حلّ الدولتَين

غازي العريضي

عُقد قبل أيام في نيويورك المؤتمر التمهيدي للمؤتمر العام الذي يحمل عنوان “حلّ الدولتَين” في الجمعية العامة للأمم المتحدة المُرتقَب في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول). الفكرة في الأساس كانت (ولا تزال ويجب أن تبقى) التزاماً لضمان حقّ الشعب الفلسطيني. المبادرة تأخّرت، والوقائع في غزّة والضفة الغربية صادمة، وجارحة عنيدة، ومؤلمة كارثية، قد لا تسمح بتحقيق شيءٍ من المبادرة التي ينبغي التوقّف عند أهميتها، وتسجيل شكر للقائمين عليها والمتفاعلين معها، والفضل في ذلك دم الفلسطينيين، وصبرهم، ومأساتهم التي لا توصف، وإرهاب إسرائيل الذي تجاوز كلّ الحدود والتصوّرات، والدعم الأميركي لها، المفتوح والمفضوح. وهنا التحدّي الكبير.
أكد رئيس الحكومة البريطانية، كير ستارمر، ميلَ بلاده إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل، وردّ عليه بنيامين نتنياهو بالقول: “إنه يكافئ الإرهاب ويعاقب ضحاياه” و”وإقامة دولة فلسطينية عند حدود إسرائيل اليوم ستهدّد بريطانيا غداً”. أمّا وزير خارجيته ديفيد لامي، فذهب إلى أبعد عندما قال: “وعد بلفور يضمن عدم المساس بحقوق الشعب الفلسطيني ولم يُحترَم. لا مبرّر للمعاناة في غزّة، نتحمّل مسؤوليةً خاصّة بشأن حلّ الدولتَين. ورفض حكومة نتنياهو هذا الحلّ خطأ أخلاقي واستراتيجي”. جاء الردّ من الرئيس الأميركي دونالد ترامب: “الولايات المتحدة لا تنتمي إلى هذا المعسكر”. وعندما أعلنت كندا نيّتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خاطبها: “هذا الموقف من شأنه أن يجعل الاتفاق التجاري معها أكثر صعوبةً”… إنه تهديد واضح باستخدام كلّ الوسائل لمنع قيام الدولة الفلسطينية، ومع ذلك يبقى السؤال المطروح على المبادرين لعرض الموضوع في الأمم المتحدة، وعلى نبل القضية وجدارة الاهتمام بالمبادرة: أين ستقوم الدولة الفلسطينية؟

لا وجود لعربي ودور عربي وهُويَّة عربية في القطاع. والسلطة في الأساس مُدانة، متهمة بتمويل الإرهاب

هذه غزّة، ينادي أقرب المقربين إلى ترامب السيناتور ليندسي غراهام باستخدام الطريقة الأميركية في هيروشيما وناكازاغي في اليابان ضدّ الفلسطينيين فيها، أي استخدام القنبلة النووية. وهذا بتسلئيل سموتريتش يردّ على الفرنسيين والبريطانيين والعرب، وكلّ مؤيّدي الفكرة: “سنهتم بألا يكون هناك ما تعترفون به”، والخطوات الميدانية في غزّة تؤكّد التوجّه إلى تدمير كلّ ما تبقى بعد إعطاء ترامب لنتنياهو الضوء الأخضر لإنهاء المهمّة، وتجميع الفلسطينيين في “القفص” الموعود في رفح في انتظار تهجيرهم، وإعلان المسؤولين الإسرائيليين أن اتصالاتهم مع إثيوبيا وليبيا وإندونيسيا قطعت شوطاً كبيراً لضمان استقبال المُقتلَعين من أرضهم، وثمّة اتصالات مستمرّة مع دول أخرى تديرها الولايات المتحدة منذ فترة. أمّا الضفة، فالتوجّه وفق مشروع قرار الكنيست أخيراً ضمّها بالكامل إلى دولة الاحتلال. فماذا يبقى من أرض فلسطين لإقامة دولة عليها، والمشروع المقدّم في نيويورك يرتكز على “تخلّي حماس عن سلاحها وعن الكفاح المسلّح، وتسليم السلطة الفلسطينية زمام الأمور، مع دور محوري للمؤسّسات الدولية لإدارة القطاع اقتصادياً وأمنياً؟ هل تقبل إسرائيل بالسلطة الفلسطينية رغم كلّ التنازلات التي قدّمتها، وتعيين الرئيس الفلسطيني نائباً له (حسين الشيخ) بمباركة عربية وأميركية وإسرائيلية؟… الجواب جاء من سموتريتش والولايات المتحدة. الأول قال: “لم نقدّم كلّ هذه التضحيات لنسلّم غزّة من عربي إلى عربي آخر”. والكلام في منتهى الوضوح: المسألة تتجاوز “حماس”. ولا تنتهي بانتهائها إذا حصل ذلك. لا ثقة بعربي. أيّ عربي. لا وجود لعربي ودور عربي وهُويَّة عربية في القطاع. والسلطة في الأساس مُدانة، متهمة بتمويل الإرهاب وبتعليم الفلسطينيين الإرهاب في المدارس، ومعاقبة ومصادرة أموالها، من دون أن ننسى أن اتفاقاً وُقِّع مع أبو عمار (ياسر عرفات)، والتزم الأخير به، فقُتل إسحاق رابين رئيس حكومة إسرائيل الذي وقّع الاتفاق معه، ثمّ انهالت الاتهامات على عرفات “الإرهابي” و”غير الشريك في السلام”، وانتهى الأمر بقتله.
أمّا الجواب الأميركي، الذي يصبّ في الخانة ذاتها سياسياً، فقد جاء مباشرة بفرض عقوبات على مسؤولين في السلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير بتهم: “انتهاك التزاماتهم عبر دعم إجراءات في المنظّمات الدولية تتناقض مع القرارين 242 و338، وتجاوز قانون التزامات السلام في الشرق الأوسط عام 2002”. وقاحة ما بعدها وقاحة. فإسرائيل لم تلتزم بأيّ كلمة من القرارين المذكورين. ولا تتوقّف عن إدانة الأمم المتحدة وإهانتها وتمزيق دستورها من على منبرها. وعام 2002 اتفق العرب بالإجماع على “المبادرة العربية” في بيروت، الداعية إلى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل بعد انسحابها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. فمن خرج عن الالتزامات الدولية والقرارات الدولية والقانون الدولي، واستمرّ في ممارسة الإرهاب واستباحة كلّ شيء في فلسطين والمنطقة؟… الجولان انتهى، واليوم جبل الشيخ والمنطقة الجنوبية في سورية تحت سيطرة إسرائيل. وغزّة والضفة إلى زوال: “الأرض أرضنا والبيت بيتنا” كما يقول الصهاينة، وهذا لبنان… والسيرة لا تتوقّف، والشواهد موقّعة بدم الأبرياء في كلّ مكان، والاستقرار في المنطقة مهدّد.

لم تلتزم إسرائيل بكلمة من القرارين 338 و242، ولا تتوقّف عن إدانة الأمم المتحدة وإهانتها وتمزيق دستورها

اتصل وزير خارجية إسرائيل، جدعون ساعر، بنظيره الأميركي ماركو روبيو، شاكراً مادحاً: “السلطة (الفلسطينية) يجب أن تدفع ثمن سياساتها المستمرّة. هذه الخطوة تكشف الانحراف الأخلاقي لبعض الدول التي سارعت إلى الاعتراف بدولة فلسطينية افتراضية، فيما تغض الطرف عن دعم السلطة للتحريض (على إسرائيل)”. وزير الخارجية الأميركي قال: “من دون موافقة إسرائيل لا يمكن قيام دولة فلسطينية”. ليس في الأمر جديد. لكن ما هو موقف المبادرين لفكرة حلّ الدولتَين في الأمم المتحدة أمام هذا الثابت الأميركي الإسرائيلي؟ من دون أي انتقاص من أهمية الفكرة والمبادرة عملاً سياسياً دبلوماسياً ضرورياً، ما هي الخطوات التي ستُعتمد لمواجهة هذا الرفض؟ ما هي الوسائل التي ستستخدم؟
منذ أيام، كنا في حلقة نقاش ضيّقة مع مجموعة من المتابعين المهتمين الموضوعيين، والرافضين سياسات ومواقف إيران وحزب الله في لبنان و”حماس” في فلسطين. طرح أحدهم سؤالاً: “واضح أن أصحاب المبادرة يريدون التخلّص من حماس ومن حزب الله تحت عنوان مواجهة الإرهاب، وضرورة تثبيت الإسلام المعتدل. فهل ينسجم هذا الشيء مع دعمهم للحالة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع؟”. وأضاف، الأخطر “أن تنتهي الأمور بالسيطرة الإسرائيلية على كلّ فلسطين، وتنتهي (المعركة) في الأمم المتحدة بإعلان ورقي يحمل عنوان حلّ الدولتَين، وهو مهم، ولكنّ ذلك سيكون بداية سقوط العرب، وليس قيام الدولة الفلسطينية”.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى