هناك محاولة للإطباق على المدينة وتهميش دورها وتزوير هويتها وإظهارها متطرفة
تكررت في صيدا (جنوب لبنان) خلال السنوات الماضية أحداث ومواقف عكرت أجواء المدينة وصبغتها بصبغة طائفية ومتطرفة، وازداد الحديث في وسائل الإعلام وبين الأهالي عن ظواهر إسلامية أو إسلاموية خرجت من المساجد إلى الشوارع، صابغة المدينة بصبغات لم تعهدها حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية. المدينة اللبنانية الهادئة التي تعرف ببوابة الجنوب، بات اسمها أخيراً لا يذكر إلا من خلال توترات ونزاعات لا تشبهها أبداً، وفقاً لوصف بعض من أهلها، الذين ناموا على إسلام تقليدي واستفاقوا على آخر لا يشبههم.
تعايش أو “موزاييك”؟
تميزت صيدا خلال سنوات الحرب باحتضانها الحركات القومية والوطنية واليسارية التي وجدت في المدينة المختلطة طائفياً، إضافة إلى تعاطف الصيداويين مع القضايا القومية والعروبية، مجالاً للانتشار والتمدد. في تلك الأثناء لم تغب الهوية الإسلامية السياسية عن المدينة، بخاصة أنها ظلت مسرحاً لعمليات المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل حتى عام 2000، عام الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب. لكن الوضع تغير كثيراً اليوم، إذ يجمع عديد من الفرقاء الذين تحدثت معهم “اندبندنت عربية”، وبمختلف توجهاتهم السياسية أو المدنية، على أن هناك بالفعل قوة إسلامية أو إسلاموية تحاول السيطرة على مفاصل المدينة، في محاولة لإظهار المدينة بصورة متزمتة متطرفة. وما يثير الاستهجان أن تلك المدينة التي تعرف تنوعاً في نسيجها الاجتماعي والمذهبي والطائفي والسياسي، في خليط لا تعرفه أية منطقة لبنانية، بحكم تجاورها مع أكبر مخيم فلسطيني في لبنان، وهو مخيم “عين الحلوة”، أضف إلى ذلك الحرب السورية التي دفعت بأعداد كبيرة منهم إما إلى اللجوء أو الاستملاك في المدينة، هذا الخليط أو “الاختلاط” يصفه بعض العارفين من أبناء صيدا بأنه يحمل “بذور التوتير”، بمعنى أنه سينفجر عند أية شرارة محفزة. وصحيح أن هناك علاقات تاريخية بين أبناء صيدا والمخيم، لكن لم تصل إلى مرحلة الاندماج، كما لم يستطع أي فريق من الفرقاء العديدين إسلاميين أو مدنيين أو علمانيين أن يصهر الآخر ضمن بوتقته، وسترى خلال تجوالك في شوارع صيدا وأسواقها الحجاب الإسلامي التقليدي والنقاب، وصولاً إلى الأزياء الأوروبية ولباس البحر.
“قبل أن تغرق المدينة”
في شهر أغسطس (أب) 2022 كان من المفترض أن تقام حفلة موسيقية ترفيهية على الواجهة البحرية لمدينة صيدا، لكن البلدية ألغت الحفلة مبررة ذلك في بيان حينها، جاء فيه “بعد التنسيق بين لجنة الأنشطة في بلدية صيدا وبين إدارة شركة World of Business (الشركة المنظمة)، وتم الاتفاق ولأسباب تقنية ولوجستية على عدم إقامة الحفلة في الملعب البلدي للمدينة، على أن تقوم الشركة المنظمة بنقلها إلى مكان آخر”. لكن الإلغاء جاء بعد خطب لأئمة المساجد تحت عنوان “قبل أن تغرق المدينة”، في خطوة منسقة لمنع إقامة الحفلة الترفيهية، وقال أحد المشايخ إن مدينة صيدا تعرف بـ”التزام أهلها بالحياء والحشمة والعفة، وما زالت والحمد لله المدينة الوحيدة في لبنان التي لا يوجد فيها مسبح مختلط بين النساء والرجال، وليس فيها ملاه ليلية ولا تباع فيها الخمور علانية، وأهلها لا يرضون بظهور المنكر”، مضيفاً “ثمة خطط واستراتيجيات واجتماعات، وينفقون الأموال من أجل تفكيك كيانية واجتماع هذه المدينة”.
والحفلة التي كانت برعاية البلدية قررت سحب يدها منها بسبب رفضها من مجموعات إسلامية من فلول الشيخ أحمد الأسير ومجاراتهم من “الجماعة الإسلامية” وبعض القوى السياسية الصيداوية، والسبب بحسب ما تحدثت مصادر صيداوية للإعلام عن وجود صور “غير لائقة” للفنانة مايا نعمة المشاركة في الحفلة، واضعة ذلك التصرف من البلدية بمثابة الخضوع لأئمة المساجد.
“لسنا في قندهار”
وفي شهر مايو (أيار) الماضي ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر تعرض الناشطة ميساء حنوني إحدى سيدات مدينة صيدا، بعد تعرضها وزوجها للاعتداء اللفظي من شيخ برفقة أتباع له، بلغ عددهم 15 شخصاً تبعاً للإعلام، بسبب ارتدائها المايوه على شاطئ صيدا العام، ووصل الأمر إلى رجمهما بعبوات ماء مملوءة بالرمل وطردهما من المسبح. ووفقاً لما صرحت به تلك السيدة أن هذا يحدث معها للمرة الأولى، وشددت على أنه لا يحق لأحد أن يمنعها من ممارسة حريتها، قائلة “هذه مدينتي وهذا بيتي. الدستور يكفل الحرية الشخصية، وبالتالي لا يحق لأحد أن ينصب نفسه على رقاب وحرية الناس، وأن يقرر ما الصح وما الخطأ”.
تلك الحادثة التي سماها بعضهم بـ”فتنة المايوه”، كانت الأولى من نوعها في صيدا وفي لبنان أيضاً، وكانت بلدية صيدا نشرت لافتة كبيرة عند مدخل شاطئ مسبح صيدا، اشترطت فيها على رواد الشاطئ الالتزام بتعليمات الدخول، وأهمها التقيد باللباس المحتشم، ومنع إدخال المشروبات الكحولية، ومنع أصوات الموسيقى المرتفعة، وتصدر هاشتاغ “اللباس المحتشم” مواقع التواصل، بعد حرب “المايوه النسائي”، في حين تساءل بعضهم “عالبحر بيلبسوا لباس البحر، وين نحنا بقندهار؟”.
وتحول الشاطئ إلى ساحة مواجهة بين مجموعات نسوية ومدنية، في مقابل مجموعات رافضة بحسب قولها “تحدي ثقافة المدينة وعاداتها وتقاليدها أو اختطاف هوية عاصمة الجنوب ونشر ثقافة العري على شاطئها الشعبي”. وفصلت القوى الأمنية والعسكرية والشرطة البلدية بين الطرفين، ولم تسمح بدخول شاطئ المسبح الشعبي، وعبثاً حاولت القوى الأمنية تفريق المتواجهين إلا أنه سجلت صدامات فردية وأخرى مع القوى الأمنية والعسكرية، وأفيد بحصول إصابات محدودة.
“اندبندنت عربية” حاولت التواصل مع النائبين عن مدينة صيدا أسامة سعد وعبدالرحمن البزري للاطلاع على بعض النواحي حول ما يحصل، لكن لم تلق جواباً. وكان البزري علق على حادثة المسبح بالقول “صيدا منفتحة على الجميع وما حدث مؤسف، وصيدا ليست قندهار ولن تكون على رغم جوها المحافظ”.
وغرد سعد على حسابه على موقع “تويتر” قائلاً “الحيز العام لكل الناس، يلتقون فيه على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم وأزيائهم بقبول ورضا وغض بصر، غير ذلك توتر وتعد وفوضى. أحدهم يريد حرق المدينة وآخر يريدها على هواه، وإلا خطاب متوتر وانفعالات متفلتة، مشهد لا يرضي صيدا المهمومة بأمور كثيرة”. وهذا ما استدعى استغراب بعض الأوساط الصيداوية، واصفاً الأمر بـ”الموقف الرمادي”.
صيدا المسالمة جارة مخيم “عين الحلوة”
الكاتب الصحافي خالد العزي، ابن مدينة صيدا، وصف صيدا بـ”المدينة المسالمة”، قائلاً “صيدا تاريخياً هي بوابة الجنوب، وصحيح أنها ذات أغلبية سنية، لكنها تحتضن كل المكونات والقوى المختلفة، وهناك تعايش بين السنة والمسيحيين والشيعة الموجودين في حارة صيدا، الذين لم يشعروا يوماً بأنهم غرباء”، وتابع أن أهالي صيدا لطالما عرفوا بالبساطة والطيبة، ولهم تقاليدهم وعاداتهم التي يحافظون عليها، إضافة إلى أن الإسلام السني التقليدي موجود ضمن أنحاء المدينة.
وعرفت هذه المدينة تاريخياً بأنها بوابة نضال، وليست محصورة بفئة أو مغلقة على نفسها، لكن هناك محاولة للإطباق عليها منذ فترة طويلة، وهناك تهميش لدورها في محاولة لتزوير هويتها وإظهارها كمدينة متطرفة، ولفت إلى أن “كل الأحداث التي شهدتها صيدا ناتجة من تمدد التطرف الذي أتى بداية من مخيم عين الحلوة، إذ إن هناك أئمة جوامع وشخصيات إسلامية، ونتيجة الترابط ما بين صيدا والوجود الفلسطيني الحاضن للمخيم، ومدى انقسام الحركات الفلسطينية على واقعها وطبيعتها، أي الارتماء في أحضان القوى المجاورة، مما سهل الطريق أمام القوى الخارجية للتلاعب بهذه الشخصيات وتوجيهها”.
حركة الأسير
في السياق يبدو واضحاً انحسار الأحزاب السياسية التقليدية وتراجعها، مما يعني أن جزءاً أساسياً من الرأي العام الصيداوي دخل فراغاً سياسياً وتنظيمياً، في مقابل ازدياد الحراك السياسي والتنظيمي للأحزاب والمرجعيات الإسلامية، ومنها ظاهرة الشيخ أحمد الأسير و”الجماعة الإسلامية” من جهة، والشيخ ماهر حمود من جهة ثانية، في استغلال للفراغ في الشارع السني عموماً. وعن هذا يقول الكاتب الصحافي خالد العزي “في البداية شهدت صيدا حركة تمرد لجماعات سنية متطرفة موجودة في مخيم عين الحلوة، وتحديداً عندما بدأ الصراع بين عصبة الأنصار والأحباش، مما أدى إلى اغتيال نزار الحلبي الأمين العام لجماعة الأحباش، ومن ثم حوصر المخيم وبدأت الصبغة الطائفية تلصق به، وبدأ بإيواء المطلوبين والمجرمين والهاربين من العدالة. ومن هنا بدأ صعود الحركات المتطرفة التي تتمتع بدعم خارجي، ولاحقاً عندما سقط المخيم في قبضة قوى الأمر الواقع وأصبحت هي الفاعل في هذ المخيم من خلال إدارة مجموعات، أصبحت هناك محاولة لمحاصرة صيدا ونعتها وإلباسها ثوباً طائفياً، جاء ذلك بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وبناء مجموعات مناهضة للاعتدال. وبالتالي باتت هناك محاولة للسيطرة على تلك الجماعات والقوى الإسلامية، وبدأت الانقسامات وأسهمت في خلق شخصيات وتيارات ومجموعات موالية لمحور المقاومة والممانعة، كي يبدو أن هذا المحور يتمتع بدعم في مدينة صيدا”.
وتابع الكاتب الصحافي خالد العزي “وجاء صعود حركة الأسير كرد فعل وليس إيماناً وتطرفاً من الصيداويين أو تبعية لهذا الشيخ، الذي سلم المدينة ليد حزب الله، ولكن التهميش ووضع البلد السياسي دفع بالشباب الصيداوي للبحث عن مكان يستطيع التعبير من خلاله وعبره. وكانت شعارات ومواقف الأسير تدعو إلى الوقوف بوجه الظلم والتهميش. وتحول الجامع الذي كان يصلي فيه والموجود في مدخل مبنى إلى جامع يصلي فيه كل أبناء صيدا من مثقفين ومحامين وأطباء، وكانوا يطالبون بأن يكون للمدينة صوت، وألا تكون مرتهنة لحزب الله. انتهت حركة الأسير ومن قاومها هم الصيادنة، علماً أن هذه الحركات الإسلامية تكون في معظم الأحيان مرتبطة بأجهزة أمنية داخلية وخارجية، ولكن وجب التمييز بين هذه الحركات وبين الشارع السني الموجود في المدينة الذي يحاول إيجاد غطاء وحماية”.
نواب صيدا “عاجزون”
ويشير العزي إلى أن “نواب صيدا عاجزون عن حماية أهلها، وأظهرت موجة وباء كوفيد-19 مدى معاناة المدينة مع التهميش والفراغ الاجتماعي والاقتصادي، مما أشار بوضوح إلى أن هذه المدينة متروكة. من هنا شهدت صيدا اعتصامات جاءت بعد خروج ثورة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) وشارك فيها مسيحيون من شرق صيدا ومن جزين، كما شارك أناس من الزهراني، أي من الطائفة الشيعية”.
ويضيف أن أهل صيدا أجهضوا مشروع “حزب الله” في الانتخابات النيابية الماضية عندما أعطوا أصواتهم للنائب أسامة سعد، لكن للمفارقة أنه بعد حادثة الشيخ عبدالكريم علوه الفلسطيني الجنسية، وهو من “أهل الدعوة” وإمام مسجد الفرقان في الهلالية بصيدا، حيث تعتبر منطقة المسبح الشعبي أو الحمام العسكري متنفساً لأهالي صيدا وشرقها، وتذكر النساء من أهالي المنطقة أنهن كن يقطعن الشارع من بيوتهن المقابلة للكورنيش إلى المسبح بالمايوه، ذهب علوه إلى الشاطئ لاحتجازه متحدياً الدولة وفعاليات ونواب صيدا. والكل يذكر أن معروف سعد (والد أسامة سعد)، اغتيل خلال الحرب الأهلية عام 1975 عندما كان يقود تظاهرة لصيادي الأسماك ضد تشريع الدولة لاحتكار إحدى الشركات صيد السمك على طول الساحل اللبناني، بينما جاء رد ابنه أسامة خجولاً وبارداً على حادثة المسبح. والغريب أن علوه قال إن لباس البحر ممنوع في صيدا، ودعا الناس للذهاب إلى الغازية وصور والرميلة (مناطق بحرية جنوبية)، في دليل واضح على أنه يريد أن يعلن صيدا منطقة متطرفة”.
المصدر: اندبندنت عربية