. الخ

ما بين الأعوام 2011 و2016، وهي الفترة التي انبثق ونشط خلالها الحراك الشبابي في الداخل، وظهر جلياً ارتدادات الثورات العربية على تجربته الخاصة، لم يصل إلى درجة استقطاب الجمهور بما يكفي لتحقيق قفزة مطلبية ثورية. كان لذلك أسباب عديدة من أهمها، عشوائية الحراك وعفوية خطواته، وافتقاده آليات التنظيم الضرورية لتأطير أنشطته ومطالبه، علاوةً على محاولات الفصائل احتواء طابعه المستقل، واتساع رقعة الشبكة المطلبية الفلسطينية وكثرة عقدها. أما “مسيرات العودة وكسر الحصار” التي بدأت في غزة، 30 آذار/ مارس 2018، ورغم توظيفها من ادارة حماس وحلفائها في غزة، لتحقيق مكاسب سياسية معينة، غير أنها أظهرت درجة احتقان الشباب في هذه الرقعة المحاصرة والمعزولة عن العالم، وتفضيلهم الشهادة على يد قوات الاحتلال، من الموت في شرانق اليأس والقنوط. في غضون ذلك كانت الانتكاسات التي ألمّت بالثورات العربية، وتعثر مساراتها بصورة دراماتيكية، ودور الفصائل والنخب المثقفة الدائرة في فلكها، في تأويل الثورات العربية، من منظور مصالحها السلطوية والحزبية والشخصية، واتجاه أغلبها لشيطنة الثورات، لاسيما الثورة السورية التي حظيت باستعداء لافت تحت ذرائع وأباطيل كثيرة. جميعها من العوامل التي أثرت سلباً على تفاعل شباب الداخل الفلسطيني، مع ثورات أقرانه العرب، عدا عن إحباطه من جدوى حراكه، الذي بقي في طور الاحتجاج، الذي يدرك ما يرفضه فحسب، ولم يرتق ليكون حركة تغيير، تدرك ما تريده وكيف ستصل إليه.

بالمقابل وبصورة حاشدة بالمتغيرات، التي طرأت على الشباب الفلسطيني في الشتات، كان انخراط قطاع واسع من الشباب الفلسطيني، بالحراك السلمي للثورة السورية، الذي طبع بداياتها قبل تحولاتها اللاحقة، أوضح تعبير عن ارتدادات الثورة عليه.  إذ تجاوزت حدود التفاعل الرمزي أو الطارئ، إلى المشاركة الفعلية التي ضاعت فيها التخوم، بين مطالب الشباب السوري والفلسطيني، وانصهرا معاً في مشروع التغيير الذي حملته الثورة السورية. هذا المشهد الذي عمّ العديد من المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا، وكان مخيم اليرموك أكبرها وأكثفها تعبيراً عنه، أماط اللثام ودفعةً واحدة، على حقائق لا يمكن القفز عنها، ومن أشدهاً رسوخاً: أولوية خلاص من جمعهم العيش المشترك والمصير الواحد، من سطوة النظام السياسي والأمني الذي نالهم من ظلمه وبطشه دون تمييز. ففي بلد أمسى فيها النظام بمرتبة احتلال وأكثر في عيون شعبه، أصبح الشباب الفلسطيني وأكثر من السوريين أنفسهم، يرون فيه المستثمر الأول بقضيتهم. وهم الذين شهدوا في مسيرات العودة على حدود الجولان، في 15 أيار 2011، وما تلاها في 5 جزيران من نفس العام، استرخاص النظام والفصائل الحليفة له لدمائهم، وسقوط الأقنعة في تلك الواقعتين عن وجه النظام، ودوره المفضوح في حراسة حدود العدو منذ عقود طويلة. لا غرابة في ضوء ذلك سوى لمن يجهل حجم ترابط النسيجين السوري والفلسطيني، أن يتوقع نأي الشباب الفلسطيني عن تفاعلات الحراك السوري. فيما ردود الواقع تؤكد استحالة فصل الشباب الفلسطيني، عن المشاركة بحدث مفصلي كالثورة السورية، يمس أدق تفاصيل حياتهم وتطلعاتهم المستقبلية، في بلد ولدوا ونشأوا وترعرعوا في أحضانه. واستفاقوا على أزمة مستعصية في واقعهم الفلسطيني، لم تتح لهم فرص التعبير عن آرائهم، والمشاركة في صناعة قرارهم الوطني.

أذكر من تجربتي الشخصية، حين كنت منسقاً عاماً للمنظمات الشبابية الفلسطينية في سورية قبل الثورة، كيف كانت حواراتنا حول سؤال ما العمل لاستقطاب الشباب الناشئ إلى صفوف العمل الوطني والسياسي …؟ يستحضر دائماً النقاش حول كيفية تجاوز أثر وتداعيات الانقسام الداخلي الفلسطيني على أجيال الشباب، دون أن ننفذ في محاولة الإجابة عليه، إلى حقيقة الأسباب والعوامل ذات الصلة بغياب النشاط السياسي الحر، وهو الشرط الحقيقي لممارسة سياسية فاعلة ومُنتجة. لم يكن هروبنا من بحث هذا المسكوت عنه، سوى مثالاً جلياً، على جدار الخوف الذي عشنا تحت سقفه في الدولة الأسدية، قبل أن يبدأ بالتداعي في زمن الثورة، التي فتحت آفاق كبيرة أمام الشباب للقول والتعبير عمّا يعتمل في أعماقهم بكل جرأة وشجاعة.

في معمعان التجربة السورية الصارخة والفارقة، نشأ شكل جديد من الفرز السياسي والاجتماعي بين الفلسطينيين، في مختلف تجمعاتهم وتوجهاتهم، وأصبح يتحدد ويتعمّق بناءً على الموقف من الثورة السورية، تأييداً وانحيازاً لها، أو رفضاً وتشكيككً بها. بل وأكثر من ذلك، أدى إلى قطيعة فكرية ونفسية مشوبة بالغضب والخذلان، ما بين الشباب الفلسطيني المنخرط بالثورة، والفصائل الفلسطينية عامةً، بعد أن توزعت مواقف الأخيرة، بين من شاركوا النظام بجرائمه بحق الفلسطينيين والسوريين، ومن قاموا بالتغطية الفاضحة عليها، ومن انكشف لاحقاً تملصهم من تأييد الثورة السورية لحساباتهم الحزبية. أبانَ هذا الفرز الفلسطيني الحاد، لاسيما بعد المتغيرات المأساوية التي طرأت على الثورة السورية في محطاتها اللاحقة، عن صعوبات وتعقيدات في تعريف الفلسطيني السوري لهويته، كهوية مجروحة وهشّة وحائرة، بين انتماء لهوية أصلية، تنكر خصوصية نكبته الثانية، وهوية سورية يعتصره آلام تشظيها وتمزقها.

كما أفصحت دروس الحالة السورية، عن وجود جهل مُتبادل بين التجمعات الفلسطينية، يطال أوضاع وتحولات وظروف كلٍ منها. ومن محصلاته اكتفاء كل تجمع جغرافي فلسطيني، سواء في الداخل والشتات، بهمومه ومشكلاته الخاصة، والمنفصلة عن مشكلات ومآسي الآخرين. كانت روايات الفصائل المحشوة بالأحكام المجافية للحقيقة حيال ما يجري في سورية، وأكثرها كانت من أبواق محسوبة على سلطة فتح في الضفة وفصائل المنظمة، وجوقة من القوميين واليساريين، تُضاعف من الجهل المتبادل بين فلسطينيي الداخل، وفلسطينيي سوريا، وقد تأثر بها أيضاً قطاع واسع من فلسطينيي لبنان والأردن والمنافي الأوروبية والبعيدة. بالمقابل بقيّ فلسطينيو سوريا يتوسلون من بقية الفلسطينيين، التعاطف والتضامن مع محنتهم الرهيبة، يدفعهم إلى ذلك نداء الأخوّة الذي لطالما كانوا أوفياء له، في مختلف المواجهات والانتفاضات الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، لكن فاتهم أن مياه كثيرة جرت في العقود الثلاثة الأخيرة، أضحى خلالها الكل الفلسطيني، مجزأ ومنقسم ومكبل بأشكال قهرية متعددة.

استجابات مختلفة أخرى
في ضوء ذلك نفهم أكثر، طبيعة اختلاف المقاربات في تفاعل الشباب اللاجئ مع الثورات العربية، فما امتحنه الشباب الفلسطيني خلال الثورة السورية، لا يتطابق مع الكيفية التي تفاعل من خلالها الشباب الفلسطيني في لبنان مع ثورة اللبنانيين، فلم يُمكّنه الشعور الحاد بالتهميش القانوني والاجتماعي والاقتصادي، في بلد يتعامل نظامه السياسي الطوائفي مع الفلسطينيين كعبء ينبغي الخلاص منه، أن يعبّر عن وجوده في ثورة تطالب بالمواطنة وتحرير لبنان من طغمته الفاسدة، بينما يخشى أن يدفع فاتورة لا يستطيع تحمل كلفتها، بعد أن رأى مآسي التجربة الفلسطينية في سوريا. فضلاً عن فقدانه الثقة بأي تغيير سياسي فلسطيني، وتوغل ثقافة اللا جدوى لدى فئات واسعة من أبناء مخيمات لبنان، ورثت ذاكرة حربه الأهلية، من أجيال لم تحصد سوى الخيبة والخسران. وهي الصورة التي تحكم منظور الشباب لمعنى وجودهم في لبنان، وهو التعايش اليومي والمؤقت مع واقعهم البائس، الذي يدفعهم للبحث عن الخلاص الفردي، والهروب بكافة طرق الهجرة، التي تقبع في سلم أولوياتهم.

لا كثير يُقال عن تفاعلات الشباب الفلسطيني في الأردن، مع رياح الثورات التي لم تطأ أبواب المملكة التي يحملون جنسيتها، وخيارهم الأول المحافظة على الحقوق المدنية التي اكتسبوها، في ظل وجود آليات حاكمة قادرة على احتواء تأثرهم البعيد وغير المباشر، بالثورات والصراعات المحيطة بالأردن. لا ينفي ذلك بالطبع اعتمال التناقضات التي يعيشونها بين الهوية الأردنية المُعاشة، وهويتهم الفلسطينية الأصلية، وهي مسألة تبقى معلقة بشكل ومآل الحل السياسي في فلسطين، وتداعياته على الأردن في حال كان عاملاً مساعداً على تفجّر تلك التناقضات، والتخفيف منها أو استمرار ضبطها.

يبقى الخوض في التحولات المنظورة والكامنة، على حياة الشباب الفلسطيني بمختلف جوانبها، قاصراً من الناحية المنهجية والعملية، دون تقفي آثار تلك التحولات، على قطاعات واسعة من الشباب الفلسطيني، فرضت عليهم مناخات الإحباط والتيئيس المتراكمة، ونيران الحروب والصراعات في زمن الثورات العربية، تنكّب دروب اللجوء والهجرة إلى المنافي البعيدة، وهي ظاهرة تزايدت في السنوات الأخيرة بصورة غير معهودة. لا سيما بعد النكبة الفلسطينية السورية، التي دفعت كتلة كبيرة من الشباب، لركوب مخاطر الهجرة الوعرة، وكانت وجهتها اللجوء إلى أوروبا والاستقرار في دولها. عدا عن استحواذ فكرة الهجرة على الشباب الفلسطيني، أينما وجد في الداخل الفلسطيني واللاجئ في الدول العربية. ربما لسنا بحاجة إزاء هذه الظاهرة المتفاقمة، لمزيد من البحث حول دوافع السائرين في رُكبها، فهي معروفة غالباً، وقد تطرقت هذه المقالة البحثية إلى السياقات والمناخات، التي فرضت أكثر مما شجعت الشباب الفلسطيني على الهجرة إلى الغرب، والتي بات يغلب عليها طابع اللجوء الاضطراري والتهجير، أكثر من كونها خياراً طوعياً. تكمن المشكلة الحقيقة فيما يتداعى عن الظاهرة بحد ذاتها، من استنزاف متمادي لطاقات وكفاءات شبابية، لم تجد لها مكاناً في أوطانها، وفي دول لجوئها المُحيطة بفلسطين. إذ لا يمكن لأي حكم قيمي نحوها، أن يكون ذات معنى، طالما أنها أصبحت سبيلاً للخلاص الفردي، كلما تمادى استعصاء مشروع الخلاص الجماعي. غير أن ما هو جدير بالتركيز والاهتمام، أن أية محاولة لاستشراف رؤية جديدة، تروم استنهاض واقع الشباب الفلسطيني -من لزوم ما يلزم- أن تبحث في كيفية إعادة إحياء قنوات وأحيزة التفاعل والترابط مع شباب المنافي والاغتراب. بل ربما لا نبالغ بالقول: إن اختبار الشباب لثقافات جديدة، في دول لديها تراث من الحريات، وتوفير فرص التعبير عن الذات، وفي عالم غدا مفتوحاً مع الثورة التكنولوجيا، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، إنما يؤهلها أن تلعب دوراً فاعلاً، في إثراء كل محاولة للتفكير في بلورة تلك الرؤية والعمل عليها.

 أفكار ومقترحات.    

حسبنا أن نشعر بأولوية وثقل المسؤولية تجاه الشباب، والتي يتحمل جزءً غير قليل منها، كل من انخرطوا في الشأن الوطني الفلسطيني، لاسيما أن واجبهم اليوم، وقد طوى أغلبهم مرحلة الشباب، أن يضعوا وبكل موضوعية، استخلاصات ودروس التجربة الوطنية الفلسطينية، وبكل أخطائها وانحرافاتها وخطاياها، أمام أعين الجيل الذي حصد نتائج الفشل والخيبة. على أن مثل هذه المهمة لا تحتمل عقلية الوصاية والتلقين، التي ضاقت بها صدور الشباب إلى حد الاختناق. ما يثير بالضرورة القطيعة التامة مع ثقافة العمل على الشباب التي ثبت عقمها، والانتقال إلى ثقافة العمل مع الشباب، وفحواها الإنصات إلى أصواتهم، واحترام طرائق التعبير عن ذواتهم، ومد جسور التواصل معهم، باعتبارهم حوامل الحاضر والمستقبل، لا مجرد أدوات استخدامية للتوظيف الإيديولوجي أو السياسي. إذ أن التحدي الأكبر ليس في التبرؤ من الإيديولوجيا، كمنظومة فكرية تشكّل هوية أي تيار أو حركة سياسية (وطنية -إسلامية-قومية-يسارية-ليبرالية) وإنما المطلوب ألا يؤدي الاستقطاب الإيديولوجي، إلى عقبة كأداء أمام بناء وطنية ديمقراطية، تحتفي بالإنسان وحقوقه، كنزعة كفاحية، تمنحه شروط الصمود والمشاركة الحقيقية، في مواجهة التحديات القائمة، فلا تحرر جماعي دون تحرر الفرد أولاً.

 لقد تغير الواقع من حولنا بما يفوق الخيال، ما يفرض مراجعة كل أشكال التنظيم والمركزية والتعبئة، التي حكمت علاقة الشباب بالعمل الفصائلي الفلسطيني، ليس لأن التجارب الحديثة التي خاضها الشباب في حقبة التحولات الفلسطينية والعربية، والتي قامت بالضد من الإيديولوجيا الحزبية كمحرك للسياسة، قد ثبت نجاحها في تجاربهم الحديثة. بل أن تعثر تلك التجارب التي طغت عليها العفوية والعشوائية في أكثر الأحايين، أعادت مجدداً لفت الأنظار، إلى ضرورة اجتراح صيغ جديدة تنقل العمل الشبابي من أطوار الحراك غير المنظم، إلى أطوار الحركة المنظمة والدائمة، التي لديها من المرونة في التواصل والتفاعل مع مكوناتها، ومن آليات القيادة والإدارة التشاركية، ما يمنحها الزخم اللازم في تنسيق برامجها المطلبية، وأولوياتها الوطنية والسياسية، كقوة مجتمعية قادرة على التقدم كبديل عن الأطر والمؤسسات التي استنفدت أدوارها.

كي لا نقع في مطب التنظير، وتحديداً في استسهال مشروع البديل الوطني، ثمة حاجة لعدم تجاهل حتى الأصوات الشبابية في الفصائل الأكثر وزناً، التي لديها مصلحة في عملية التغيير الوطني، وكيفية الاستفادة من أصواتها -على خفوتها-لتكون جزءً من هذه المهمة الوطنية. بالتوازي مع معالجة نتائج الجهل المُتبادل بين التجمعات الفلسطينية-سبق وأشرنا إلى خطورته-، وهي مسألة تحتاج إلى قدر كبير من الانفتاح، وتجاوز الأحكام الجاهزة في العلاقة مع الأخر الوطني، من خلال مبادرات حوارية منفتحة يشارك بها أطياف الشباب الفلسطيني، على تعدد أماكن تواجدهم وانتشارهم الجغرافي. لا يفوتنا في هذا السياق، أن مفهوم “الفلسطنة” وهي إحدى آليات الدفاع الذاتي عن الهوية الفلسطينية، من محاولات طمسها على يد الاحتلال والأنظمة العربية، تحول إلى شرنقة، تحد من تفاعل الفلسطينيين مع قضايا وهموم الشعوب العربية، وهي تتخذ اليوم بعداً سلبياً على الفلسطينيين وقضيتهم، بسبب تضخم الأنا الفلسطينية التضحوية، وإنكارها لتضحيات الشعوب العربية على مذابح خلاصها وحريتها. ما يستوجب إحياء العلاقة التحررية الجدلية، بين الفلسطينيين والشعوب العربية. خاصةً وقد أوضحت تطورات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أن ترك الفلسطينيين لمصيرهم المأساوي، كان أبرز محصلات عزل الفلسطينيين عن محيطهم العربي والعكس صحيح.

أخيراً: إن إطلاق وتحفيز المبادرات الشبابية، التي هي مسؤولية الشباب بالدرجة الأولى، وكي تكون قادرة على المساهمة في تحريك عجلة التاريخ الفلسطيني نحو الاقتراب من تحقيق تطلعات الشباب، وبما يخدم أهداف وطموحات الشعب الفلسطيني. يوجب على الناشطات والنشطاء الشباب، وكل المهجوسين بالحرية والتحرر والعدالة، أن يتصدوا معاً للتفكير والإجابة عن الأسئلة الجوهرية الحاضرة بقوة، وفهم التحولات العميقة في الواقعين الفلسطيني والعربي، والبحث عن ممكنات الاستنهاض والعمل، بالاستناد إلى مقاربات ومبادرات عملية رصينة وفاعلة، تفضي إلى تغييرات فكرية وثقافية ومجتمعية عميقة، ترقى لأن تكون ثورة في الوعي على كل أسباب ومسببات فواتنا التاريخي، ولا أقدر من الشباب على حمل مشعل هذه المهمة الوطنية والتاريخية، الواجبة والمُلّحة أكثر من أي وقتٍ مضى..

المصدر: مجموعة الحوار الفلسطيني        

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى