في مهرجان السويداء الاحتفائي اليومي المتصاعد بزخم الثورة ورفض النظام الفاسد وكل أدواته وركائزه المؤسسية والفكرية، وحيث ارتقى الشيخ حكمت الهجري بكل جدارة من مجرد غطاء اجتماعي ديني إلى قائد ميداني لا تنقصه الحكمة والعقلانية والتسامح ولا الحزم والجرأة والشجاعة وبعد النظر ليتقدم بخطوات حكيمة ومدروسة مع جموع هادرة من حوله وكلها، تتجاوب مع تطورات الحدث وتداعياته وآخرها وأخطرها إطلاق النار من سطوح فرع حزب البعث والتلويح بالطيران الحربي الاستفزازي فوق السويداء بغية استجرارها لمواجهة عسكرية مرفوضة.
إنها ساحة الكرامة بحشودها وأهازيجها وهتافاتها وبيقظة شبابها وتحفزهم لكل حركة مريبة، وحيث يتعايش خطان ثوريان رئيسان ومتوازيان وقد لا يتقاطعان إلا برفضهما القاطع للعفن السلطوي القائم والإعلان عن مستقبل الحرية والكرامة وبناء دولة وطنية خالصة من أشكال الاحتلال التي قطّعت الجسد السوري إلى أجزاء لا مستقبل لأي منها من دون التئام الجسد كله ونهوضه على مبدأ الحرية والديموقراطية والهوية الوطنية الجامعة.
من هذه الأولية الوطنية الكبرى تنادي انتفاضة السويداء على أهلها السوريين، ليكونوا معاً في حراك مدني سلمي وحضاري، يتمسكون به ويسيرون بهديه شيباً وشباناً رجالاً و نساءً، وهم يقولون للسوريين (السويداء لها ولكم وهي اليوم بؤرة ثورتكم) وهي لم تزل تترقب نهضتكم، كل منطقة بما تسمح بها ظروفها وبما تؤهله له إمكانياتها. وهذا كله مفهوم ومبرر إلا التجاهل وإدارة الظهر وتخرصات بعض أصحاب الجملة (الثورية) والتطهريين، ومن يثيرون صراعات جانبية، لا تصبّ في مجرى الثورة المتجدد، بل تبني على ما يعيقه ويتركه فريسة لحصار النظام.
صحيح أن الدروز اسم لطائفة دينية وأن الاسم ليس مجرد عنوان، بل هو دال ينطوي على مدلولاته التاريخية الواقعية والمتخيلة سواء بتصور أهلها النرجسي عن الذات النخبوية أو بتصور الآخرين وحيث يتأرجح الرأي بين السلب والإيجاب وفقاً لخبرة أصحابه الواقعية أو المتخيلة ولمدى وعيهم واعترافهم بالآخر أو غير ذلك من الأسباب. وإذا كان هذا طبيعياً في ظل ثقافة الفرقة الناجية، لكن الأمر يغدو فاقعاً وخارجاً عن طبيعته حين ينسحب على الموقف من حراك السويداء وتركه ليحمّل نحو 3 بالمئة من السوريين معظم الحمل السوري في مرحلة مفصلية يضيق فيها الخناق على النظام المتهالك وحيث تلوح في الأفق علامات انهياره.
وإذا كان من المبكر وربما المضر الفصل بين الخطوط المتداخلة (الدينية والاجتماعية والسياسية) في هذا الحراك الجبلي ما دامت الساحة تتسع للجميع، لكنني أخشى إذا طال زمن الاحتجاجات وتراخت يد السوريين عن المؤازرة، أن تسارع أيد خارجية، لتتلقف الساحة وإلباسها لبوساً درزياً قهرياً، وهو ما يعود بالضرر على السويداء وعلى السوريين وما ينتظرونه من العودة إلى سوريا محررة من مجرمي العصر وطغاته والانتقال إلى سوريا آمنة مستقلة موحدة لجميع أبنائها. من هنا أقول لكل السوريين السويداء أمانة بأعناقكم، بقدر ما تناصروها وتتنصروا بها ومعها بقدر ما تبعدوها عن الأيدي الملتبسة الجاهزة لتلقفها وبلورتها ضمن توافقات برغماتية بائسة تدركون جميعاً، كيف تسيّر وإلى أين تتجه، وهنا أذكر الجميع بأهمية ذلك التآزر الرائع من شباب درعا مهد الثورة البطلة التي لم تضعف ولم تستسلم، وها هي تعد العدة لانطلاقة جنوبية موحدة، بأيد ثورية واحدة وقلب واحد وهدف، يجدد ما هتفت به حناجر السوريين منذ آذار عام 2011 وما زالت تهتف به رغم كوارث الاحتلالات والولاءات وسلطات الامر الواقع.
السويداء ظاهرة وحين تكون الظاهرة وطنية وتغصّ الساحة بخلائط سياسية واجتماعية من متدينين وغير متدينين، تتراجع الطائفة إلى عمق الوجدان الشخصي، وتغيب تعبيراتها الإعلامية والميدانية ولا يعود للمذهب سوى خرقة ملونة يصر بعضهم على جعلها رمزاّ ودلالة وجودية أو البديل عن علمين لا توافق على أي منهما، والأهم من كل ذلك أن السوريين تسامحوا معها، لأنهم تأكدوا أنها ليست هوية لثورة درزية بل هي تعبير عن دروز ينخرطون في الثورة ويسعون مع كل السوريين إلى نصرتها. ومن هنا أطرح هذا التخوف وأنا أدرك جيداً أهمية ومسؤولية الشيخ حكمت الهجري ومن حوله كالشيخ حمود الحناوي وجماعة من الشيوخ ومجمل المتظاهرين في ساحة الكرامة في تكريس السويداء كظاهرة سورية ريادية، بنت على ثوابتها مدرسة نضالية مدنية حضارية، لثورة اجتماعية/ سياسية، تلتمع في فضائها العمائم وزغاريد النساء ورجال العشائر وهتافات فتية أنضجهم الظلم وتغوّل النظام، فابتدعوا وسائلهم وأبهروا وقد شكلوا على أرض المواجهة مع النظام وأجهزته تجربة تضاف إلى ما خبره السوريون وما جربوه في الميدان والسياسة والإعلام المتوازن وأساليب الحماية الذاتية ونبذ الأصوات الانفصالية على ضعفها وحماية المصالح والمؤسسات العامة وتعطيل كل أدوات التسلط من أجهزة أمنية وحزبية وسلطوية وإغلاق البؤر الحزبية وكل مظاهر سلطة الأسد المنكفئ في فساده ونرجسيته وتخاطره بذيله الطاووسي تاركاً لأبواقه ومرتزقته لينضحوا من معجم ملفوظاته الجوفاء في التخوين والمؤامرة وجعل الوطنية وسماً أسدياً أو (لوغو) خاصاً بشركته المغفلة وقد لطخه بدماء السوريين وغمسه بكل أنواع الفساد والكبتاغون وغيره.
بعد هذا الوضوح الاستراتيجي الوطني، هل تخطئ السويداء إذ تقف في وجه بيع البلاد ورهنها عقارات ومنابع طاقة ومطارات وشركات تمتص ما تبقّى من دم السوريين بعد أن امتصته علقات الدم الأسدية منذ انقلاب حافظ الأسد وتأسيسه لإمبراطورية طال أذاها سوريا ولبنان وفلسطين والعراق؟ وها نحن السوريين جميعاً لم نزل نحصد ثمرة زرعه المسموم وما ورثه لابنه الغر، الذي لم يكتف بقتل بعض السوريين كما فعل والده، بل قتل الشعب السوري كله مادياً ومعنوياً وخرب الكيان السوري ولم ولن يحصل على الطاعة والولاء.
وأخيراً حان الوقت لنقول للعرب الصارخين وجعاً من كبتاغونه ولمن ضغطوا بحمية مبالغ بها على يد دراكولا الدم والدمار، ولمن لم يتعظوا بعد إن ما يحدثه الحراك السوري المتجدد، لا يذهب نحو تجديد ما تسمونه الفوضى ولا تخريب الدولة ومؤسساتها بعدما هدأت واستقرت تحت ما تزعمونه انتصار بشار. السوريون يخوضون معركة مصير معركة وجودية، تبدأ بحريتهم وكرامتهم وبالخلاص من مخاطر ولاية الفقيه وأذنابها السامة على الجميع في آن واحد. حيث وحده الخلاص من هذه العاهة والانتقال إلى الحرية والديمقراطية والعدالة وحده، يقطع طريق الكبتاغون ووحده يبعد خطر ولاية الفقيه ويكف أذنابها المسمومة عن أذيتكم، ووحده يعيد سوريا دولة لمواطنيها للتنمية المتكاملة ووحدة جيو-استراتيجية حرة وسيدة وقلباً نابضاً بالمحبة والأخوة وإحلال السلام.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا