
عندما رفع أنبوباً زجاجياً صغيراً في مؤتمر صحافي قبيل اجتياحه الكويت في عام 1990 (رداً على اعتراض مواد قيل إنها تستخدم في التسليح الذري)، متبجّحاً بامتلاكه سلاح “الكيماوي المزدوج” وقدرته على إحراق نصف إسرائيل، كان الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين قد وضع نفسه ونظامه في المقصلة، فهو يعلم أن إسرائيل دمّرت مفاعله النووي التعليمي (أوزيراك) في عام 1981 عندما كانت علاقاته مع الغرب أفضل ما تكون، ولاحقت علماء العراق النوويين اغتيالاً في كل مكان. كانت كذلك وسيط بيع الأسلحة الأميركية لإيران الخميني في فضيحة إيران – كونترا الشهيرة عام 1985، لتمنعه من الانتصار، وذلك من دون أن يهدّدها، بل كان دبلوماسيوه في واشنطن في حالة غزل وهيام مع اللوبي الصهيوني.
الأمر نفسه حينما صرّح أمين عام حزب الله الراحل حسن نصر الله بأن لديه صواريخ تبلغ حيفا “وما بعد حيفا، وما بعد ما بعد حيفا”، وصلت الرسالة، واشتغل من وصلت إليهم بإعداد الرد، وتحيّن الفرص…. كذلك عندما دأبت قيادات الحرس الثوري على التبجح بقدرتهم على محو إسرائيل من الوجود، خصوصاً لو تجرّأت على مهاجمة إيران، فهذه الرسالة أيضاً وصلت. بل أصبح الإسرائيليون أكثر من يردّدها، ملوحين باستمرار بـ”خطر وجودي” من البعبع الإيراني. وأضيف إلى ذلك ترويج البعبع النووي الإيراني، وترداد أن إيران التي تهدد بمحو الكيان تعدّ لذلك سرّاً ببناء قدرات نووية لتدمير إسرائيل. وعليه يصبح التصدّي لهذا التهديد أمراً لا مفر منه.
الإشكالية الأكبر في هذه الادّعاءات وأمثالها عدم جدّية أصحابها، فمن ينوي التصدي لإسرائيل حرقاً أو تدميراً، أو قصفها إلى حيفا وما بعدها، لا يقضي الوقت في الخطابة في تجمّعات من الأنصار العزّل، أو يغزو جاره العربي، أو يتمتّع بشرب الشاي في مقاهي طهران. وبالطبع، لا يتبجح بالهيمنة على أربع عواصم عربية، ويدعم هذا الدكتاتور أو ذاك في ذبح الأبرياء من مواطني بلده وتشريدهم. والأهم من هذا أنه يعمل في صمت، كما فعلت باكستان عندما قرّرت بناء برنامجها النووي (خصوصاً بعد أن سبقت الهند في ذلك). عندها لم تتكشّف قدراتها في هذا المجال إلا بعد أن ضاهت الهند بتفجيراتٍ هزت العالم.
من ينوي التصدّي لإسرائيل حرقاً أو تدميراً، أو قصفها إلى حيفا وما بعدها، لا يقضي الوقت في الخطابة في تجمّعات من الأنصار العزّل
هناك أسئلة مهمّة دائماً تطرح نفسها: وماذا يحدُث بعد قصف حيفا وما بعد حيفا بصواريخ غالباً لا تصيب شيئاً أو أحداً؟ هل سيدخل الإسرائيليون إلى الملاجئ ويبقون هناك؟ وماذا يحدُث بعد إعلان الحرب على أميركا؟ وماذا يحدُث لو طوّرت إيران أو غيرها مقذوفاتٍ نووية، ولم يكن لديها الصواريخ المتطوّرة وأنظمة التوجيه الإلكترونية عالية الدقة لحمل هذه المقذوفات وتوجيهها؟
لستُ من أنصار نظرية المؤامرة، ولكن هناك بالقطع ما يدعو إلى التساؤل حول مغامرات العراق غير المفهومة وغير المبرّرة في هجومه على إيران ثم غزوه الكويت، وكلاهما دمّر فرص العراق في طفرة اقتصادية وصناعية كان مؤهّلاً لها. وليس الإشكال في التهوّر في هذه المغامرات فقط، ولكن في أن هناك من صفّق له وموّل وأيد، وزيّن له هذه الخطوات الانتحارية، ثم قال له عندما وقع في الفخ ما قال الشيطان للإنسان بعدما زيّن له الكفر: “إني بريء منك”. وهناك جانب آخر للمسألة، تمثل في عدم الجدّية في هذه المواقف من جهة، والاستخفاف بالعواقب من جهة أخرى. وأذكر أنني قلت لبعض الأصدقاء في أثناء أزمة غزو الكويت إن من يتابع الأخبار، يتخيّل أن صدام هو من يحاصر واشنطن بنصف مليون جندي، لما يسمعه من توسّلات الرئيس الأميركي للسلام، وإرسال مبعوثيه، وتوسيط الوسطاء لإنهاء المسألة سلمياً، في حين كان صدّام يتبجح بأنه سيلقن أميركا درساً لن تنساه.
ولم يكن هذا في الخطابات العلنية فقط، فعندما زار نائب الرئيس السوداني الأسبق، الزبير محمد صالح، بغداد في 11 يناير/ كانون الثاني 1991، أي قبل أربعة أيام من نهاية المهلة الممنوحة من بوش وحلفائه لصدّام للانسحاب الكويت، وصل برسالة مستعجلة من النظام السوداني ترجوه الانسحاب لتجنيب العراق وجيشها التدمير. قال اللواء الزبير لصدّام إن الجيش العراقي رصيد لكل العرب، وليس ملكاً لصدام ولا حتى للعراق حصراً. وعليه، إن عليه الانسحاب وعدم تعريض الجيش العراقي لكارثة قد لا يفيق منها. أكّد صدام لزائره بألا خوف على العراق ولا جيشه، بل هذه فرصة كان العراق ينتظرها عمراً لتلقين أميركا درساً يردعها عن أي تدخّل مستقبلي في شؤون العرب، وأن العراق أعدّ العدّة لهذه المنازلة، وسيرى العرب منه ما يحبّون. … وكانت كل تصرّفات الرئيس العراقي تشير إلى أنه لم يتوقّع الحرب، ولم يكن يرغب فيها. وإلا لما انتظر حتى أنزلت أميركا أكثر من نصف مليون جندي في مواجهته، وجهّزت أحدث أسراب المقاتلات والقاذفات، ومعها أكثر الأساطيل فتكاً أمام باب داره. وقد كان بإمكانه لو أراد الحرب أن يبدأ بقصف طليعة القوات التي نزلت الجزيرة العربية، والاستيلاء على المطارات والموانئ في المنطقة. وأنه لم يفعل كان هذا دليلاً على وهم بأن الحرب لن تقع.
بينما كانت إيران تقصف حيفا ويافا، لم تكن تستطيع الدفاع عن أي منزل في طهران
بالنسبة لإيران وقبلها حزب الله، التهديدات المستمرّة ضد إسرائيل مع عدم المبادرة بضربة استباقية كما فعلت إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967، تشير إلى مزيج من التهوّر غير المتبصّر من جهة، ومن الاستخفاف وعدم الجدّية من جهة أخرى (وبالمناسبة، كان حكّام مصر وقتها يعيشون وهماً مأساوياً، كما روى قائد قوات الأمم المتحدة للسلام الذي زارهم لمناقشة معالجة الأزمة، فدعاه داعيهم إلى الغداء في تل أبيب نهاية الأسبوع!).
وفي الحالتين، ومعهما حركة حماس، كان التفكير المقلوب يقوم على تطوير أسلحة هجومية بدون أي اهتمام بالدفاع عن الحوزة. بذلت “حماس” مثلاً كل جهودها في تطوير صواريخ تقصف “ما بعد حيفا”، وبأضرار محدودة جداً. ولكنها لم تفكر في ما تفعل لو أن الأهداف المقصودة جاءتها إلى باب الدار. وعليه، كان من المدهش أن الحركة كانت، حتى بعد دخول القوات الإسرائيلية غزّة، لا تزال تقصف حيفا وصحراء النقب، من دون أن تكون لها صواريخ قصيرة المدى تردع الدبابات في الداخل. والشيء نفسه عن حزب الله. ولم يختلف الأمر في إيران، حيث كانت دفاعاتها ضد الهجمة الإسرائيلية معدومة. بينما كانت تقصف حيفا ويافا، ولا تستطيع الدفاع عن أي منزل في طهران. بل لا تستطيع حماية كبار قادتها العسكريين وعلمائها النوويين (فشل استخباراتي مريع، ودليل على أن الجمهورية الإسلامية، مثل حزب الله، كانت مخترقة من القمّة).
الدرس من كل هذه المآسي بسيط وواضح. الأولوية في أي مواجهة عسكرية دفاعية، فلا بد من تحصين بيتك أولاً. وأولى أدوات التحصين سياسية – دبلوماسية: توحيد البيت الداخلي من جهة، وتعميق التفاهمات الدبلوماسية وتوسيعها من جهة أخرى. بعد ذلك يأتي الاقتصاد، وهو جدار حماية مهم، ويرتبط بالسياسة والدبلوماسية. وأخيراً، أدوات الدفاع الداخلي وتقنياته، بما فيها تأمين البلاد من الاختراق الاستخباراتي وأيضاً، في هذه الأيام، الاختراق السيبراني، ثم التأمين الفعال ضد اختراقات الطيران والمسيرات وغيرها.
صحيح أن كلاً من إيران وحزب الله وحماس كسب شعبياً ودبلوماسياً وإعلامياً ودولياً منذ أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، ولكن التيار الجارف من الرأي العام الذي وقف ضد الانتهاكات الإسرائيلية (في غزّة خصوصاً) لم يكن داعماً لحركة حماس، بل للشعب الفلسطيني، ويمكن أن يقال إنه جاء بالرغم من “حماس”، وليس بسببها. وهي عزلت نفسها إلى حد كبير فلسطينياً وعربياً منذ “انقلابها” في يونيو/ حزيران 2007، وانفرادها بحكم غزّة، وسط عزلة خانقة مفروضة من إسرائيل، وتحت مظلة “أوسلو”، مع اعتماد متزايد على إيران. وحزب الله أيضاً عزل نفسه بداية من “انقلاب” أيار/ مايو (2008)، الذي فرض فيه إرادته بالسلاح ضد شركائه في لبنان، واستمرّ في ذلك عبر فرض رؤساء موالين له، وزاد بتدخّله الدموي لصالح النظام السوري منذ صيف 2012، ما أفقده الكثير من شعبيّته عربياً.
الأولوية في أي مواجهة عسكرية دفاعية، فلا بد من تحصين بيتك أولاً، وأولى أدوات التحصين سياسية – دبلوماسية
كان تدخّل حزب الله في سورية مدعوماً من إيران، التي غزت سورية بعديدٍ من المليشيات المتطرّفة، وطفقت تتبجّح، من ذلك الحين، بهيمنتها على أكثر العالم العربي من دون اكتراث لردة الفعل. ولكن الملفت أن أياً من العواصم الأربع أعلاه لم تهب للدفاع عنها. ولا زلنا نذكر أننا كنّا كمن يتحدّث، في لقاءاتنا الكثيرة مع “الدبلوماسيين” الإيرانيين ومناصريهم العرب، إلى جدار أصم، يطلق أصوات الزهو وخطل التبريرات من مكبّر صوتٍ مثبتٍ، فيه، ولكنه لا يسمع ولا يريد أن يسمع.
نكرّر: الدرس أن الجدران الصمّاء لا تقاتل ولا تكسب أصدقاء، وأن الجبن وانتظار الضربة الأولى لا يكسب حرباً، وأن الصواريخ الهجومية التي تنطلق من بلدٍ أعزل لا تغني كثيراً، وأن الجهة التي تختار الصمم، وتفتقد وسائل الحماية، من الأفضل لها أن تتصنّع البكم، ولا تكثر من إطلاق التهديدات الرعناء.
أكرّر أيضاً ما قلتُ من قبل، خصوصاً في حقّ كثيرين من إخوتنا من مسلمي الغرب الذين يفتعلون مشكلة غير مبرّرة، ويصنعون أبطالاً من كل شخص لا يستحقّ الذكر أصلاً: هاكم مني فتوى ضد الغباء، فإنه مهلكةٌ في الدنيا والآخرة، فقد جاء في صحيح التنزيل حول من أهلكوا أنفسهم: “وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير”.
المصدر: العربي الجديد
من قراءة الحرب الإسرائيلية الإيرانية نستخلص نقاط أهمها بأن الأولوية في أي مواجهة عسكرية تحصين بيتك وأولى أدوات التحصين سياسية – دبلوماسية، أثبتت بأن الطرفين كانا ضمن وهم القوة، أجواء الكيان الصهيوني اخترقتها صواريخ إيران وعاش شعبها 12 يوم بالملاجئ الى جانب إستباح الطيران الصهيوني الأجواء الإيرانية وإصطاد القادة والعلماء و….
من قراءة الحرب الإSرائيلية الإيرانية نستخلص نقاط أهمها بأن الأولوية في أي مواجهة عسكرية تحصين بيتك وأولى أدوات التحصين سياسية – دبلوماسية، أثبتت بأن الطرفين كانا ضمن وهم القوة، أجواء الكيان الصhيوني اخترقتها صواريخ إيران وعاش شعبها 12 يوم بالملاجئ الى جانب إستباح الطيران الصhيوني الأجواء الإيرانية وإصطاد القادة والعلماء و….