
لا نعلم كيف قضى العميد المتقاعد الأشهر الأخيرة بعدما انقلب عالمه كلياً إثر سقوط نظام الأسد، قبل أن يتوفى صباح يوم الجمعة الفائت في منزله الفاره بضاحية يعفور الغنية الشهيرة قرب دمشق، لكن الأكيد أن يد المحاسبة لم تطله على أفعال ارتكبها قبل قرابة النصف قرن، وبعد أن شارف على نحو التسعين من العمر.
ولد علي بن حسن المدني لعائلة متوسطة من مدينة حماة قيل إن أصلها من المدينة المنورة ولذلك أخذت كنيتها، وفي نشأته الباكرة تأثّر، مع عدد من إخوته، بالأفكار الاشتراكية للزعيم الكاريزمي أكرم الحوراني الذي كان يشجع الشبان من أنصاره على الانتساب إلى الكلية الحربية بهدف الإمساك بالسلطة عبر الجيش، مما أضاف ثقلاً عسكرياً لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تشكل من اتحاد “حزب البعث” و”الحزب العربي الاشتراكي”، الحوراني.
أمضى علي المدني أكثر خدمته العسكرية ضابطاً في فرع الشرطة العسكرية الذي كان ذراعاً ضاربة أساسية في الانقلابات المتتالية، وحتى حين وصل “أبو تميم” إلى رئاسته أسهم بفعالية في انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في تشرين الثاني 1970، الذي عرف باسم “الحركة التصحيحية”.
أخرجه “الأسد” بعدها من الخدمة العسكرية ونقله إلى وزارة الخارجية، عملاً بعرف سياسي قديم يقضي بنفي رفاق السلاح بشكل مهذّب عبر تعيينهم سفراء..
وفي السنوات اللاحقة ظل قريباً من حافظ الأسد بفعل دالّته تلك، وبسبب مسؤولية الشرطة العسكرية، في تلك الأيام، عن حراسة رئيس البلاد.
في صيف العام 1976 تولى المدني أهم مناصبه، مديراً للمخابرات العامة (أمن الدولة)، خلفاً لعدنان دباغ، لكنّه لم يستمر فيه لأكثر من سنة ونصف، فقد أخرجه “الأسد” بعدها من الخدمة العسكرية ونقله إلى وزارة الخارجية، عملاً بعرف سياسي قديم يقضي بنفي رفاق السلاح بشكل مهذّب عبر تعيينهم سفراء.
وفي تفسير ذلك يقول شهود من الجهاز إنه انشغل عن أعباء الإدارة بالراح والليالي الملاح، أمّا مصطفى طلاس فكتب أن قائد القوى الجوية ناجي جميل، في أثناء نسج خيوط محاولته الانقلابية على “الأسد”، جنّد المدني بحكم قرابة تجمع زوجتيهما.
في الخارجية، وتحديداً في السفارة السورية بالعاصمة اليونانية أثينا، حيث عُيّن، صار المدني تاجر شنطة مهربات عبر الحقيبة الديبلوماسية الشهيرة، قبل أن يصبح هذا تقليداً مألوفاً لدى السفراء والقناصل بعد تفشي الفساد في الوزارة التي تقاعد منها علي المدني ثرياً، مورثاً مهنة السفير لابنه تميم الذي تنقل بين دول عدة كان آخرها الكويت.
حموياً، وفي الأوساط الإسلامية، يعدّ علي نموذجاً عن الخائن، تورد كتابات تنظيم “الطليعة المقاتلة…”، أنّ “الأسد” كلّفه بمحاولة إقناع مؤسسها مروان حديد بالتخلّي عن دعوته الجهادية، بحكم انتمائهما إلى المدينة نفسها، فما كان من الشيخ إلا أن أسمع الضابط السجّان كلاماً مهيناً لأنه السنّي الذي رضي بدور “عبد النصيريين”.
لكن ذلك لم يغيّر، بالطبع، في منهج حياة علي المدني، ولا في السيرة العسكرية لشقيقيه؛ عادل الذي كان عضو في محكمة أمن الدولة العليا التي حكمت بالإعدام على 18 من معتقلي الإخوان المسلمين، عام 1979، ورياض الذي تقاعد برتبة لواء.
من المعروف أن أكثرية من السوريين ترى أن عهد “الأسدين” اتسم بحالة من التمييز لصالح الطائفة التي ينتسبان إليها، في حين يذهب مثقفون، وعلويون، إلى أنه اعتمد رجالاً نافذين من مختلف الطوائف اجتمعوا على الولاء للدكتاتور ونهب البلاد، فلا دين لهم إلا “الأسد” ولا طائفة إلا الفساد..
أكثر من غيره صار علي المدني جزءاً من تاريخ قديم، لكنّ وفاته فرصة مناسبة لمناقشة مسألة شديدة الراهنية هي “الحكم العلوي”، فمن المعروف أن أكثرية من السوريين ترى أن عهد “الأسدين” اتسم بحالة من التمييز لصالح الطائفة التي ينتسبان إليها، في حين يذهب مثقفون، وعلويون، إلى أنه اعتمد رجالاً نافذين من مختلف الطوائف اجتمعوا على الولاء للدكتاتور ونهب البلاد، فلا دين لهم إلا “الأسد” ولا طائفة إلا الفساد، ولأصحاب وجهة النظر هذه يأتي مثال علي المدني وإخوته، وسواهم من حمويين وحلبيين ودماشقة، دليلاً مثالياً على ما ذهبوا إليه من عدم طائفية الحكم.
والحال أن هذا الرأي ينتمي إلى ما قبل العصر الحديث، أو إلى أجزاء عالقة فيه من الماضي السحيق كصراع الهوتو والتوتسي في الحرب الأهلية الرواندية، إذ يتطلب، لاتهام أي حكم بالتمييز الأهلي، أن يحصر كل الوظائف المرموقة والمتوسطة بأبناء شيخ القبيلة وأولاد إخوته وعمومته، وهذا تمييز بدائي صرف أو قريب منه، لا يستطيع فعله حافظ الأسد حتى لو أراد، لأنّه وصل إلى الحكم على أكتاف حزب سياسي حديث، قومي و”تقدمي” وعلماني متعدد الطوائف، مستولياً على جهاز دولة تعمل بالمعايير المعاصرة، وتعتمد على المسابقات الحكومية والاشتراطات الورقية الموثقة لبناء كادرها الذي كان قيد التشكل، منذ ما قبل الاستقلال، على مواطنة متساوية.
ولم يكن في وسع “الأسد” الإطاحة بذلك كلّه ظاهرياً وإن جوّفه ونخره عملياً لكن بوسائل مناسبة شكلياً على الأقل، كما أن حكم سوريا، في الثلث الأخير من القرن العشرين، لم يكن ممكناً من دون توازنات جمعية للطوائف والقوميات والمحافظات والعشائر، وإلا أصبح تعسفاً عارياً لن يكتب له الاستمرار بسبب ما سيقوم ضده من حركات تمرد الجماعات المهمشة.
وكان حافظ الأسد يعرف ذلك، كما عرفه كل المشاركين في حكمه أو المراقبين له، إذ كان من المألوف أن يقال إن تعيين هذا الضابط الكبير أو ذاك الوزير جاء لإرضاء تمثيل طائفته أو منطقته في السلطة.
معيار التمييز الأهلي سهل، وهو استيلاء جماعة على المناصب المفصلية في الدولة وتعيين الآخرين في وظائف غير فاعلة أو مفرغة من مضمونها، ولا يطعن في ذلك وجود استثناءات قليلة من بعض الأفراد الذين ساعدوا الدكتاتور على الوصول إلى الحكم أو الاستمرار فيه وأثبتوا أن دورانهم في فلكه مضمون، فحازوا على رضا المنعم الشخصي وبسط عليهم رعايته.
المصدر: تلفزيون سوريا