صناعة البديل السياسي تغريد خارج السراب

مُناف الفتيّح

كمواطن مخذول يمزقني ألم الجبهات وجراحها المفتوحة لم أجد نفسي في سطور المبادرات النخبوية الساعية لترميم البناء الوطني المتصدع، مع احترامي لمبدأ المبادرة الضروري، في حمأة صِدام الجماعات/ الهويات المتضادة خارج مظلة الدولة، ذلك أني لا أرتقب منها جدوى اجتماعية تمس البنية المنتجة لاختلافات طبيعية ليس ثمة مرشحات/ فلاتر فكرية وسياسية تحول دون تأزمها واحتقان حامليها، ومن ثم انفجارها وتحولها إلى خلافات عمودية تطفو كالدمامل على خط الصدع الاجتماعي السياسي الأفقي.

أخشى أننا نقفز بعيداً عن الواقع بأن نُصدّر المشكلة إلى مَصدرها حين نبدأ بالحوار مع السلطات السياسية والدينية الطائفية المهيمنة، والتي هي مصدر الأزمات، بدلاً من الانطلاق من الحوار الداخلي ضمن نسيج المجتمع المهدد بالتمزق واستمرار تشظي وعيه وتنافر فئاته، عليه وجدتني أغرد خارج السِرب والسَراب النخبوي لأبدأ من سؤال مفتاحي على كل منا أن يطرحه على ذاته أولاً ثم على الآخر؟

كيف نكبح اندفاع الاصطفاف الطائفي- المناطقي لفريق اجتماعي واسع من السوريين إلى صيغة مواجهة حدية بين سوريا الشرع مقابل سويداء الهجري ومشتقاتها في الجزيرة والساحل؟

هذه بالطبع ليست صيغة ناجزة بعد لكنها شرارة تقدح زناد العصبية التي يتمحور حولها التفاف اجتماعي مختلِط بلوثة سياسية عقدية تشكل تهديداً جدياً للمشروع الوطني الذي ما زال شعاراً / حلماً يفتقد لجسم سياسي ناضج مرتبط بقاعدة شعبية واسعة عابرة للطوائف والعصبيات تتيح له دحر هذا التهديد الذي ما زال يحبو قبل أن يشتد عوده ويقف على قدميه.

استوقفتني في الأيام الأخيرة أمثلة كثيرة تمثل الخطاب الشعبوي الديماغوجي منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر كيف يوشك هذا الاستقطاب الحدي أن يتحول إلى مرض مزمن يتبلور في اصطفاف انقسامي تام يشبه – مع مراعاة الفوارق – الحالة التركية وانقسامها العمودي بين رمزية السلطان محمد الفاتح و رمزية مصطفى كمال أتاتورك التي تقابلها عندنا رمزية أبوية بالمعنى البطرياركي للقائد الفاتح أحمد الشرع مقابل رمزية ربوبية للمرجع الديني حكمت الهجري، والربوبية هنا من الرب لأنه يمثل فعلاً ظاهرة مقدس لا يجرؤ حتى المثقفون المعارضون لأفعاله من طائفته على المس به كما يفعل السنة مع مراجعهم من الذين ارتهنوا لمشروع النظام البائد من حيث وصمهم صراحة بالخيانة والارتزاق.

يمكنني أنا وغيري أن نكتب مقالات زاخرة بالتفكيك والتحليل والنقد والكلام المنمق بلغة الدكتور برهان غليون وكبار المثقفين لكن هذا العمل مهما كان جليلاً لن يصل إلى رجل الشارع ولا توجد في هذه الآونة طبقة سياسية تترجمه إلى مشروع حزبي ثم تحيله إلى حاملها الاجتماعي لتجد النظرية المحلقة موطئ فعلٍ لها في الواقع المشخص. والأمر كذلك، فالحاجة في نظري ماسة إلى فعل ثقافي اجتماعي في إطار مبادرة شعبية مباشرة وبسيطة يمكنها إحداث اختراق سريع في الوعي الجمعي بدلاً من بيانات المثقفين الموجهة لأقطاب المشكلة لا إلى قلب المجتمع الأسير المعتاد على انفعال سلبي مؤداه التعويل على مرجعياته السياسية والدينية والانقياد لها دون أدنى مبادرة للفعل الإيجابي، فكيف نقذف هذه النطفة البناءة في رحم المجتمع لتثويره فكرياً لا عنفياً.

نقطة انطلاق قد تكون البداية

اعتدنا على تصور المجتمع السوري خصوصاً والعربي عموماً كمجتمع معتدل متقبل للتعايش وأنه نموذج أكثر تسامحاً من المجتمعات الأخرى دون ادعاء للمثالية فهل نتجت الأزمة الأخيرة التي ثقبت هذه الذاكرة من عامل موضوعي يتمثل بالتدخلات الخارجية فقط وهي قائمة ولا مجال لإنكارها أم من عوامل ذاتية متمثلة بالتعصب الطائفي وهذا أيضاً عامل موجود غير أنه كان هامشياً ضئيل الفاعلية فهل بدأت نقطة التحول في هذا المسار من تضخم النزعة الطائفية وتغول سلطة ممثلة لها أم من تقدم المشروع الإسرائيلي وتفاعل/ تآمر خلايا نائمة طائفية – إثنية معه؟

يجب علينا تشخيص منشأ هذا الورم ليتاح لنا فهمه ووصف علاج يجتث أصوله وفروعه تماماً ونهائياً. هذا يقتضي بالضرورة فتح قنوات اتصال شاملة لكافة أطياف المجتمع السوري وبناء منطق تحاوري تغلب فيه الأنسنة على الأدلجة، ويختفي خلاله منطق الاستعلاء الأكثري والاستقواء الأقلوي.

لنبحث مخلصين دائبين عن حبل خلاص يشدنا طوعاً من جوف الخنادق لنهيل التراب على البنادق.

لنبدأ بالفاعل الاجتماعي الثقافي، الأصل والمنطلق، برجل الشارع العادي ريثما تتاح قنوات التعبير والتغيير السياسي.

إذا نجحنا في إنجاز هذه المهمة ستكون مساهمة في إنشاء البنية التحتية التي على أساسها نرفع قواعد الدولة وسقفها الوطني؛ أعني بناء نواة شعب متحرر من الانتماءات الضيقة وعقلية القطيع.

خلاصة الفكرة: إطلاق مبادرة تهدف لصيانة اللحمة الوطنية باختراق الجدار المنتصب أمام تجانسها بوجهين سلطة/ معارضة لا يسيران في الاتجاه الصحيح وفتح أفق سياسي جديد يتيح للراغبين في تغليب الانتماء لهويات فرعية ما دون وطنية التموضع في صف وطني خالص من الشوائب، تمهيداً لتطوير هذا الزخم من سياقه الاجتماعي الثقافي إلى رهان سياسي واضح الاتجاه والمعالم يقف بصلابة في وجه الأفكار والتيارات الهدامة سواءً تلك التي تعمل على اختطاف الدولة وصبغها بلون واحد فحواه الوصاية على الدولة والمجتمع وإن بشكل غير معلن، أو المشاريع التي تسعى لتطييف مشروع الدولة واستثمار التعدد في إنتاج الانقسام تمهيداً للتقسيم أو الالتحاق بمشاريع إقليمية تشكل تهديداً خطيراً للأمنين الوطني والقومي.

مهمتنا بعبارةٍ أخرى، استئناف مسيرة الثورة من مرحلة إسقاط النظام القديم إلى مرحلة إنتاج نظام جديد على أنقاض النظام البائد والإدارة المؤقتة التي لن تستمر في كل الأحوال ولا يجوز التسليم لها بما منحته لسلطتها من صلاحيات مطلقة دون أي قدر من الرقابة والمحاسبة. هذا يعني باختصار إنتاج بديل مطابق للحلم الثوري السوري عبر بناء طبقة سياسية جديدة مؤهلة لإزاحة كافة البنى السلطوية/ النخبوية المتكلسة الآيلة للسقوط.

إنه استحقاق النضج السياسي وموسم قبض ثمن التضحيات والتوزيع العادل والدائم للإرث النصالي على من يستحق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى