أيُّ مستقبلٍ يريده السوريون؟    

د. طلال المصطفى

بعد بضعة أشهر من تحرير سوريا من النظام الأسدي، يقف السوريون على أنقاض حربٍ دامت أكثر من عقد، ليسألوا أنفسهم: أيّ مستقبلٍ يريدون؟ ليست الإجابة سهلة، لأنّ الخراب كبير، والخيبة أعمق من كل الكلام، لكن ثمّة ما هو واضح من كل التوصيفات والتحليلات: السوريون يريدون أن يعيشوا بكرامة.

لأوّل مرة منذ عقود، يُتاح للسوريين أن يتخيّلوا شكل دولتهم الجديدة بعد سقوط نظام الاستبداد الأسدي، لا بوصفهم ضحايا فقط، بل فاعلين في التخطيط لملامح سوريا الجديدة، والأصوات التي ترتفع في شوارع المدن والبلدات، في البيوت وأماكن العمل، وفي الأحاديث العابرة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، تشير إلى تطلعات واضحة، لا تقبل التأجيل ولا الالتفاف عليها.

التغيير يبدأ من الاقتصاد المعيشي

في بلدٍ كان دخله الوطني متنوعاً يوماً ما، تحوّل الاقتصاد السوري في مرحلة الحرب الأسدية على الشعب السوري إلى جثة هامدة، انهارت الليرة السورية، وانهارت معها القدرة الشرائية، واختفى الأمن الغذائي، وتلاشت الطبقة الوسطى، وبات الفقر المطلق مقيماً في معظم البيوت السورية، حتى صارت لقمة العيش هدفاً يومياً يتفوّق على كل الأهداف الأخرى.

المواطن السوري اليوم لا يريد معجزات اقتصادية من الحكومة الجديدة، ولا يطالب إلا بما هو بديهي في دول أخرى: وظيفة محترمة، دخل يكفي حاجاته، كهرباء مستقرة، سكن آمن، وأسعار معقولة، بل إنّ حلمه لا يتجاوز إصلاح البنية التحتية، ومحاربة الاحتكار، ووقف الفساد والإتاوات، وضمان ألّا يشاركه مسؤول فاسد في مشروعه الاقتصادي الصغير أو الكبير.

لقد سئم السوريون خطابات “التنمية المستدامة” و”الاعتماد على الذات” في الحقبة الأسدية في الوقت الذي  لا يجدون الخبز، وتعبوا من الحديث عن “الاقتصاد المقاوم” وهم لا يملكون ثمن علاج و دواء أو مواصلات، لهذا، فإنّ أي تغيير حقيقي في سوريا الجديدة يجب أن يبدأ من الاقتصاد المعيشي، من ضمان أبسط مقوّمات الحياة، ومن وضع حدّ لهذا الانهيار المعيشي المهين لكرامة السوريين.

التعليم والمستقبل

بعيداً عن الشعارات، يعرف السوريون أن التعليم هو مستقبل سوريا، ليس فقط لأنّه ينقذ الأجيال القادمة من الفقر، بل لأنه الطريق الوحيد لإعادة بناء وطنٍ مدمّر، لهذا، يطالبون بمنظومة تعليمية جديدة تعيد الاعتبار للمعلم، وترفع رواتبه، وتطوّر مناهجه، وتدمج في مناهجها القيم الأخلاقية والتفكير العلمي النقدي.

لقد تحوّل التعليم الحكومي إلى ملاذٍ اضطراري لا يُعوَّل عليه، وتحوّل التعليم الجيد إلى سلعة باهظة في مدارس ومعاهد خاصة لا ترحم، ومئات الآلاف من الطلاب تسرّبوا من المدارس بسبب الفقر والنزوح والعمل القسري، وهنا تكمن الكارثة: جيلٌ كامل مهدّد بالضياع.

استعادة مكانة التعليم تبدأ من الاهتمام بالمعلم، ومعالجة نقص الكوادر، وترميم المدارس، وإعادة الأطفال إلى مقاعدهم، كما تتطلّب ثورةً حقيقية في المناهج التعليمية، لتخريج طلابٍ مستعدّين لبناء سورية الجديدة، لا مجرد حافظين ومرددين لمعلومات جافة من الكتب المدرسية التقليدية.

العلاج الصحي حقٌّ للمواطن

من المفارقات القاسية أن يُهزَم السوري أمام المرض فقط لأنه لا يملك ثمن العلاج والدواء، فقد تحوّل الطب إلى امتيازٍ للأثرياء فقط، وهاجر آلاف الأطباء من سوريا، وأصبح الدواء إما مفقوداً أو باهظ الثمن، وصارت المستشفيات الخاصة ملاذًا للأغنياء من دون غيرهم.

المواطن السوري لا يريد طبابة مجانية بالمعنى المثالي، بل يريد خدمةً طبية محترمة، ودواءً متوفّراً، وطبيباً لا يطلب عمولة، ومشفى لا يُذِلّ فيه الفقير، يريد تأميناً صحياً شاملاً، وتشجيعاً للكوادر الطبية على البقاء، بل وعودة المهجّرين منهم من أوروبا وتركيا، وقوانين تمنع احتكار الدواء وتدعم الصناعات الدوائية المحلية.

الأرياف السورية كانت الأكثر تضرراً في هذا القطاع، ففي حين تتوافر بعض الخدمات في المدن، يغيب الطبيب والمركز الصحي عن القرى، ويتحوّل المرض إلى كارثة تتطلب التوسّل وبيع الممتلكات، هل هناك ما هو أكثر إهانة من أن يصبح العلاج  وتأمين الدواء رفاهية؟

العدالة الاجتماعية شرطٌ للعيش الآمن

في عمق وجدان السوريين، ما تزال صورة الظلم في الحقبة الأسدية محفورة: ابن المسؤول يتجاوز القانون، القاضي المرتشي، المعتقل بلا سبب، التمييز الطائفي والمناطقي، المرأة المُهمّشة، الطفل المُستغَل، الشاب الممنوع من الحلم.

الآن، طموح السوريين أن تُبنى دولة المواطنة، لا دولة الامتيازات، دولة العدالة الاجتماعية التي ليست ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً للعيش الآمن، السوريون يتطلعون إلى إنتاج دستورٍ يساوي بين جميع السوريين، وقضاءٍ مستقل وقوانين تُطبَّق لا توضع في أدراج المكاتب، وأمنٍ لا يُستخدم سلاحاً سياسياً.

إنّ المجتمع السوري، الذي حُكم بالخوف لعقود، لا يطالب اليوم إلّا بحرية وديمقراطية مسؤولة، وتكافؤ فرص، وحياةٍ من دون إذلال، المواطن السوري يريد أن يُعامَل بوصفه إنساناً مسؤولاً ومستقلاً لا تابعاً، ويريد أن ينجح ويعمل بكفاءته، لا بانتمائه السياسي أو الطائفي أو الجغرافي، ويريد أن يعرف أنّ حقّه سيُردّ له من قبل قضاءٍ مستقل إذا ظُلم.

المرأة السورية.. الدور الفاعل

في خلفية هذا المشهد من تحرير سوريا، ترتفع أصوات النساء السوريات أكثر من أي وقتٍ مضى، فقد تحمّلن عبءَ الحرب والنزوح والفقر وحتى الاعتقال، وعُدن من الخطوط الخلفية في حقبة الأسد إلى واجهة الحياة اليوم، ومن الطبيعي أن تكون تطلعاتهن أعلى، لأنهنّ دفعن الثمن الأغلى.

تريد المرأة السورية قانوناً منصفاً، ودوراً فاعلاً في بناء سوريا على الأصعدة كلها، ومكاناً في مواقع القرار على المستويات جميعها، ورعايةً حقيقية لضحايا الحرب، لا يمكن الحديث عن عدالةٍ في سورية من دون مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة، ولا عن نهضة من دون فاعلية نصف المجتمع.

الأمل بخطوات ثابتة

ربما يعتقد بعضهم أن السوريين يحلمون بأكثر مما يسمح به الواقع الحالي في سوريا، لكن الحقيقة أن تطلعاتهم اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى، لم يطلبوا حرق المراحل والوصول إلى سوريا المستقبل خلال أشهرٍ قليلة، بل خطوات ثابتة على طريقٍ طويل.

إنهم يعرفون أن الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري صعب، وأن الفساد لن يزول بين يومٍ وليلة، لكنهم أيضاً يعرفون أن الشعارات والخطابات الفارغة لم تعد تُقنع أحداً من السوريين.

الرسالة التي يريد السوريون إيصالها للحكومة الجديدة، وبكل وضوح، هي أن المرحلة القادمة يجب أن تكون لهم، لا عليهم، دولة تُدار من أجلهم، لا على حسابهم، وإذا ما أُعطوا الفرصة، فلن يبنوا فقط بيوتهم المهدّمة، بل وطنهم السوري أيضاً.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى