مستقبل “قسد” بين الدمج والذوبان

مهند الكاطع

تشهد المحافظات الشرقية الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مرحلةً بالغة الحساسية من التحوّلات، مع اقتراب مسارات القوى الفاعلة من لحظة حاسمة في ما يتعلّق بمصير هذه القوات، التي تشكّل الذراع العسكرية الأكثر أهميةً لما تسمى “الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا”. ففي ظلّ انحسار الدعم الدولي المباشر، وتبدّل أولويات العواصم الفاعلة، وتزايد الديناميكية المحلّية والميدانية، تلوح عدة سيناريوهات في الأفق، قد تؤدّي إلى إعادة رسم خريطة القوى في الأرض في هذه المنطقة الحسّاسة من الجغرافيا السورية، قبل نهاية العام الحالي، أو مطلع عام 2026 على أبعد تقدير.
لم تكن “قسد”، منذ تأسيسها بدعم أميركي في خضمّ الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مجرّد قوة محلّية عسكرية، بل تأسّست اعتماداً على ما كان يعرف بـ”قوات حماية الشعب”، التابعة لحزب العمّال الكردستاني، التي ارتبط اسمها بانتهاكات وجرائم حرب بحسب تقارير منظمتَي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وبالتالي مثّلت “قسد”، أيديولوجياً وتنظيمياً، مشروعاً سياسياً محمولاً على تنظيرات حزب العمال الكردستاني، من دون أيّ علاقة له بالعنوان (سورية، ديمقراطية)، وبات هذا المشروع يتجه نحو الرهان على تبدّلات جيوسياسية تتيح له فرض نوع من الحكم الذاتي أو الفيدرالية في الشمال الشرقي من البلاد، وهو ما أُعلن منذ عام 2013 ثلاث مرّات على الأقلّ، في مناطق تُشكّل نحو ثلث البلاد السورية من الناحية الجغرافية، فضلاً عن أن العنصر الكردي في هذه المناطق أقليّة ديمغرافية تتركّز في النواحي الحدودية من محافظة الحسكة ومركز منطقة عين العرب. غير أن معادلة الدعم الغربي بدأت بالتآكل تدريجياً: الانسحاب الأميركي الجزئي، وتقليص التمويل، وغياب غطاء سياسي واضح للمشروع الكردي في سورية. في المقابل، نشهد عودةً تدريجيةً للدولة السورية إلى المشهد، ليس عسكرياً فقط، بل عبر آليات إدارية وسياسية، مستفيدةً من تحوّلات الرأي العام المحلّي في مناطق “قسد”، ومن حالة الإرباك السياسي التي تعيشها الأخيرة.

إذا فشلت محاولات الدمج، أو لجأت “قسد” إلى فرض أمر واقع، قد تبدأ الدولة السورية بتحرّك عسكري بدعم إقليمي غير مباشر

أخيراً، وعلى هامش قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ناقش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إمكانية دمج عناصر “قسد” في الجيش السوري ضمن تسوية تضمن تفكيك “التهديد الكردي” من وجهة النظر التركية، في مقابل تراجع أنقرة عن تدخّلات مباشرة في العمق السوري. هذه المبادرة طُرحتْ بعد إعلان تركيا سحب المستشارين الأتراك من المناطق الإدارية في ريف حلب الشمالي وتسليمها للإدارة السورية، وهي تعكس تبدّلاً في أولويات اللاعبين الإقليميين والدوليين، إذ لم تعد “قسد” شريكاً استراتيجياً، بل عبئاً مؤقتاً يحتاج إلى “تدوير” سياسي.
أفادت تقارير إعلامية عبرية بوجود قنوات اتصال مباشرة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، تتناول ملفّات تتجاوز الجنوب السوري إلى التفاهمات الإقليمية الأوسع. وكان الجانب السوري قد أشار إلى هذه الاتصالات بخلاف أنه أكّد أنها تجري من طريق وسطاء آخرين. ورغم حساسية هذا الملفّ، يشير مجرّد فتح باب الاتصال (ولو غير المُعلَن) إلى تحوّل استراتيجي يمكن أن يُثمر ترتيبات في مناطق الشمال الشرقي أيضاً، خصوصاً إذا ما قُدّمت ضمانات ضمنية لدمشق بشأن ملفّ “قسد” والحدود، وهي الناحية التي يبدو أن “قسد” تعلّق آمالاً عليها، تمثل نقطةً خلافيةً بين إسرائيل من جهة، ودمشق وتركيا من جهة أخرى، وإذا أردنا أن نكون دقيقين في الوصف، فليست “قسد” النقطة الخلافية، بل هي ورقة فقط، يُساوم عليها في نقاط خلافية أخرى، يبدو أنها تتجه نحو تفاهمات وطمأنات غير مُعلَنة، لكن المؤشّرات كثيرة على أنها باتجاه التهدئة، إن لم نقل الحلّ.
تعاني “قسد” من تراجع ملحوظ في التأييد الشعبي، بالرغم من أنها نجحت، بعد سقوط النظام السوري وتقدّم قوى الثورة، من حشد تأييد كردي يشمل حتى أولئك الذين كانوا على خلاف سياسي عميق مع “قسد”، نحو المجلس الوطني الكردي، فجاء ذلك من زاوية اللعب على المخاوف وتصوير الأمر قضية “وجود” للأكراد. كذلك أسهمت قيادة أربيل، عبر ضغوطها على المجلس الوطني الكردي، في الوصول إلى صيغة من توحيد الصف الكردي خلف “قسد”، لكن هذا التأييد بدأ يفقد بريقه مع تراجع الواقع الخدمي والإداري والمعيشي في المنطقة، مع الأخذ بالاعتبار كذلك البعد الديمغرافي المتمثّل بأغلبية عربية تتجاوز 90% في مناطق شرقي الفرات، ترفض إدارة “قسد”، ما خلا من بعض المستفيدين الذين تسوّقهم “قسد” جزءاً من صورة مؤيّدة لمشروعها، من دون أن تعكس الواقع. تكرّر عمليات الاعتقالات التعسفية، والاغتيالات، والتصعيد الأمني، والاحتقان المحلّي بسبب سياسات “قسد” وضعف الخدمات… كلّها مؤشّرات على هشاشة بنيتها السياسية، وتزايد قابلية انفجار شعبي ضدّها في المستقبل.

ستفقد “قسد” تدريجياً مشروعها السياسي لمحاولتها الاستقلال عن المركز مستغلةً تضارب المصالح الدولية في سورية

يتمثّل السيناريو الأول باندماج سياسي – عسكري لـ”قسد” في مؤسّسات الدولة السورية. ويتضمّن هذا السيناريو دمج “قسد” تدريجياً ضمن وحدات من الجيش السوري، أو قوات محلّية بإشراف الدولة، مقابل ضمانات بعدم الملاحقة، وعودة مؤسّسات الدولة إلى الرقة ودير الزور وجنوب الحسكة، ثمّ الحسكة والقامشلي. المحفزّات لذلك تشمل رغبةً أميركية في الخروج الآمن، وقبولاً تركياً بتفكيك التهديد، وضغط عربي وأوربي لإنهاء التعدد في السلطة داخل سورية. أمّا السيناريو الثاني، فيتمثّل بمواجهة عسكرية محدودة. إذا فشلت محاولات الدمج، أو لجأت قسد إلى فرض أمر واقع كما تفعل الآن، قد تبدأ الدولة السورية بتحرّك عسكري بدعم إقليمي غير مباشر. وقد تتركّز المواجهة حول الحقول النفطية ومناطق حضرية مثل الحسكة والقامشلي، مع دعم عشائري ومحلّي، وتنسيق مع التحالف الدولي وتركيا. يتمثّل السيناريو الثالث (وهو الأضعف) بتدويل الملفّ وتأجيل الحسم. يتطلّب هذا السيناريو توافقاً دولياً واسعاً وتدخلاً أممياً لفرض تسوية انتقالية في مناطق سيطرة “قسد”، وهو ما يبدو بعيد المنال حالياً، في ظلّ التقارب الأميركي السوري الخليجي.
هناك مؤشّرات على أن “قسد” ستفقد تدريجياً مشروعها السياسي، إدارةً حاولت الاستقلال عن المركز باستغلال تضارب المصالح الدولية في سورية، واللعب على المتناقضات، وربّما تندمج ضمن هيكل الدولة السورية في صيغة توافقية. الرفض الشعبي المتصاعد، والتحوّلات الإقليمية، وغياب الدعم الدولي الصريح، كلّها عوامل تقود إلى نهاية محتومة للمشروع القائم حالياً. السيناريو الأرجح هو الدمج، ولكن المواجهة المحدودة تبقى احتمالاً حقيقياً في حال فشل التفاهمات خلال الأشهر المقبلة.
ما بين سيناريو الدمج، أو المواجهة، أو التسوية الدولية، تبقى الحقيقة الراسخة أن مشروع “قسد” بصيغته الحالية يعيش أيامه الأخيرة. وفي مقابل ذلك، تستعيد الدولة السورية نفوذها تدريجياً، مدفوعةً بزخم إقليمي وشعبي ودولي لإنهاء ملفٍّ شائك طال أمده.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى