كورونا في حلب

مصطفى أبو شمس

تبدع صفحات «حلبية» عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة الأخبار المتعلقة بفيروس كورونا المستجد، ,تعتمد في معظمها على «القص واللصق» دون التحقق. وبعد رصد منشورات الأسابيع القليلة الماضية في ست صفحات، هي الأكثر متابعة من قبل سكّان المدينة اليوم، لم نجد أخباراً مختلفة أو متنوعة، بلّ صبّت جميعها في نقل أنباء متعلقة بالفيروس والمرض، وبالترويج لبعض المنتجات أو الأقوال التي تفتقد للدلائل العلمية والطبية، لتحمل تعليقات المتابعين انتقادات لاذعة لهذه المعلومات، وسخرية من القائمين عليها. لكننا لم نجد أي خبر يدل على التذكير بأساليب الوقاية، أو ما تقدمه مديرية الصحة من خدمات، باستثناء أسماء المشافي العامة والخاصة وبعض الممرضين الملتزمين ضمن جمعيات للمساعدة، وأرقام هواتفهم التي لا يرد عليها أحد في الغالب، بحسب التعليقات، بالإضافة إلى أماكن بيع أسطوانات الأكسجين والأدوية المفقودة.

كورونا ينتشر في حلب

سنخفي أسماء من تحدثنا معهم لأسباب تتعلق بسلامتهم، وسنعتمد في هذا التقرير على تحليل الصفحات الإخبارية على وسائل التواصل الاجتماعي، وشهادة أحد المصابين بكورونا، وحديث مع أطباء ومِخبري، إضافة إلى رأي بعض السكّان.

ينتشر في مدينة حلب اليوم قول بأن السكّان فيها ثلاثة أنواع: مصاب بكورونا وشفي منها، مصاب حالياً، وفي طريقة للإصابة الحتمية. وإن كانت هذه المقولة تعميماً غير مثبت بأرقام، إلا أن تداولها الواسع يشير إلى الانتشار الكبير للمرض، الذي بدأ الحديث عنه، بعد فترة من العناد في إخفاء الإصابات، على لسان صحفيين وإعلاميين وأطباء ومواقع تواصل اجتماعي تغصّ بالأخبار المتعلقة بالوباء، بما فيها تزايد أخبار الوفيات التي يعتقد أنها نجمت عن كورونا.

تلك الأخبار، إضافة إلى هشاشة الواقع الصحي، وغياب القدرة على تحقيق الحجر والتباعد الاجتماعي في مدينة يعمل معظم سكانها في ورش صغيرة وظروف اقتصادية سيئة، مع الاستهتار بالأساليب الوقائية اللازمة بما فيها ارتداء الكمامات، كلّها ظروفٌ تزيد من الخطر القادم، الذي يقدره أحد الأطباء بإمكانية تضاعف أعداد المصابين لعشرات الآلاف خلال الأشهر القادمة، والوفيات إلى الآلاف، إذا ما قارنا عدد سكان المدينة الذي يزيد عن ثلاثة ملايين بحالات دول انتشر فيها المرض وتمتلك قطاعاً صحياً أفضل بكثير من المتوافر في حلب.

تخبرنا وزارة الصحة في حكومة النظام أن عدد العدد الإجمالي للمصابين بكورونا حتى يوم أمس الثلاثاء 1844 حالة منها 246 في حلب. وقد توفي من إجمالي المصابين في البلد بحسب الوزارة 73 شخصاً، فيما كانت صفحات قد تداولت وفاة واحد وستين من الكوادر الطبية (طبيب -صيدلي)، يضاف إليهم الإعلان عن وفاة طبيبين وصيدلي خلال اليومين الماضيين، وهو ما يعني وفاة عشرة أشخاص فقط من خارج القطاع الصحي إذا قارنا ذلك مع الأرقام المعلنة.

ليست الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة مخالفة للحقيقة، فهي فعلياً توثق عدد الحالات المصابة التي تم إجراء المسحة الطبية لأصحابها، في ظل غياب المخابر التي يمكن من خلالها طمأنة المرضى واكتشاف إصابتهم من عدمها.

في حلب لا توجد مخابر لإجراء المسحات سوي مخبر وحيد في مشفى زاهي أزرق في منطقة بستان الباشا، وهو مخصص للسوريين الراغبين بالسفر، والذين يتوجب عليهم دفع مئة دولار لإجراء التحليل والحصول على الوثيقة، تدفع في أحد فروع المصرف التجاري السوري بعد مراجعة مديرية الصحة.

ويقول من تحدثنا معهم إنه لا وسيلة سوى الاستدلال بالأعراض لمعرفة إن كان الشخص مصاباً أم لا، ويتساءلون عن سبب غياب وجود المسحات الطبية سوى للمسافرين، وبقدرة يومية تصل إلى تسعين مسحة، في حين يترك الآلاف من أبناء المدينة لقدرهم. أما في المخابر الخاصة، فتبلغ قيمة التحليل نحو مئة وخمسين ألف ليرة. ويعتقد بعض من تحدثنا إليهم أنه لا يوجد أي اختبار حقيقي للمسحات في هذه المخابر الخاصة، وإنما هي وسيلة استغلال جديدة. يتساءلون أيضاً عن وسائل الاختبار التي تم تزويد الحكومة بها من قبل منظمة الصحة العالمية مجاناً، وعن الجهات التي تذهب إليها المبالغ التي يدفعها الناس. في هذه الظروف، تختلط الإشاعات والأخبار غير الموثوقة بالحقائق، التي لا يمكن تمييزها في ظلّ الغياب الكامل للشفافية والثقة.

الأخبار الكاذبة وسيلة دعائية

«فيتامين C، الزنك، فيتامينD، أزيترومايسين، نوع من أنواع البخاخات مجهول الاسم، لقاح سويسري، حبة البركة، الشاي الأخضر، الثوم والبصل، الكثير من الأدعية»؛ يكفي أن تكتب أحد هذه المفردات وتضيف إليها كلمة حلب، حتى تطالعك عشرات الصفحات التي تتحدث عن فعاليتها في علاج الفيروس، مُذيلة ذلك بتجارب وكلام منسوب لأحد الأطباء.

وعند سؤالنا لأحد أطباء الصدرية، قال إن هذه الأدوية والمستحضرات والأعشاب جميعها لا تنفع في علاج الفايروس، وإن الترويج لها يدخل في باب الدعاية التي وصفها بـ «السيئة»، باستثناء فيتامينD الذي يلعب دوراً في عمل النظام المناعي، ومضاد الالتهاب أزيترومايسين الذي يوصف في بعض الحالات وباستشارة طبية، نظراً لما يحمله من آثار جانبية قد تسيء إلى صحة المريض إن لم يكن بحاجته، وكذلك دوائي «تام فلو» و«ديكساميتازون»، إلا أن الأخير ينفع في حال نقص الأكسجة وتطبيق الأكسجين للمريض.

يقول الطبيب إن هذه الشائعات تأتي من مصدرين، الأول طبي وذلك لعجز الأطباء عن إيجاد دواء مناسب ما يجعلهم يسعون للتجريب، وهو ما يراه خاطئاً إذا لم يستند إلى الدراسات العلمية التي تنتشر في كل يوم عن مراكز وصفها بـ «المحترمة»، وثانيها من قبل بعض التجار والصيدليات لترويج أصناف معينة، وغالباً ما يقع الطبيب العاجز فريسة طمأنة المريض، فيضطر لكتابة بعض الفيتامينات للتخفيف من توتره ودرجة الخوف لديه.

وكانت أسعار هذه الأدوية قد تضاعفت إلى عشرة أضعاف خلال الفترة الماضية، ولجأ المواطنون لتخزينها في منازلهم، وشهدت الصيدليات ازدحاماً كبيراً وفقداناً لبعضها، إذ وصل سعر علبة الفيتامين C إلى تسعة آلاف ليرة، وفي أفضل الأحوال أربعة آلاف ليرة، علماً أن سعرها الحقيقي لا يزيد عن ستمائة ليرة سورية، وكذلك بالنسبة لباقي الأدوية ومواد العطارة.

يقول من تحدثنا معهم إنهم غير مقتنعين بجدوى هذه الأدوية، لكن الترويج لها يدفع كثيرين لشرائها رغم ظروفهم المالية السيئة. ويُحمّل الطبيب مسؤولية ذلك لمديرية الصحة التي غاب عن برامجها التوعوية توضيح هذه الأخبار الكاذبة، وملاحقة مروجيها، وسؤال الأطباء والصيادلة عن مصدر معلوماتهم ومعاقبتهم على ذلك، لأن ذلك يدخل في باب «الغش» ومخالفة أخلاقيات المهنة.

وسائل التواصل تبث الذعر وتؤثر على العلاج

يُجمِعُ من تحدثنا معهم على أن التخفيف من القلق والتوتر ضروري خلال انتشار الأوبئة، إذ تزيد الأخبار من «الهوس المرضي» لديّ كثير من السكان وتدفعهم لمحاكاة الأعراض، وإثارة الفوضى والازدحام حتى في غياب الأعراض. كذلك نشر التعليقات الكاذبة، وهو ما يؤثر على الكوادر الطبية، التي تعاني في الأصل من الخوف من العدوى. ويقولون أيضاً إن تحذيرات كثيرة وصلت إلى مسامعهم عن ضرورة تجنب الذهاب إلى المشافي كونها مليئة بالفيروس، وإن غير المصابين سيصابون في حال ذهابهم بالعدوى. كذلك أغلق كثير من الأطباء عياداتهم، ويرفض قسم كبير منهم استقبال المرضى الذين يُشَكّ بإصابتهم.

يتحدث الحلبيون في التعليقات عن أرقام كبيرة تطلب من المرضى للحصول على سرير في أحد المشافي الخاصة، بعد امتلاء المشافي العامة بالمرضى، تصل إلى ثلاثمائة ألف ليرة سورية لليلة الواحدة.

قطاع صحي هشّ

خُصِّصَت ثلاث مشافٍ عامة في حلب لاستقبال مرضى كورونا، وهي الرازي وزاهي أزرق والباسل، إضافة إلى مركزين للحجر الصحي في مشفيي الرازي وابن خلدون، وثمانية عشر مشفىً خاصاً، فيما تنتشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي أرقامٌ لأطباء وممرضين خاصين أو ضمن «فريق عليك العافية»، وأرقام بائعي أسطوانات أكسجين وصيدليات تتوفر فيها الأدوية، وبعض الأماكن التي تعير الأسطوانات.

يقول الطبيب إن عدد أجهزة التنفس الاصطناعي «المنفسة» في المشافي الخاصة يبلغ واحداً وأربعين جهازاً، وفي المشافي العامة يزيد العدد عن ذلك، معظمها في حالة غير سليمة. كذلك تتوفر «منافس» من صناعة محلية باسم «أمل»، والتي لم تعتمدها وزارة الصحة، وتباع بنحو خمسمائة دولار، وأثار عدم اعتمادها حنقاً على الحكومة من قبل الأهالي، الذين رأوا أنها يمكن أن تكون حلاً بعد الترويج لمواصفاتها الجيدة.

يخبرنا الطبيب إن الأصل في القصة ليس وجود المنافس، بل وجود مختصين قادرين على الإشراف عليها. والمنفسة هي غير جهاز الأكسجين الذي يُستخدم لمساعدة المرضى الذين انخفضت أكسجتهم؛ المنفسة جهاز لتوفير تهوية ميكانيكية عندما يعجز المريض عن الشهيق والزفير، ويتم استخدامها في الحالات الحرجة بشدة، وليس في حالة نقص الأكسجة. يؤكد الطبيب أن ما تقوم المشافي بفعله حالياً ضمن هذه المنافس فقط هو تزويد المريض الذي تتراجع أكسجته بشدة بالأكسجين بضغط شديد، وهو ما يمكن فعله في المنزل من خلال ماسك جيد وجرة أكسجين، دون تلك الكلفة العالية والذعر الذي يسببه الحديث عن كارثة عدم توافر المنافس.

يرى الطبيب أن المشافي لا تفعل أكثر من ذلك، فلماذا يتقاضون هذه المبالغ الكبيرة؟ ويوهمون المريض بأشياء غير موجودة في الأصل.

ووصل سعر جرة الأكسجين لنحو أربعمائة ألف ليرة، إلا أن حملات تطوعية وبعض الجمعيات والمشافي توفرها مجاناً لمن يحتاجها في بعض الأحيان، ويقوم بعض الممرضين المتطوعين بزيارة المرضى الذين يعانون من أعراض المرض في منازلهم ومساعدتهم.

عند مرورك بجانب مؤسسة استهلاكية أو فرن خبز، أو مساء على المحلق (الصنم)، تجد آلاف الحلبيين قد تجمعوا حول بعضهم دون مراعاة أي قاعدة للتباعد الاجتماعي ودون كمامات أيضاً، وهو ما سيؤدي إلى زيادة المرض لا محالة. يقول من تحدثنا معهم، إن قلة قليلة من السكان يلتزمون ببعض القواعد، خاصة وأن ثمن الكمامة يزيد عن ثلاثمائة ليرة سورية، ويخبرنا الطبيب إن اتباع الأساليب الوقائية قد لا يجدي، ولكنه على الأقل يخفف من تعرض الأشخاص لكمية أكبر من الفيروس، وهو ما يرجح سبب وفاة أعداد كبيرة من الكوادر الطبية.

يقول الطبيب إن حلب في طريقها للوصول إلى ذروة الانتشار، ضمن الأساليب المتبعة حالياً، إذ لم تطبق قوانين الحجر ولم تفرض غرامات مالية على المخالفين. يقول إن ذلك يستحيل تطبيقه في المدينة، وهو ما أخبرنا به من تحدثنا معهم، إذ يعيش معظم سكان المدينة من عملهم في الورش الصغيرة والمعامل؛ يقول أحدهم «مو ليكون عنا تحليل لننحجر!». وكانت الطبيبة فرح فتّال قد لخصت عبر فيسبوك ما يحدث في مدينة حلب، وباللهجة الحلبية، بالقول إن الفيروس في حلب ينتشر بطريقة «يا غافل إلك الله» ويُعالَج بطريقة «ما حدا بيموت ناقص عمر».

المصدر: الجمهورية نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى