في ذكرى ثورة يوليو | محاولة لاستطلاع المستقبل | حوار مع الدكتور مخلص الصيادي

عبد الرحيم خليفة

في اختبار “الربيع العربي” سقط القوميون والاسلاميون.

  • الفكر القومي يعاني أزمة عميقة.
  • العروبة ليست خياراً.

هذا المقال الطويل للدكتور مخلص الصيادي هو بالأصل مجموعة أسئلة ومحاور طرحناها عليه بمناسبة الذكرى 70 لثورة يوليو المجيدة ليس للاحتفاء بهذه الثورة وحسب، بل للإجابة على أسئلة الحاضر والمستقبل التي تشغل بالنا جميعاً.

الدكتور مخلص الصيادي ناشط سياسي، طليعي، بل هو أحد قادة العمل الوطني الناصري، وأحد قادة العمل القومي_ الطليعي منذ شبابه الأول، بنى نفسه فكراً وثقافة وتجربة في إطار حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، ومن ثم في إطار تنظيم الطليعة العربية. له العديد من الكتابات والأبحاث والمؤلفات المعنية بقضايا الفكر والسياسة، ومن هنا أهمية الحوار معه، من موقعيه السياسي والفكري، الوطني والقومي.

هذا الحوار _ ضمن حوارات أخرى مع شخصيات وطنية وقومية محاولة من موقع (ملتقى العروبيين) للتصدي للتحديات والمعوقات التي تواجه الفكر القومي وحملته من قوى وتيارات وشخصيات.

في ذكرى ثورة يوليو محاولة لاستطلاع المستقبل

سبعون عامًا مضت على ثورة 23 يوليو، التي أطلت على الوطن العربي من مصر، لتفتتح مرحلة جديدة من تاريخنا، ولتوجه حركة الأمة كلها في طريق جديد أصيل، يستهدف جمع قدرات الأمة كلها لبناء مستقبل لها، لتحريرها، ولوضعها على طريق التقدم المادي والروحي، لإعادة الفاعلية لها في الإطار الدولي والإنساني، لتحقيق الطمأنينة والثقة في المستقبل وأن هذا المستقبل يصنع بيد أبنائها، ولأجلهم.

لكن هذا الحدث الجوهري في تاريخنا المعاصر ما لبث أن أجهض، ولم يأت ذلك بفعل العدوان الخارجي المتكرر فحسب، وإنما أيضا بفعل الثغرات الداخلية، وبفعل الاختراق الفكري والقيمي قبل الاختراق الأمني، والذي وجد فرصته مع الرحيل المفاجئ لقائد هذه الثورة، ومع الظرف الاستثنائي التي كانت الأمة تمر فيه.

الآن ونحن نقف على بعد أكثر من خمسة عقود على حدث الارتداد عن ثورة يوليو، كيف يبدو المشهد؟

هذا جوهر الأسئلة المتعددة التي طرحها الموقع أمامي باعتباري أحد أبناء مرحلة وتجربة وفكر ثورة يوليو، وهذه محاولة للإجابة عليها؟

1

انا من الذين يؤمنون أن ثورة 23 يوليو مثلت الفرصة التاريخية لخروج العرب، دولا ومجتمعات، من حالة التبعية والضعف والتمزق والارتهان والتفاهة، إلى أفق الاستقلال والتنمية والعدالة  والمشاركة في صناعة مستقبل الحياة على هذه الأرض، وقد ووجهت هذه الفرصة التاريخية بعنف من قبل دول الغرب الاستعماري، ومن قبل القوى الاجتماعية داخل المجتمعات العربية التي كانت مطية لتلك الدول ومخططاتها، وأمكن للطرفين “الخارجي والداخلي” أن يفوتوا على الأمة هذه الفرصة، وأن يجهضوا الثورة التي جسدت هذه الأهداف، وأن يدمروا تدريجيا وبطريقة مثابرة كل الإنجازات والقيم والمفاهيم التي جسدتها تلك الثورة أو صعدت معها، وإذ يشار إلى بدء عملية التحول بانقلاب الرئيس المصري السابق أنور السادات في 15 مايو 1971، ومن ثم في انتقاله إلى المعسكر الأمريكي مع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع العدو الصهيوني، فإن عملية تفكيك منجزات تلك الثورة لم تتوقف، على الصعيد المادي، والفكري، والقيمي، ولعل استكمال تصفية “الصناعات الناصرية” مؤخرا، والتحول إلى صيغ الحلف العسكري مع الولايات المتحدة والعدو الصهيوني، وفي إطار ما سمي ب” الاتفاقات الابراهيمية”، يمثل أحدث وأوضح أشكال إجهاض تلك الثورة، وتخريب تلك الفرصة التاريخية التي لا يعرف متى يمكن أن تتاح مجددا.

لقد ظهر بوضوح أن “مصر” واسطة عقد هذه الأمة فإذا انفرطت لم يغننا عنها شيء، وعم الضعف والهوان الأمة كلها بكل أقطارها، ونظمها، وثرواتها، وقيمها.

وكذلك ظهر جليا أن “فلسطين”، الأرض والشعب والمقدسات والمقاومة، هي الكاشف الحقيقي لأي موقف ولأي مشروع، ولأي قوة سياسية، ولأي برنامج يمكن أن يطرح.

واستنادا الى التجربة الناصرية وتلك الفرصة التاريخية المغدورة تبين بشكل حاسم أن الشعوب هي وحدها القادرة على حمل الأهداف الحقيقية للأمة، على المستويين الوطني والقومي، وبالتالي فإن الالتزام بالقوى الرئيسية لهذه الشعوب، وباحتياجاتها، وإعطاء القدسية لدمها وثرواتها وقيمها هو ما يوفر السلاح الحقيقي لتنفيذ أي برنامج نهوض وتحرر حقيقي وطني أو قومي. وهذا الاستناد وهذه القدسية تمثل معيارا رئيسيا للحكم على النظم القائمة، وعلى القوى السياسية وما تحمله أو تطرحه من شعارات.

مسيرة الثورة التي جسدت قيم الناس، قيم هذه الأمة وتطلعها، قادها جمال عبد الناصر، وحينما خرجت جماهير الأمة تعلن في وداعه أنها ستكمل المشوار، لم يكن هذا الإعلان فعلَ القوى المنظمة، ولا شعارَ الأحزاب والمفكرين، ولكنه كان نداءً من الضمير العام لهذه الأمة، نداءً من أعماق الحس الجماهيري، نداءً تحول إلى أغنية عامة ترددها الجماهير الحزينة، وكان المعنى الحقيقي لهذا النداء أن هذه الجماهير تؤمن بالخط والنهج والأهداف التي رفعها جمال عبد الناصر، وأنها على استعداد لدفع الثمن وتحمل العبء تماما كما فعلت تحت قيادة جمال عبد الناصر، وأن المطلوب فقط أن تتابع القيادة الجديدة طريق عبد الناصر، وأن تلتزم سلوكه، وتعزز قيمه.

لم تكن هذه الجماهير في تأكيدها لهذه المفاهيم والقيم مخدوعة، ولم تكن مغيبة، ولم تكن تعيش أحلام الرفاهية، لكنها كانت تعيش أثقال النكسة، وتحمل على عاتقها تكاليف إعادة البناء العسكري والاجتماعي، واستكمال خطط التنمية، وتواجه كل الحصار المفروض على الوطن، ولم يكن هذا حال “الناس” في مصر فقط، لكنه كان هو نفسه حال “الناس” في كل الوطن العربي على اختلاف النظم القائمة، والأفكار والايديولوجيات المعلنة.

كانت هذه الجماهير هي ” القومية، والشعبية، والمتدينة، والمتحررة”، وهي التي أطلقت ذلك النداء بمتابعة المشوار، لذلك ليس صحيحا القول إن هذه الجماهير صاحبة هذا الشعار حنثت عن قسمها، وتخلت عن ذلك الشعار. الذي تخلى أو انحرف أو تساقط هم شريحة ممن كانوا يصنفون بأنهم قوميون، أو ثوريون، أو وطنيون.

وهنا لا بد من الاعتراف بأن الحس والروح الجماهيرية، كانت أعلى وأعمق في فهمها لهذه الشعارات وتجسيدها لها من تلك النخب التي تصدرت المشهد.

2

لا شك أن الفكر القومي يعاني من أزمة عميقة، لأنه بفعل الردة هوى إلى أعماق سحيقة فتت قواه.

الردة لم تقف عند كامب ديفيد، وتوابعها، وإنما استكملت بما آلت إليه أوضاع المقاومة الفلسطينية، والاتفاقات اللاحقة للتسوية مع العدو، وصولا إلى احتلال العراق، ودور النظم العربي في تدمير هذا البلد، واختطاف الربيع العربي وتدمير الفرص الجديدة للنهوض التي وفرها ذلك الربيع، وأخيرا ما شهدناه بما سمي الاتفاقات الابراهيمية وتوابعها.

كل هذا المشهد ما كان يمكن أن ينحدر إلى هذا المستوى لولا أن الضربة الرئيسية وجهت لمصر، فأخرجتها من السياق القومي، ومن الميزان القومي، وبدل أن يتحول الوضع العربي عقب كامب ديفيد إلى رافعة تساعد على استعادة مصر إلى الحاضنة القومية، ـ كما تصور أو تمنى البعض ـ استطاع الخلل الحادث أن يسحب كل الوضع العربي إلى درك كامب ديفيد، وإلى المعسكر نفسه، المعسكر الإسرائيلي الأمريكي، وبات الحديث عن المصلحة القومية العليا، والأمن القومي العربي،  حديث لا مصداقية له، ولا يعني شيئا في مسار الأحداث والمواقف والقرارات التي تتخذها النظم العربية.

بشكل مبكر ظهر حراك “طليعي ـ قومي” يحاول أن يتدارك الوضع ويلم شعث قوى الأمة، ويحاول أن يبني قوة قادرة على تصحيح أو إعاقة مسار التردي، وتجلى هذا الحراك من خلال إنشاء المؤتمر القومي العربي ومن ثم المؤتمر القومي الإسلامي، وكان الدافع المعلن والحقيقي لهذا التحرك إدراك صادق بأن القوى السياسية المؤمنة بوحدة الأمة لا بد لها أن تلتقي للتصدي لهذا التردي، وإذا كانت قوى الأمة قد توزعت تاريخيا بين قوى قومية وإسلامية فلابد من أن تلتقي هذه القوى في مشروع واحد يجعل فعلها يصب في اتجاه واحد، ويتطلع إلى هدف واحد، وهو استعادة الأمة لذاتها واستعادتها لمشروعها الحضاري، ولنهضتها، ولدورها ومسؤوليتها على المستويات كلها.

وجاء هذا التحرك بدوافعه وتطلعه تحركا مشروعا يملك كل المقومات الموضوعية للنهوض.

وعلى قاعدة هذا التحرك عقدت العديد من دورات المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي الإسلامي، واستخلص الأخير تصورا موحدا للمشروع النهضوي العربي، عمل على صوغه مفكرون وسياسيون من التيارين.

ورغم ملاحظات يمكن أن توضع على هذا المشروع ـ وقد وضعت ـ إلا أنه مثل بعمومه قاعدة لقاء، ولدت حينها الكثير من التفاؤل، وأطلقت خيالات لإمكانية إخراج الأمة مما هي فيه، أو إعاقة الهجمة التي تتعرض إليها، خصوصا وأنه يستند إلى حقيقة أن أي إمكانية لنهوض الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا باجتماع تياري الأمة القومي والإسلامي، لأنهما معا يشكلان ضمير الأمة، ويستحوذان على تاريخها وقيمها وحضارتها، وبالتالي على مقوماتها الحقيقية كأمة.

لكن هذه القاعدة التي مثلها المؤتمر القومي الإسلامي ومخرجاته، ما لبثت في أول اختبار أن سقطت، وتبين أن الحديث عن لقاء تياري الأمة القومي والإسلامي، كان في حقيقته حديثا نظريا، حديث سياسيين ومفكرين فحسب، لم يمتلك قاعدة عملية تستطيع أن تصمد أمام التغييرات والتطورات التي تمر على الأمة.

لقد أسقطت تجارب الربيع العربي ظاهرة لقاء القوى القومية والإسلامية، وتبين بسرعة أن كلا التيارين لم يلتزما ” قواعد المشروع النهضوي العربي” الذي تمت صياغته والتوافق عليه.

بسرعة ولغرض الوصول إلى السلطة ذهب الكثير من قادة التيار الإسلامي وقواه المنظمة يبحثون عن دعم واشنطن والغرب لهم، لقد رأينا هذا واضحا في مصر وسوريا وليبيا، حتى وصل الأمر الى استدعاء الناتو، واتكأوا في هذه البلدان وغيرها على قوى التطرف الإسلامي للتمكين لأنفسهم، وطلب الرضا الأمريكي. وبدل أن يجعلوا من تجارب الماضي ودعوات التفاعل القومي الإسلامي إطارا يجمع التيارين راحوا يستدعون تلك التجارب لبث التفرقة واستثارة الضغائن.

وبسرعة تخلى الكثير من قادة التيار القومي وقواه المنظمة عن موجبات العمل الديموقراطي، ظنا منهم أن الديموقراطية أخذ قبل أن تكون عطاء، وطريق سلسة في العمل السياسي قبل أن تكون تضحيات، وقاموا يدعمون أنظمة وتيارات مستبدة وطائفية بدعوى مواجهة التيارات الإسلامية، وانحازوا إلى جانب العَلمانية في أكثر أشكالها ضررا وتفريقا للأمة، وأظهروا سرعة غريبة في التخلي عن الروح الإسلامية التي تحتاجها الأمة في وحدتها، والتي افترضتها دعوى لقاء تياري الأمة.

أستطيع أن أقرر وأنا مطمئن أن القوى الرئيسية في تياري الأمة: القومي والإسلامي رسبوا في اختبار الالتزام بالمشروع الحضاري الذي اتفقوا عليه، بكل عناصره، ورسبوا في امتحان الديموقراطية، وهذه إحدى مكونات وأسس هذا المشروع.

وكان من نتيجة هذا الفشل أن الطرفين: القومي والإسلامي لم يحققا أي مكسب، وأن القوى المعادية استطاعت أن تجهض الربيع العربي، وبالتالي أن تزيد من هيمنتها على أوطاننا وشعوبنا ومقدراتنا، وأن تنظمها في مسار مناقض ومصادم لتوجهات الأمة، سواء كان هذا المسار امريكي إسرائيلي، أو فارسي روسي، وظهر لكل ذي بصر  أن الفاصل بين المسارين فاصل غير جدي، وكثير منه غير حقيقي.

3

ما العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة، لماذا فشل الجانبان في تحقيق أي هدف من أهداف التي اعتبراها موحدة بينهما، وأنها تمثل ساحة تلاق فعالة ومجدية بينهما؟

هذا هو السؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح الآن، وسيبقى مطروحا إلى أن تتم الإجابة عليه، المسألة هنا ليست في فشل ” القوميين”، وإنما في فشل طرفي معادلة النهوض: القوميين والإسلاميين، في التقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام، بل إنهما انتكسا انتكاسة مؤلمة، وارتدا إلى الخلف ارتدادا كارثيا.

ولا يستطيع فرد بعينه أن يقدم إجابة شافية، لهذا السؤال، ذلك أن الأمر يحتاج إلى بحث مكثف وشامل يتناول قضايا موضوعية متصلة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذه القوى، وأخرى ذاتية تتصل بتركيبة هذه القوى، وبتدخلات القوى الخارجية، وباختراقات ممكنة، كما تتصل بقصور في فهم وإدراك معنى اللقاء القومي الإسلامي.

وهنا أكتفي بتناول ما أعتقده مهما في جانب فهم وإدراك معنى اللقاء الإسلامي القومي.

في العام 1994 عقد في بيروت المؤتمر القومي الإسلامي الأول، والذي حضره عشرات من المفكرين والسياسيين والحزبيين الذين يمثلون قطاعا واسعا من الحركة القومية والإسلامية في الوطن العربي، وتولد هذا المنتدى عن جهود قادها المؤتمر القومي العربي على مدى سنوات.

وكان العام 1990 شهد انعقاد المؤتمر القومي العربي “الأول”، في تونس، والذي حضره أيضا عشرات من ممثلي التيار القومي من مفكرين وسياسيين وقادة أحزاب قومية. وجاء في بيانه الختامي:” يعمل أعضاء من أجل التوعية بأهداف المشروع الحضاري للتيارين القومي والاسمي، والتي أهمها: الوحدة، وتحرير فلسطين، وسيادة النظام الشوروي الديموقراطي، والحفاظ على حقوق الانسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستقلة، والابداع الحضاري”.

واستمر عقد هذين المؤتمرين بشكل دوري كل عامين إلا إذا حالت ظروف طارئة دون ذلك.

وجاءت هذه الحركة المبرمجة تطبيقا لمخرجات ندوة القومية العربية والإسلام، التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1980، وشارك في فيها ثلة من المفكرين من التيارين الذين لهم ثقلهم السياسي والفكري على حد سواء. ولندوة “الحوار القومي ـ الديني” التي عقدت في القاهرة 1989.

  وفي ابريل من العام 2001 عقد مركز دراسات الوحدة العربية ندوة في مدينة فاس المغربية تحت عنوان “نحو مشروع حضاري نهضوي عربي”، شارك فيها نحو مئة مفكر وباحث من التيارين.

وفي مارس من العام 2010 قدم مركز دراسات الوحدة العربية ” المشروع النهضوي العربي” وذكر أنه حصيلة عمل جماعي منظم أستمر من العام 1988 وشارك فيه قوميين، واسلاميين، ويساريين، وليبراليين.

مسيرة طويلة امتدت مع مقدماتها إلى ثلاثين عاما، انتهت بوضع المشروع المشار إليه، وكان التوقع أن يكون هذا المشروع حاكما وضابطا لأداء القوى السياسية القومية والإسلامية التي شاركت فيها، وانتجت عبرها هذا المشروع، لكن لم يأت الحصاد على النحو المرتجى، وكأن الغرس لم يكن من النوع والصنف نفسه، ومع أول اختبار ظهر أن كل ما تم تحقيقه عبر هذا المشوار الطويل لم يكن أكثر من “بيان مشترك” للقاء قومي إسلامي، لم يتولد عنه أي أثر حقيقي، أي برنامج عمل يرشد حركة هذه القوى ويضبط ايقاعها ويحقق التراكم المطلوب منها.

في اختبار “الربيع العربي” الذي دخلته هذه القوى في مصر وسوريا وليبيا واليمن وفي تونس ولاحقا السودان، لم يكن أحد وفيا لذلك المشروع وما طرح فيه من أسس للنهوض والبناء الحضاري.

السلطة أغرت الجميع، فرص الوصول إلى السلطة خرب ما بدا أنه لقاء بين القوميين والإسلاميين.

الصراع مع النظم القائمة أعاد كل مكون من مكونات هذه المسيرة إلى نقطة البدء، تم استدعاء القوى المعادية للنهوض العربي للمساعدة في التصدي لهذه النظم وفي التمكين من السلطة، ولم يظهر أي وفاء من هذه القوى لبعضها البعض، واستخرجت كل معارك الماضي لتبرير هذا السلوك.

أحلام الهيمنة داعبت مخيلات الجميع، وظهر أن الديموقراطية التي نادوا بها لم تكن سوى وسيلة للوصول إلى الحكم وللسيطرة، وليست أداة لإدارة المجتمع، وأنها طريقا للكسب وليست طريقة للعمل، وحينما بدا أن الديموقراطية  تعطي نتائج لا تتفق وهذا الطموح تم تجاوزها، ووضعت خلف الظهور.

لقد نسي الجميع أن في الديموقراطية أدوات ومسالك وآلية تصحح ما يمكن أن يظهر من نتائج سلبية في ممارسة العمل الديموقراطي، وأن التمسك بهذه الأدوات والمسالك وبتلك الآليات، خير وأجدى للجميع، وهذا التمسك نفسه هوعنوان الديموقراطية وهو أيضا الامتحان العملي للديموقراطيين.

بل إن مما يلفت الانتباه أن القوى السياسية الإسلامية لم تكن وفية لبعضها، وكذلك القوى القومية، لقد جاء التشرذم وافتقاد البوصلة طابعا عاما داخل هذه القوى وفيما بينها وبين القوى الأخرى. وكان هذا كارثيا على الحراك الثوري، على الربيع العربي في كل الأقاليم العربية.

ما أقوله وأشير إليه أمثلته كثيرة، في كل فقرة، وكل خلاصة، وفي كل عنوان أتيت عليه، وأنا هنا في غنى عن تسمية القوى والشخصيات والمواقع الدالة على الفشل، إذ ليس هنا مكان مثل هذا التحديد، لكن الحكم العام صحيح، ولو وجدت استثناءات عليه.

الآن نستعيد السؤال السابق، لماذا كان هذا الفشل؟

في إطار الحيز الذي أردت أن أطل منه فإن من الواضح أن الجميع يفتقد لفهم الديموقراطية ويفتقد القدرة على الالتزام بها، وأن الجميع يفتقد فهم ضرورات العمل الجماعي الجبهوي على المستويات التنظيمية والمجتمعية، ويفتقد فهم مستلزمات هذا العمل الجبهوي.

إن العروبة، والإسلام، لم يرتقيا في فكر وبرامج القوى العاملة تحت راياتهما إلى مستوى المظلة التي تظل الجميع، والتي في ظلها يمكن أن يجري الصراع والتنافس، لكن ليس عليها.

العروبة والإسلام هوية مجتمع وشعب وأمة، وليسا شعارات حزبية يتصارع الناس حولهما، العروبة والإسلام يجب أن يتجسدا في برامج كل الأحزاب والحركات والجماعات السياسية داخل الوطن، على أي شكل كان.

إن الخطيئة الكبرى التي وقع فيها العمل السياسي في بلادنا أن جعلت العروبة، والإسلام، جزءا من البرامج التي تتصارع عليها الأحزاب، فصار القومي مغاير للإسلامي، والإسلامي مغاير لليساري أو الليبرالي، وهذا في جوهرة يعني أننا جعلنا “هوية الأمة” معادلة في القيمة لبرامج العمل السياسية، ومشاريع العمل السياسي. وبالتالي فإن الصراع المتولد عنة برامج العمل المختلفة للأحزاب لم يقتصر على الاختلاف في هذه البرامج وإنما استطال ليطال هوية الأمة، فأصبحت الأحزاب الموصوفة بالقومية تبتعد عن “الإسلام”، وتلك الموصوفة بالإسلامية تتبرأ من الفكر القومية، ومن فكرة وحدة هذه الأمة، وصار اليساريون معنيون بالابتعاد عن جناحي الهوية الإسلام والعروبة… وهكذا، وقد زادت الصراعات بين هذه الأحزاب والقوى الاختلافَ والفرقةَ حول هوية الأمة.

فقط في مرحلة جمال عبد الناصر: “الفكر والتجربة“، كان الوئام حاضرا بين جناحي الهوية ” العروبة والإسلام” وكان الحضور متحققا بين هذين الجناحين في الفكر والحركة والتثقيف السياسي، وفي الفضاء الوطني والقومي، وكذلك في الفضاء الدولي، لذلك لم نكن نشعر بوجود صراع وتناقض في مكونات هوية الأمة، وهذا يفسر جانبا من جوانب الحضور الطاغي والمكثف لجمال عبد الناصر في وجدان الأمة وضميرها على مختلف المستويات، وفي مختلف الأقاليم.

ومما يدل على أن ذلك الإنجاز الذي تحقق بين القوى القومية والإسلامية، وأثمر بعد مسيرة عقود عن ذلك المشروع الحضاري، كان إنجازا غير راسخ وغير مستقر، أن أيا من الطرفين لم يجرؤ ـ مستندا على هذا الإنجاز ـ على نقد تجربته وفكره والإشارة إلى جوانب الخلل فيهما، ـ لا أقول هذا عن الأفراد، فمنهم من فعل ذلك، ولكن عن القوى السياسية ـ، وهذا سبب آخر لفشلهما معا في الالتزام بمقتضيات ما تم الاتفاق عليه، بالتأكيد لن يكون هناك تقدم حقيقي ما لم يكن هناك نقد حقيقي متبنى لما مضى من تجارب، وأفكار وتطلعات، ومفاهيم، وأحكام، ووقائع.

إن النقد في جوهره إعلان بالقدرة على التعلم، وعلى التجاوز، وعلى التقدم، بأكثر مما هو اعتراف بأخطاء، أو حتى تصحيحها. وإعادة بناء ” الكتلة التاريخية للأمة” استنادا إلى تعريف هويتها، أمر يذهب تأثره إلى عمق المجتمع وبالتالي إلى عمق العمل الحزبي، ويؤثر تأثيرا مباشرا على العضوية، والبرامج السياسية والثقافية، والتحالفات.

والنقد في جوهره أيضا إعلان عن توفر صفة “الديموقراطية” في الفكر وفي الممارسة، فبدون ممارسة النقد يصبح كل حديث عن الديموقراطية حديث نظري يسقط عند أول اختبار، وهذا ما حدث لدى جميع قوى العمل السياسي في أوطاننا، لذلك فالحديث عن علاقة الفكر القومي بالاستبداد حديث غير دقيق، والأصح منه الحديث عن علاقة الفكر السياسي العربي “القومي، والإسلامي، واليساري، والليبرالي” بالاستبداد. ويؤكد صحة هذا الاستنتاج أن المجتمعات العربية التي مارست الديموقراطية من خلال التعددية الحزبية، ونجحت في ذلك، مارستها تحت ظل نظم مستبدة، ملكية، أو طائفية، وكانت دائما محكومة بالأفق التي تسمح بها هذه الأنظمة، أي أن الاستبداد كان حاكما على ديموقراطية هذه التجارب وضابطا لها.

4

في عملية تحليل وفهم تطورات الوضع السياسي والاجتماعي عقب إجهاض الربيع العربي واختطافه استهل الكثيرون ـ ومعظمهم ممن ينتسب إلى التيارات السياسية الإسلامي ـ القول

** بأن القوميين وقفوا إلى جانب القوى التي أجهضت هذا الربيع، وأنهم باتوا يدعمون النظم الاستبدادية الفاسدة والمدمرة لشعوبها وأوطانها.

** واستسهلوا توجيه الإدانة ل”مؤسسة الجيش” باعتبارها الأداة التي اعتمدتها النظم القائمة في إجهاض الحراك الثوري الذي فجره الربيع العربي.

** وبتنا نشهد تدفق الكتابات والاستشهادات التي تعلي شأن ما كان قائما من نظم في أوطاننا قبل حركة النهوض القومي في النصف الثاني من القرن العشرين، وتقديمها كنماذج كفؤة ونقيضة للأنظمة التالية.

وهذا كله مؤشر على أن العقل السياسي السائد عقل متخلف لا يريد أن يرى الأمور على حقيقتها، وهو فيما يقوم به يريد أن يرسخ واقع تفتيت قوى الأمة وتناحرها، وتشويه مراحل نضالها، والمعارك التي خاضتها في تلك المراحل.

ووجود مثل هذا العقل يمثل عقبة حقيقية من العقبات التي تواجه نهوض الأمة، ووحدة قواها، وفرص استعادة لحمتها الوطنية والقومية.

فالنظم السابقة على مرحلة النهوض القومي المجهضة، كانت في عمومها نظم رديئة ومستبدة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وهي التي منعت من تطور أوضاع بلادها ديموقراطيا، وعملت على دفع الجيش واستدعته للتدخل في الحياة السياسية.

وافتراق القوميين في الموقف من نظم الاستبداد القائمة، لم يكن حالة مقتصرة على القوميين، إذ افترق الإسلاميون كذلك، واليساريون أيضا، ولنقل إن القوى السياسية على اختلاف تصنيفاتها افترقت في التعامل مع هذه النظم القائمة، وما قامت به حماس مؤخرا من تأكيد تحالفها مع المحور الإيراني السوري، مع نظام الأسد وحلفائه على حساب الدم الوطني في سوريا، مثال راهن على ذلك.

ولعل موقف القوات المسلحة التونسية من تطورات الوضع في هذا البلد يدحض تلك المقولة البغيضة التي روجت للقطيعة مع القوات المسلحة، واعتبارها سلاحا للقوى المضادة للحراك الشعبي.

كل ما سبق دليل على أن العمل السياسي والحزبي في بلداننا يعاني من أزمة عامة: أزمة فكر، وممارسة، وسلوك، وأن على من يريد أن يساهم في بناء مستقبل هذه الأوطان أن يعالج هذه الأزمة العامة التي تحيط بكل جوانب وقوى العمل السياسي في كل بلداننا العربية دونما استثناء.

5

أتمنى أن نخرج من تصنيفات حداثي وماضوي، في وصف الفكر القومي، وعموم الفكر السياسي في بلداننا، لأن مثل هذه التصنيفات تحتاج أولا إلى تحديد وإلى اتفاق على معناها ومدلولاتها.

هل التوكيد على هوية الأمة وعناصر هذه الهوية “العروبة، والإسلام، التفاعل التاريخي الحضاري” ينتمي إلى الماضوية أم إلى الحداثة، وهل الانسياق مع سياسات النظام الدولي في تعميم مفاهيم وأخلاق العولمة من الماضوية أم من الحداثة.

نحن القوميين ننظر الى مستقبل تحقق فيه أمتنا هويتها، في إطار سياسي وثقافي واجتماعي يتيح لها أعلى فاعلية ممكنة، ويمكنها من المشاركة بالفعل الإيجابي في مسيرة الحضارة الإنسانية.

إذا كان هناك بديلا عن هذا الطريق، عن هذا التفكير، عن هذه الرؤية فلنبسطه، ولنختبر حظوظه في الحياة. ولنختبر قدرته على بناء حياة فاعلة ومستقرة لنا.

قبل سبعين عاما بدأت عملية اختبار مباشرة ومثابرة للطريق القومي، وعبر ثمانية عشر عاما عشناها مع ثورة 23 يوليو وقيادة جمال عبد الناصر عرفنا تجليات مختلفة للرؤية القومية على مختلف الصعد: داخليا وقوميا ودوليا، اقتصاديا واجتماعيا وثقافية ودينية، وبعد أكثر من خمسين سنة على هجر هذا الطريق والسير في طريق نقيض نحن الآن في راهن وضعنا، لنقس هذا بذاك، ولنقرر أيهما كان الطريق الأسلم، والأجدى، والأكثر اختصارا، وتكلفة؟ أيهما مكننا من رؤية مستقبلنا دون قلق أو خوف أو ذل؟، أيهما كنا فيه نعيش حالة تقدم واستقلال ومساهمة في النظام الدولي العام؟

نحن القوميين لا نرى أمامنا وأمام امتنا طريقا غير هذا الطريق، نحسنه، ننقده، نقومه، نحصنه أكثر، لكن لا بديل عنه، وحين نشدد على هذا الموقف لا نفعل ذلك تمسكا بماض نعتز به، وإنما تطلعا لمستقبل نعمل من أجله، ونعتقد أنه لا سبيل آخر له، ولا طريق بديل عنه.

في ختام هذه الرؤية مهم أن نلاحظ هنا أننا لا نتحدث عن العرب، وعن العروبة كحالة عابرة، ووجود طارئ في هذه المنطقة، أو في هذا العالم.

العرب بهويتهم الحقيقة الأصيلة يحملون مسارا تاريخيا وحضاريا وروحيا وثقافيا، له حضور كثيف ومؤثر في مظاهر الحضارة الراهنة، وفي حياة كل شعوب العالم، وبحكم كل ذلك المسار يشدون إليهم بقوة أكثر من ربع سكان هذه الأرض، يمثل الإسلام هويتهم الحضارية والدينية، لذلك لن يكون هناك تقدم حقيقي وسلام حقيقي ونمو حقيقي، ونظام دولي حقيقي، إن لم تكن هذه الأمة جزء فاعل فيه، في تكوينه العلمي والتقني، وفي بنائه الأخلاقي والقيمي، وفي تشكيلاته السياسية والأمنية.

لحظة الضعف التي تعيشها، ومرحلة الهوان والتغول التي تغطي سحابتها نظمنا، ومنطقتنا، ليست حُكما ناجزا على دور ومكانة هذه الأمة، وإنما هي مرحلة، مجرد مرحلة، مهما بدت أمامنا أنها طاغية وكاسحة.

العروبة ليست خيارا، والالتزام القومي تجاه الأمة ليس خيارا، وطغيان قوى البغي راهنا لا يستطيع أن يغير حقائق التاريخ، والجغرافيا، والدين، والقيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى