حزب الله يناور بملف السلاح.. وسوريا ميدان التبرير

صهيب جوهر

في لحظة سياسية دقيقة تتقاطع فيها التحوّلات الإقليمية مع الانقسامات الداخلية، يجد لبنان نفسه على عتبة استحقاق مفصلي عنوانه سلاح “حزب الله”. إذ تعقد الحكومة اللبنانية، يوم الثلاثاء المقبل، جلسة مخصصة لبحث هذا الملف الذي ظلّ لسنوات طويلة بمنأى عن طاولة القرار الرسمي، وتحديداً منذ أحداث 7 من أيار 2008، التي ما زالت حاضرة في الذاكرة السورية واللبنانية على السواء.

لكن خلف كل هذا التصعيد الظاهري، يخوض “حزب الله” معركة أكثر عمقاً: معركة شرعيته السياسية والوجودية في مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وفي ظل الانكفاء الإيراني المتسارع، والتحوّلات الكبرى في سوريا والتي قطعت خط الإمداد الاستراتيجي، والتي يبدو أن الحزب يحاول استثمارها لعرقلة مسار نزع سلاحه.

وبدا أن حزب الله بات يُجاهر في مجالسه الضيقة – وأحياناً في اتصالاته مع أطراف خارجية – بمخاوفه من تبدلات المشهد السوري، وخصوصاً ما جرى في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، كانت محل اهتمام لبناني وسوري على حد سواء. وفي قراءته، يعتبر الحزب أن ما حصل في السويداء، إلى جانب حالة التفكك التي تشهدها مناطق الساحل السوري بين الفينة والأخرى، هو إنذار بإمكانية انقلاب المعادلات الطائفية التي طالما وظفها “حزب الله” لحماية مشاريعه.

في بيروت، يُصوّر ملف السلاح وكأنه مسألة إجرائية مرتبطة فقط بجدول زمني يُحدد مراحل التسليم والتفكيك، لكن الواقع أكثر تعقيداً.

هكذا، يُعيد الحزب استخدام ورقة “الخوف على الأقليات”، وهي الورقة التي طالما روّج لها منذ عام 2012 لتبرير تدخله العسكري في سوريا. واليوم، يطرحها من جديد كأداة للتصعيد السياسي في وجه الحكومة اللبنانية، متّهماً الحكم الجديد في دمشق – الذي ينأى بنفسه عن منطق التحالفات الطائفية القديمة – بأنه قد يُقصي المكونات الداعمة لإيران، ويعيد رسم التوازنات في العمق السوري بطريقة تُهدّد حضوره الإقليمي، وبالتالي تبرّر تمسّكه بسلاحه.

بالتوازي أبلغ “حزب الله” أطرافاً لبنانية وأجنبية بأن التحركات العسكرية السورية الأخيرة في منطقة القلمون، والزبداني، والقصير، والمترافقة مع إعادة انتشار وحدات عسكرية مهمة، تشكّل تهديداً مباشراً لنقاط تمركزه على الحدود الشرقية اللبنانية، وذهب إلى حد مطالبة بعض الوسطاء الغربيين والعرب بالحصول على “ضمانات أمنية سورية” تكفل بقاء نفوذه في تلك المناطق، أو على الأقل عدم استهدافه ضمن الترتيبات الأمنية الجديدة الجارية والتي تتابعها واشنطن ودول خليجية، بالإضافة إلى تركيا.

في بيروت، يُصوّر ملف السلاح وكأنه مسألة إجرائية مرتبطة فقط بجدول زمني يُحدد مراحل التسليم والتفكيك، لكن الواقع أكثر تعقيداً. فالمسألة تتجاوز توقيت التنفيذ إلى طبيعة النظام اللبناني المقبل، وهوية الدولة التي ستتولى فرض سيادتها على كامل أراضيها، وفق مقتضيات “ما بعد حزب الله”.

وبعبارة أوضح، المطلوب – كما يُقال في الكواليس الدبلوماسية المواكبة للورقة الأميركية – السعودية، – ليس فقط نزع السلاح، بل إعادة تعريف لبنان كدولة طبيعية لا تقيم عداءً وظيفياً مع إسرائيل، وتكون مستعدة، في الحد الأدنى، للانخراط في اتفاق تهدئة طويلة الأمد على شاكلة “اتفاق فك الاشتباك” السوري-الإسرائيلي في الجولان عام 1974، أو حتى الدخول في مسار إقليمي يوازي “اتفاقات أبراهام”. وهو ما أشار إليه صراحة السفير الأميركي المنتظر في بيروت ميشال عيسى، الذي قال إن على لبنان أن يلتزم بـ”نزع السلاح أولاً، والانفتاح على التطبيع تالياً”.

لكن “حزب الله”، الذي يقرأ جيداً هذه العناوين، يرفضها جملة وتفصيلاً، ويعتبرها مقدّمة لتجريده من دوره داخل لبنان وخارجه، لا سيما بعد خروجه من سوريا وفصل ساحة المواجهة عن قطاع غزة. وهو يرى أن القرار اللبناني المرتقب – في حال تضمّن أي إشارة لسحب سلاحه – يعني انتزاع الغطاء السياسي عنه وتحويله إلى جماعة مرفوضة داخلياً وخارجياً، وبالتالي يصبح التعامل معه محلياً ودولياً على هذا الأساس.

بين هواجس “حزب الله” من فقدان شرعيته اللبنانية، ومخاوفه من انكشافه الميداني على الحدود السورية، وبين اندفاع الدولة اللبنانية نحو نزع السلاح استجابة للضغوط الدولية، يقف لبنان أمام مفترق تاريخي.

في الداخل اللبناني، ما يزال “حزب الله” متريثاً في رد فعله. هو لا يريد تكرار تجربة 5 من أيار 2008 بصورة متسرعة، لكنه أيضاً لا يستبعدها. لذا تتعدد التقديرات بين من يرى أنه سيلجأ إلى تحركات شعبية ميدانية، على غرار الاعتصامات التي كانت تنطلق من الضاحية باتجاه بيروت، وبين من يعتقد أن الحزب قد يكتفي بإفشال أي تطبيق عملي للقرار عبر رفض التعاون مع القوى الأمنية الرسمية، على غرار ما حصل في مناطق جنوب الليطاني بعد القرار 1701، حيث أبقى الحزب على وجوده الاستخباري والعسكري غير المباشر.

بالمقابل باتت الدولة اللبنانية أمام خيارات أحلاها مُر، في ظل دعوة الأطراف المناوئة لحزب الله للضغط عليه، فيما هناك رأي آخر بترحيل ملف السلاح من الحكومة إلى المجلس الأعلى للدفاع تجنباً لانفراط عقد السلطة التنفيذية في البلاد، وعليه فإن هنالك قراراً واضحاً وصريحاً بسحب سلاح “حزب الله”، مع تكليف الجيش أو لجنة رسمية بوضع خطة تنفيذية.

ويتوقع المتابعون أن تنقسم السيناريوهات المحتملة بين أربعة رئيسية، الأول أن تتخذ حكومة نواف سلام قرار مبهم لا يتضمن جدولاً زمنياً ولا تفاصيل، ويكتفي بتأكيد التزام اتفاق الطائف، أو أن يجري تجاهل كامل للملف، مما سيؤدي إلى تفجير سياسي داخل الحكومة، خصوصاً من قبل القوات اللبنانية والكتائب والذين يعتبران نفسيهما أبرز الأطراف المستفيدة من ضعف الحزب، بالمقابل يسعى رئيس الجمهورية لمحاولة إيجاد صيغة ثالثة تحفظ ماء وجه الجميع، لكن الخوف الأبرز أنها لن تلقى قبولاً أميركياً.

وعلى المستوى الخارجي، لا تقل التحديات خطورة. فالدول الراعية للمسار اللبناني – أو فيما يعرف “اللجنة الخماسية” وتحديداً الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية – باتت تعتبر أن لحظة الحسم قد حانت، وأن على لبنان

الانفكاك عن “نموذج المقاومة” والسير على خطا دمشق والتي انخرطت في الانفتاح على محيطها.

أما في حال عدم التجاوب اللبناني، فالمخاوف تكبر من سيناريوين:

الأول: تصعيد إسرائيلي مباشر، على غرار ما حصل في الجنوب السوري في السنوات الأخيرة، مع ضربات دقيقة وموجعة تستهدف قيادات الحزب ومنشآته، دون الحاجة إلى إعلان حرب شاملة.

الثاني: فرض عزلة سياسية ومالية على لبنان، وحرمانه من أي مساعدات أو دعم، وتركه فريسة للانهيار والصراعات الداخلية، كما حصل في ليبيا واليمن بعد فشل المسار السياسي في 2014.

وبين هواجس “حزب الله” من فقدان شرعيته اللبنانية، ومخاوفه من انكشافه الميداني على الحدود السورية، وبين اندفاع الدولة اللبنانية نحو نزع السلاح استجابة للضغوط الدولية، يقف لبنان أمام مفترق تاريخي. ومرة جديدة، تتحول سوريا – بمدنها وأقلياتها وترتيباتها الأمنية – إلى ورقة تفاوضية في يد الحزب، يحاول من خلالها تأجيل المعركة، أو إعادة تعريف شروطها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى