
تستمر أعمال تشييد جامع كبير داخل مجمّع الآداب بجامعة دمشق، الواقع على أوتوستراد المزة. وذلك بعد أن فتح وضع أساساته خلافات باتت متكررة بين من يعدّ ذلك حقاً طبيعياً للطلاب الذين ينتمون إلى الأغلبية وحُرموا ظلماً من مكان مناسب لأداء فرائضهم في عهد الأسدين، وبين من يرى أن الأولويات تقتضي، الآن ولسنوات عديدة قادمة، توجيه النفقات لإطعام جائع بدلاً من بناء جامع، وفق جملة نمطية، أو لإعمار البلاد الخربة وإعادة قاطني المخيمات إلى بيوتهم، أو لتعزيز المدرجات والمخابر والمكتبات في الجامعة نفسها، وغير ذلك.
يغري هذا السجال، الذي يعدّ علمانياً-إسلامياً في المآل، باستذكار جامع آخر أثار الجدل عرفته الجامعة السورية، التي كانت الوحيدة في البلاد في البداية، ثم تحول اسمه إلى «مسجد جامعة دمشق» مع اقتصارها على العاصمة. وكان لهذا الجامع، الموجود حتى الآن في مجمّع الحقوق في البرامكة، دور أوسع بكثير من وظيفته التعبدية.
بني هذا المجمّع أيام السلطان عبد الحميد الثاني ليكون جامعة يُزمع تأسيسها، لكن الظروف العسكرية دفعت إلى استخدامه مقراً للجيش العثماني الخامس وعرف بالقشلة الحميدية، ثم لقوات المغاربة من جيش الشرق في عهد الانتداب. وبني فيه مسجد صغير وسط حديقة مربعة، ما لبث أن أصبح نادياً في عهد الفرنسيين، حتى تسليمه للسلطة الوطنية التي قررت اعتماده موقعاً يجمع كليات الجامعة السورية بعد الجلاء.
وبعد سنوات قليلة من إهماله واستخدامه مستودعاً ثار الخلاف بين الطلاب الإسلاميين، ومنهم أعضاء في جماعة «الإخوان المسلمين»، وطلاب قوميين أو علمانيين، على إعادة افتتاح هذا البناء الصغير؛ جامعاً كما يريد الأولون الذين قالوا إنه وقف لا يجوز تغيير أوصافه وتبديل وظيفته، أم نوعاً من البوفيه أو النادي كما رأى الطلبة الآخرون.
حُسمت المسألة، كما يؤرخ مؤلف إسلامي شاهد هو زهير الشاويش، عندما «اقتحم الشباب المؤمن المكان، وألقوا ما به من أدوات اللهو، وطمسوا الصور التي كانت [قد رُسمت على جدرانه] من العصر الفرنسي، ووضعوا منبراً وفرشوه بالسجاجيد والبسط والحصر، وأقاموا به الصلاة».
كان على رأس هؤلاء محمد سعيد الطنطاوي، الطالب في كلية العلوم، الشقيق الأصغر للقاضي الشرعي الممتاز علي، الشهير في دمشق وخارجها وقتئذ. وقد استعان الشاب بأخيه المرموق ليثبّت وضعية الجامع، ويجذب إليه المصلّين، فدعاه إلى الخطابة التي تعاقب عليها الدكتور مصطفى السباعي، الأستاذ في كلية الحقوق قبل أن يؤسس كلية الشريعة، المراقب العام للإخوان السوريين، ونائبه عصام العطار الذي أصبح أشهر خطباء الجامع وارتبط اسمه به.
والحال أن مسجد الجامعة أُسِّس على رافدين من عناصر الفضاء الإسلامي؛ أولهما النزعة الحركية المرتبطة بالإخوان وببيئاتهم المحيطة، مما منحه طابعاً سياسياً وثقافياً قاد إليه نوعاً من النخب المحافظة والدينية والإسلامية، وثانيهما المنهج السلفي الذي برز مع الشيخ ناصر الدين الألباني وعدد من تلامذته الذين لم يكونوا بعيدين عن نشاطات الجامع الذي اشتهر بأنه الوحيد الذي يخلو من «البدع»، مما اجتذب المتطلعين إلى تنقية العبادة مما علق بها من زيادات صوفية وشعبية.
بسرعة، وعلى يد لجنة متطوعة نشطة من طلاب كليات مختلفة، تجاوز المسجد موقعه التأسيسي. فصار يستقطب أعداداً ربما تصل إلى عشرات قليلة من الآلاف من دمشق وحولها ومن محافظات أخرى كانوا يملؤون أروقة الجامعة والحدائق حولها، ولا سيما في سنوات صعود نجم العطار الذي كانت الخطابة أبرز مواهبه. وبمساع من اللجنة وداعميها صارت الإذاعة السورية تنقل بعض خطبه. وأُلقيت فيه محاضرات دورية مسائية قدمها أساتذة إسلاميون في الجامعة، ومشايخ وبارزون من خارجها، وبعض كبار الزوار الإسلاميين الحركيين لدمشق. كما نظّمت اللجنة رحلات إلى الغوطة دُعي إليها الطلاب المتدينون من مختلف الكليات «ليتم التعارف والتعاون بينهم». وأخيراً فتحت قسماً للنشر صار يطبع كتيبات صغيرة تُباع بسعر زهيد، أو تُرسَل إلى عناوين المشتركين بالبريد، أو توزّع مجاناً إن أمكن ذلك أحياناً.
وقد انطلقت «الرسائل»، التي عُرفت بهذا الوصف عموماً، عندما أعجب خطيب سلفي ميدانيّ بمقالة إصلاحية للشيخ علي الطنطاوي عنوانها «يا بنتي»، تدعو الفتيات إلى العفاف، واقترح على اللجنة طباعتها وتوزيعها «على الطالبات وآبائهن وعلى الناس كافة»، مسهماً في نفقات ذلك. مفتتحاً سلسلة شهرية كانت ثاني رسائلها محاضرة لسيد قطب الذي كان في زيارة إلى دمشق وألقاها وجرى استئذانه في نشرها. وصولاً إلى ما يقرب من مائة رسالة تتردد فيها أسماء الطنطاوي وقطب ومحب الدين الخطيب وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي، وفي مرات أقل ابن تيمية وحسن البنا وناصر الدين الألباني وجودت سعيد ومصطفى صادق الرافعي، ورسالة «اشتراكية الإسلام» التي ستتحول إلى أطروحة إشكالية شهيرة للسباعي بعد تطويرها ونشرها في كتاب.
وفي صيف عام 1951 خاض على الطنطاوي، من على منبر المسجد، أحد سجالاته العامة الحادة عن العرض الذي قدمته مدرسة «دوحة الأدب» للإناث في حفلها السنوي. وكانت هذه المدرسة، التي أسستها الرائدة النسوية عادلة بيهم الجزائري، قد استعانت بالزعيم الوطني فخري البارودي لإقناع الشيخ عمر البطش، أحد أبرز مؤلفي وملحني الموشحات في حلب، بتدريب فتياتها على رقص السماح، ناقلاً إياه من أجواء ذوي اللحى إلى الطالبات اللاتي قدّمن هذه الموشحات ورقصن عليها في حفل أقيم في قصر العظم وحضره الحاكم الفعلي للبلاد وقتئذ أديب الشيشكلي، وعدد من كبار المسؤولين والتجار المتداخلين اجتماعياً مع ذوي الفتيات من النخبة المتغربة الليبرالية.
ثارت ثائرة الطنطاوي الذي تناول الموضوع في خطبته، المنقولة إذاعياً يومها، بكلمات كانت «كالرصاصات من المدفع الرشاش» على حد تعبيره هو. وبناء عليها هاجمته العديد من الجرائد على صفحاتها الأولى، وبالمقابل أصدر تجمع للهيئات الإسلامية بياناً في تأييده وزّعت منه مئة ألف نسخة، واستجوب النواب الإسلاميون الحكومة التي قيل إن رئيسها، خالد العظم، كان بين الذين حضروا الحفل. بينما حوكم الطنطاوي أمام مجلس القضاء الأعلى الذي عاقبه، مع إدماج مقالة مشاغبة أخرى، بخصم 10% من راتبه لشهرين.
المصدر: تلفزيون سوريا