حاول الانسان منذ بداية وعيه أن يترك بصمة لمن سيخلفه وقد ظهر ذلك أول ما ظهر في رسومات الكهوف حيث أدت هذه الرسومات الى نقل معارفه الى من سيأتي بعده اكثر من محاولة ترك بصمة او تسلية آنية، وقد تطورت الرسومات عبر آلاف السنين لتصل الى مستوى اخر كالرسومات الهيروغليفية. ومما يذكر ان الفرعون الذي عرضت عليه تلك الفكرة اعترض بحجة انها تؤدي الى خمول العقل نتيجة عدم استخدام الذاكرة لكن الراهب الذي استنبط تلك الطريقة قال انه يمكن استخدام العقل في قضايا اخرى ثم ليقدم قدموس الى العالم الحروف الابجدية الوسيلة الثورية في حفظ المعارف ونقلها، وبعدها اسهم الشرق الاقصى بتقديم وسيلة ثورية اخرى وهي الورق وهو الوسيط الذي استخدم مع الحرف في تخليد معارف الانسان وبعد ذلك بمئات السنين اهتدى غوتنبرغ الى طريقة ثورية جديدة لنسخ المعارف وهي الطباعة بأحرف منفصلة كقوالب وهي تطوير لطريقة قديمة هي التوقيع بالخاتم وهو ما اهل العالم للحصول على مئات والاف النسخ من كتاب يحوي معارف ما ويساهم في نشرها بين بني البشر وبكلفة زهيدة.
ثم اتى القرن العشرين حاملا معه الكثير من التطور والاختراعات التي ساهمت في نقل المعارف، منها آلات الطباعة السريعة ومحطات الاذاعة والتلفزة التي ساهمت بنشر كل من الاخبار والمعارف والعلم بكلفة زهيدة ومجانية كما في الاذاعة والتلفزيون. لقد كان كل ما ذكر مسبقا عبارة عن وسائل كان لها تاثيرها في التغيير المجتمعي وقد وعى الساسة تاثير هذه الوسائلل في التغيير المجتمعي عند ظهور الاذاعة والتلفزيون مما جعل مجال الاعلام عامة وسطا لحرب بين القوى والدول والشركات وهو ما جعل القوى الساعية الى او القابضة على السلطة ان تحاول خلق فضاء اعلامي خادم لها ومسيطرا عليه داعيا لها ولافكارها وكانت القوى القابضة والساعية الى القبض على السلطة هي الموجه الاساسي للاعلام اي ان الاعلام بقي موجها ومسيطرا عليه من قبل السلطات بغض النظر عن النظام سواء كان فرديا ام ليبراليا.
وفي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين كان هناك ظهور لتقنيات جديدة كانت خلاقة كما كانت هدامة ايضا بمعنى انها اوجدت قطاعات جديدة وعلى وشك القضاء على قطاعات اخرى وهي الانترنت فقد ساهمت هذه التقنية بالقضاء على ما يعرف بالبريد التقليدي تقريبا كما انها تكاد تقضي على مكاتب السفر ومتاجر اشرطة الفيديو والموسيقى حتى انها قضت تقريبا على التصوير الفوتوغرافي التقليدي وكادت ان تقضي على سوق الكتاب التقليدي. وبالمقابل فقد خلقت نماذج جديدة من الاسواق التجارية مثل امازون وعلي بابا كما ظهرت ايضا برمجيات ومواقع موصولة على الشبكة تعمل دون تدخل بشري, وقد زاد عدد الاجهزة الموصولة على الشبكة عن عدد سكان الارض لكن ما يميز هذه الشبكة عدة قضايا اهمها انها كانت بمثابة موقع للمعرفة العالمية فيكفي البحث في هذه الشبكة عن كلمة ما ليقوم محرك البحث المستخدم باظهارعدة مئات المليارات مما كتب عنها اي اننا نصل هنا الى معظم ما كتبه كتاب ومفكري العالم عن موضوع تلك الكلمة وهذا ما جعلها تستحق وبجدارة تسمية العقل العالمي فقد نمت هذه المعلومات داخل الشبكة على مدى سنوات معدودة فكان تزويد هذه الشبكة بالمعلومات يتم وبشكل عفوي وعلى مدى العقود الثلاثة التي طرحت فيها الشبكة على مستوى الاستخدام العالمي. ان هذا الكم الهائل من المعلومات الموجود في هذه الشبكة يفوق وبعشرات المرات حاليا ما هو موجود في بطون الكتب وللمرة الثانية نقول ان هذه الشبكة هي العقل العالمي حتما اي ان عوامل التغيير المجتمعي قد اضيف لها عامل جديد فبإمكان اي شخص الوصول الى معظم ما كتبه العالم عن مرض ما ويمكن ببساطة الوصول الى اخر نتائج الابحاث عن القطب الجنوبي ويمكن حجز رحلة كاملة ذهابا وايابا مع اقامة ضمن الفنادق وجولات سياحية كما يمكن ايضا الحصول على مئات التصاميم الاولية للقنبلة النووية وفي كثير من الاحيان دون مقابل. لكن ما يهم ايضا انه اصبح بالامكان الوصول الى ما حظرته سلطات الاستبداد في بلد ما من كتب وصحف وافكار ومقالات كما اصبح بامكان اي ناشط سياسي التعبير عن رايه وبهامش اقل من الخوف ويكاد يكون معدوما باستخدام ما يعرف بالملقم الوكيل (بروكسي) وقد كان لذلك تاثيرا كبيرا في حركات سياسية اجتاحت الشوارع في بدايات هذا القرن فقد كانت وسائل التواصل على شبكة الانترنت خير قناة تواصل بين الناشطين من ثورة الزعفران في ميانمار 2006 الى الثورة الخضراء في ايران عام 2007 احتجاجا على تزوير انتخابات الرئاسة مرورا بثورات الربيع العربي وحركة احتلوا وول ستريت والقمصان الصفراء وقد اختلفت اساليب تصدي السلطات لهذه الحركات ففي ميانمار حظرت السلطة الانترنت وفي ايران كانت السلطة اكثر سيطرة على هذه الوسائل اضافة الى العنف المفرط في عمليات القمع اما في ثورات الربيع العربي فقد افلح البعض وفشل البعض وتم الالتفاف على البعض الاخر وهذا ما استدعى ان نبحث عن تاثيرات هذه الشبكة واسباب نجاحها في مواقع وفشلها في مواقع اخرى.
كانت وسائل التواصل قديما وحتى ظهور الكتابة هي وسائل تواصل شفوية ولكن خلال الالاف البسيطة من عمر الانسان تطورت هذه الوسائل لنصل الى وسائل التواصل الالكترونية الحديثة وذلك بظهور الانترنت. فقد ظهرت وسائل مثل السكايب الى الفيسبوك والواتس والانستغرام والتويتر بالاضافة الى الكثير من وسائل الاتصال الصوتي مما جعل امكانية الاتصال بمجموعة كبيرة من الناشطين مجرد عملية بسيطة لاتتعدى امرا بسيطا كما كان لهذه الوسائل الاثر في عقد المداولات والنقاشات التي تتعدى الدردشة والنشاط التجاري الى حلقات النقاش السياسي والاجتماعي وكان لظهور الهواتف النقالة القابلة للوصل على العقل العالمي اكبر الاثر في عمليات التغيير المجتمعي فقريبا يتوقع ان تصل اعداد الهواتف الذكية الى ما يزيد عن اعداد البشر وهذا يستدعي ايضا تطويرا لاساليب العمل السياسي بغية ايصال الفكرة الى اكبر عدد من الناس وهذا ميدان جديد ايضا للصراع بين القوى الديمقراطية وقوى الاستبداد.
ان الثورة التي احدثها ظهور الانترنت يفوق ما احدثته ثورة الطباعة فكما قامت ثورة الطباعة بتحرير الافكار ونقلها بين الناس دون او باقل مايمكن من الرقابة كانت الانترنت تساهم بنقل هذه الأفكار برقابة تكاد تكون معدومة لان انتشارها على المستوى العام جعل امكانية الرقابة تكاد تكون معدومة بالاضافة الى ظهور تقنيات تدعم خصوصية الاتصالات عبر الانترنت وهو ما مكن المثقفين في الشتات من التواصل مع حركات الاصلاح في بلدانهم الاصلية.
ان تخفيض كلفة الحواسب المحمولة والهواتف الذكية والحواسب اللوحية سيكون له بالغ الاثر في الافلات من رقابة النظم الاستبدادية واستخدام هذه الوسائل بفاعلية من قبل القوى الديمقراطية هو التحدي الكبير الذي يواجه الديموقراطية في عصرنا الحالي القرن الواحد والعشرين.
ما يمكن قوله حول ثورات الانترنت ان هذه الثورات في الكثير من البلدان فشلت في توطيد انتصارها وهيمنت على الثورة قوى دينية تقوم على مبادئ تختلف عن المبادئ التي قامت عليها الثورة. ان الوعد بالاصلاح الذي تثيره الانترنت لا يزال يلهم دعاة الحرية باعادة احياء الديموقراطية في الوطن العربي ففي بعض الدول الاوروبية يتم اعتماد التصويت عبر الانترنت كما ان النقاشات حول قضايا اجتماعية على شبكة الانترنت اصبحت مؤشرا مهما لبيان اتجاه الراي العام ففي بعض البلاد اي مقترح يحصل على موافقة عشرة الاف شخص على شبكة الانترنت تتم احالته الى المجلس التشريعي لدراسته. رغم الامال المعقودة على شبكة الانترنت في انجاز الاصلاح الديموقراطي الموعود فانها تواجه منافسا شديدا وهو الاعلام المرئي فلا زال المواطن يمضي امام التلفزيون والفضائيات اكثر ما يمضي على الانترنت كما ان الفضائيات استطاعت التاثير جيدا في تشكل الوعي السياسي على الرغم من الدور الموظف للإعلام ففي بداية القرن استطاعت محطة الجزيرة مثلا استقطاب عددا كبيرا من المشاهدين ليس على مستوى الوطن العربي بل على المستوى العالمي نظرا لمظهرها شبه المستقل مما ادى الى ظهور اكثر من 700 محطة تلفزيونية فضائية عربية في بداية القرن. فعلى الرغم من محاولات الترويج للنظم من خلال المحطات التي وظفت لخدمة مخططات انظمة الاستبداد الا ان هذه المحطة طرحت ما يسمى بالراي والراي الاخر اي انها استطاعت اثارة النقاش السياسي في اوساط المجتمع رغم تجاوزها للكثير مما اعتبر حينها من المحرمات.
ان هذا ايضا يضيف الى العقل العالمي واسطة تغيير جديدة ايضا وهي الاعلام الفضائي ومع الاسف ان هذا الاعلام يبقى مسيطرا عليه من قبل قوى ذات مصالح وليس لها اي حماس باتجاه اي فكر ديموقراطي مما يجعل منها في معظم الاحيان عقبة امام القوى الساعية الى الديموقراطية فهي اما مدعومة من قوى سلطة الاستبداد واما مدعومة من قوى تحاول توظيف السياسة بما يناسب مصالحها. لذا حازت الجزيرة على شعبية بين العوام لمظهرها شبه المستقل.
ان الوصول الى ساحات الاعلام الفضائي بالنسبة للقوى السياسية الداعية الى الديموقراطية هي عملية مكلفة، وهي ما تدفع بالمحطات الى استجداء الاثرياء لتغطية النفقات الاعلامية مما جعل الاعلام سلعة تباع وتشرى والبرامج السياسية يتم تمويلها من قبل قوى استبدادية اوقوى اقتصادية لا يهمها سوى الربح وامام هذه المعضلة فما على القوى الداعية الى الديموقراطية سوى تعميق تواجدها على شبكة الانترنت حيث يجب ان تتحول الشبكة الى الاطار الاعلامي المهيمن على الساحة الاعلامية فهذه الشبكة تستطيع ان تحوي النص والتقرير والمقال والصورة والشريط المرئي كما يمكن من خلالها التفاعل مع المصدر او المستخدم كما يمكن من خلالها ضمان السرية والخصوصية من قبل المستخدم باتباعه لوصايا بسيطة.
إن إهمال القوى السياسية الداعية الى الديموقراطية لهذا العقل العالمي سوف يؤدي بالقوى السياسية ان تجد نفسها خارج التاثير في الساحة، وبالتالي يؤدي الى اضمحلالها وانقراضها وهذا جرس إنذار لما يمكن ان يشكل كارثة للمستقبل.
437 6 دقائق