مرت الكثير من المجتمعات بما مرت به سورية، لاسيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكنها استطاعت فيما بعد أن تخرج من تلك الفترة السوداء في تاريخها عبر فتح صفحة جديدة قائمة على الحقيقة والمحاسبة والعدالة ومن ثم المصالحة، أو ما يطلق عليه “العدالة الانتقالية”، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن. إذ أن تطبيق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت بارتكاب الانتهاكات، يعطي إحساساً بالأمان للضحايا ويوجه تحذيراً لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكات في المستقبل. كما أنه يعطي قدراً من الإنصاف لمعاناة الضحايا، ويساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية أو القصاص.
صحيحٌ أن مفهوم العدالة الانتقالية حديث، ويلزمه حدّ ما من الوعي والاهتمام، ويُعدّ من شواغل النخب المجتمعية في المجالات التي لها علاقة به، لكنّ مفهوم العدل والعدالة بشكلهما الأولي من القيم التي تتباهى المجتمعات بها، وهذا مطلب على الصعيدين، الشخصي والعام. وإن كان مفهوم “العدالة الانتقالية” من المفاهيم القانونية الحديثة، حيث يُرجعُ جذورَه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وقد تعزز ذلك المفهوم بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال المحاكمات العسكرية الدولية، إلا أن الثورة الشبابية في نهاية الستينيات ساهمت في تطوير دور المجتمع المدني، كما ساهم في انتقال دول عدّة في جنوب أوروبا، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية، وكان الانتقال السياسي في أوروبا الشرقية، حلقة إضافية في هذا المضمار، وقد اتبّعت هذه الدول مسارات مختلفة من العدالة الانتقالية، تتناسب وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولتلبية احتياجات المرحلة الجديدة، كان لا بدّ من تطوير آليات العدالة الانتقالية، فكانت عمليات المكاشفة وفتح أرشيف المؤسسات الأمنية وإنشاء لجان الحقيقة والمصالحة الوطنية.
إنّ مسار العدالة الانتقاليّة مسارٌ طويلٌ ومعقّدٌ، فلا يمكن أن تكون محاكمة المجرمين بديلاً عن التعويض وإعادة الاعتبار للضحايا، ولا بديلاً عن إعادة هيكلة القوانين بما يضمن عدم تكرار ارتكاب مثل هذه الجرائم مرّة أخرى. لكنّ الأكيد أنّه لا يمكن الحديث عن عدالة انتقاليّة قبل محاسبة المجرمين ومعاقبتهم. فلا يمكن اعتبار التعويض وتخليد الذكرى والحؤول دون تكرار هذه الحوادث فحسب، شكلاً من أشكال العدالة الانتقاليّة إذا كان المجرمون أنفسهم ما يزالون أحراراً ويمكن أن يكونوا جزءاً من المستقبل. فذلك أشبه بمَن يُبقي الجمر تحت الرماد أو بمَن يزرع ألغاماً ستنفجر في المستقبل وستكون معها الكلفة أكبر بكثير. مع العلم بأن تقديم التعويضات يعتبر اعترافاً بالذنب وإقراراً بالمسؤولية من الجهة الرسمية التي شغل المتهمون فيها المناصب الرسمية والسلطة التي بمقتضاها دفعوا المرؤوسين إلى إطاعتهم وتنفيذ تلك الأعمال الوحشية، ويأتي قبولها كخطوة من الضحايا في اتجاه الاستعداد للمصالحة.
لا شكّ في أنّ العدالة الانتقالية ضرورية ولازمة لسورية الجديدة، فلا يمكن تصوّر معالجة الانتهاكات الهائلة لحقوق السوريين، التي وقعت على مدار أكثر من خمسين عاماً من سيطرة الاستبداد والدكتاتورية والتسلط. فهذا الأمر لم يقتصر على قضايا القتل والاعتقال والاختفاء القسري والتعذيب، بما يُضاف إليها خلال العقد الأخير جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتهجير قسري وتغيير ديموغرافي، فلا يمكننا تصوّر سورية الجديدة بدون إصلاح مؤسساتها، فلا يمكن التعايش مع جيش كانت عقيدته وممارساته خلال سنوات الثورة قائمةً على القتل والتدمير والنهب كما لا يمكننا قبول وجود الأجهزة الأمنية الخارجة عن سيادة القانون، لذلك فإن العدالة الانتقالية في سورية أكثر من واجبة. فالعدالة الانتقالية لا تنظر إلى الماضي إلا بعيون المستقبل، فاستقرار المجتمعات وتوجهها نحو التنمية لا يتمّ إلا بمواجهة الأخطاء من أجل تجاوزها، لا بتأجيلها أو السكوت عنها. فغاية العدالة الانتقالية النهائية الوصول إلى مجتمع المواطنة المتصالح مع نفسه، من خلال تطوير العلاقات المجتمعية على أسس جديدة، غير تلك التي سببت الشروخ المجتمعية وأدّت لارتكاب الانتهاكات.
إنّ طبيعة وحجم الانتهاكات الكبيرة والهائلة في مجتمع ما، والتي يُفترض بالعدالة الانتقالية معالجته، يَخرُجُ عن قدرة تحمّل الأجهزة القضائية، لذلك يفترض اجتراح أساليبَ وأشكالاً جديدة من التعامل مع الانتهاكات، وإنّ كانت سورية الجديدة بحاجة إلى آلية خاصة بها للعدالة الانتقالية، حيث أن حجم الانتهاكات من جهة، وحجم التحديات من جهة ثانية، يجعل من الواجب تصميم برامج متنوعة بآليات متعددة وأدوات مختلفة للوصول إلى النتائج المرجوة. فلا يمكننا الاكتفاء في سورية الجديدة بالآليات القضائية فقط، بل نحتاج إلى محاكمات وطنية، بمساعدة ومعونة دولية، فلا يمكننا تحمّل تكاليف تمويل المحاكم الدولية من جهة، كما ليس لدينا ترف الوقت ولا طول الصبر لهذا النوع من المحاكمات من جهة ثانية. وسيكون من الواجب على هيئات المجتمع المدني المشاركة الفاعلة في هذا الجهد، من خلال التنفيذ، والمتابعة، والرقابة، والتوجيه، والنقد، والمكاشفة، بدءاً من تشكيل هيئة لدراسة وفحص أرشيف أجهزة المخابرات السورية منذ نشأتها. والتي يجب أن يكون من مهامها فتح الملفات لتعريف السوريين بحجم القمع الممارس ضدهم، وتبيان الآليات والمناهج التي استخدمتها هذه الأجهزة لتكريس الاستبداد، بهدف محاربة أي توجه لإعادة إحيائها أو السماح بممارستها مجددًا.
أخيرًا، لا بدّ من وضع نهج خاص بالمصارحة العلنية، يستتبعه إفساح المجال للضحايا بكل حرية للحديث عن معاناتهم، ثم فسح المجال أمام كل من ارتكب تجاوزاً أو انتهاكاً بحق غيره، ليعبّر عن ندمه وليقدّم اعتذاره العلني. ويجب أن تقترن المصالحات بالتعويض عن الأضرار، ويجب أن يتحمل الأفراد نتائج أخطائهم، كما يجب أن تتحمل الدولة السورية المسؤولية عن تجاوزات أجهزتها ومؤسساتها. وقد يكون من الصعوبة بمكان تحديد أولويات العدالة الانتقالية في سورية، لكن بما أنّ المعتقلين والمختفين قسرياً أكثر من عانوا وأهلهم في سورية، فإنّ فتح ملفهم للإفراج عنهم وبيان مصير المختفي والمفقود منهم، وتعويضهم هو الأولى، يلي ذلك موضوع محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، من جميع الأطراف، وخاصّة مرتكبي جرائم قصف المدن بالطيران والكيمياوي والأسلحة المحرمة، ومرتكبي جرائم التعذيب والاغتصاب.
المصدر: اشراق