لا توجد ممارسة ديمقراطية مطلقة، كما لاتتوفر عملية سياسية ديمقراطية بلا شوائب، إنها المسألة النسبية بامتياز، حيث لا إطلاق في شيء، بل هناك تساوقًا ما، ضمن كل التجارب، سواء كانت نحو الديمقراطية، أو باتجاه العسف والقمع وإلغاء السياسة، وإنهاء إمكانية التعبير الشعبي عن الذات، مع خدمة الناس وإعادة إنتاج مايعبر عنهم.
ويبدو أننا اليوم وفي سياق متابعة ماجرى ويجري في الواقع التركي، من فعل سياسي يُمارس الديمقراطية، عبر عمليتين متتابعتين، أنتجت برلمانًا تركيًا يعبر عن المجتمع التركي المختلف أيديولوجيًا، وأيضًا ضمن أتون التوجه الجدي المتصارع لإقامة انتخابات تنتج رئاسة تركية تكون الأقرب إلى كينونة المجتمع التركي وماهيته، الذي ما انفك يغلي ويفور منذ زمن ليس بالقصير، في محاولة منه لإعادة إنتاج حياة ديمقراطية أكثر واقعية، وتعبر عن أهداف وطموحات الشارع التركي، الذي يريد لتركيا أن تحجز لها المكان المرتجى في مصاف الدول الناهضة، والتي تريد أن تناطح وتواكب الكبار، وتفعل موضوعيًا في الإقليم وبين الدول الكبرى، لتكون قد أمسكت بالدور المراد شعبيًا وعقلانيًا.
لقد شهد الواقع التركي كما شهد الشعب السوري الذي يعيش في تركيا، بعد عملية التهجير القسري التي قام بها نظام الفجور السوري ضد شعبه نحو تركيا، وإلى كل دول العالم، شهد ممارسة ديمقراطية حقة، وسياقات ملموسة في إعادة صياغة الأنموذج المميز الذي يشهد له الصديق والعدو، وضمن محددات ديمقراطية طالما حلم بها الشعب السوري، الذي انطلقت ثورته أواسط آذار/ مارس 2011 من أجل الحرية والكرامة والديمقراطيىة، التي افتقدها منذ أن خطف الوطن السوري ذلك الطاغية حافظ الأسد، ومن بعده ابنه الوريث/ غير الشرعي. كانت عيون السوريين ترقب العملية الديمقراطية التركية بحسرة وألم، ولسان حالهم يقول: متى سيتمكن الشعب السوري من أن يمارس الفعل الديمقراطي الحق، كما يمارسه اليوم الأتراك الذين عرفوا كيف ينتجون ديمقراطية صحيحة وسليمة، متجاوزين بذلك كل الدعايات العنصرية التي تدعوا الى طرد اللاجئين، ومعبرين عن خلافاتهم بشكل ديمقراطي وواع، لينتج صندوق الانتخابات أغلبية معقولة لتحالف الجمهور، وكذلك لتتم إعادة انتخابات الرئاسة في جولة ثانية، فقط لأنها لم تصل إلى ماينوف عن الخمسين بقليل، وهي مسألة تدعوا لإدراك مدى الاشتغال الجدي على أن تكون ديمقراطية بلا أي ضغوط، أو أي عمليات تزوير، كما تفعل عادة نظم القمع اللاديمقراطي، أمثال آل الأسد الذين كانوا بانتخباتهم الصورية، يتجاوزون عتبة التسعين بالمئة دائمًا، ضمن لعبة انتخابية ليس لها علاقة بالديمقراطية من قريب أو من بعيد.
ويُعتقد أن الشعب التركي الذي وصل إلى هذا المبتغى الحقيقي في الممارسة الديمقراطية، كان قد عانى كثيرًا من الانقلابات العسكرية المقيتة، التي خطفت الديمقراطية كثيرًا، لكن إصرار الأتراك على الوصول بتركيا إلى مصاف الدول الديمقراطية بعيدًا عن الانقلابات، هو الذي حقق هذا الواقع الجديد الذي يمارسه الأتراك عبر الصندوق الانتخابي، ومن ثم فإن التجارب الديمقراطية الصعبة لابد من أن يسبقها الكثير من سنوات القحط الديمقراطي، ولكن الوعي الشعبي ووعي النخب، وإصرار الأحزاب في معظهما على الديمقراطية، هو الذي أنتج وينتج الديمقراطية والفعل الديمقراطي، وهذا يعني بالضرورة أن إصرار الشعب السوري رغم كل عمليات التطبيع مع الأسد/ الدكتاتور، ووعي السوريين بثورة الحرية والكرامة لابد من أن يتنج يومًا ما تجربة ديمقراطية سورية تماهي في واقعيتها التجربة التركية، من منطلق أن السوريين مابرحوا منذ عشرات السنين يناضلون من أجل وجود مؤسسات ديمقراطية وودستور ديمقراطي، ومن أجل كنس كل المستبدين والعودة إلى الجماهير وصناديق الاقتراع دون هيمنة من أحد، وليس ذلك مستحيلًا فيما لو هُيئت الظروف وكان هناك المزيد من الإصرار والوعي.
يترقب الأتراك نتائج الديمقراطية في الغد 28 أيار/ مايو في جولة الإعادة الرئاسية الثانية، وكل الأمل أن تنتج واقعًا ديمقراطيًا واضح المعالم، ويتساوق مع رؤية الشعب التركي، لتستمر تركيا في أن يكون لها الدور الأكبر المنوط بها إسلاميًا وإقليميًا، ولعل البوادر والتوقعات تشير إلى ذلك، كما يرقب الشعب السوري نتائج هذه الجولة، لتكتمل المسألة، وتنتج جولة الغد واقعًا في تركيا يركل جانبًا كل العنصريات، التي مورست في السابق من قبل بعض المتشددين الشوفينيين بحق السوريين والتي مابرحت موجودة في حملاتهم الانتخابية.