
شهدت ساحة الجندي المجهول في دمشق، يوم 3 تموز/يوليو الجاري، إطلاق الهوية البصرية الجديدة للجمهورية العربية السورية، برعاية الرئيس أحمد الشرع، وبمشاركة شعبية ورسمية واسعة، امتدت إلى عدة محافظات في البلاد.
تضمن الإعلان تغييرًا جوهريًا في بعض الرموز الوطنية، أبرزها استبدال شعار “النسر” المعتمد سابقًا بـ”العُقاب” (الشاهين)، مع توجّه رسمي نحو تحديث الهوية البصرية على مستوى العملة الوطنية، والوثائق الرسمية، والهوية الشخصية، وحتى الزي العسكري. هذا الحدث، الذي جاء في توقيت بالغ الرمزية، أثار موجة تفاعل واسعة بين السوريين، بين مؤيدين يعتبرونه انعطافة نحو بناء دولة جديدة، ومعارضين يرون في الخطوة تجاوزًا للشرعية الدستورية.
انتقادات دستورية وشبهات التفرد
في تصريح خاص لـ “الترا سوريا”، اعتبر السياسي سمير نشار أن الحكومة الانتقالية خالفت “نص المادة الخامسة من الإعلان الدستوري، التي تنص على أن الهوية الوطنية تصدر بموجب قانون يقرّه مجلس الشعب”، مؤكدًا أن “هذا ما أشار إليه أيضًا الدكتور أحمد القربي، عضو لجنة إعداد الإعلان الدستوري”.
وأضاف نشار: “من المؤسف أن يصدر هذا الخرق من رئيس انتقالي كان أحد الموقعين على الإعلان ذاته، بما يعكس استخفافًا بمبدأ سيادة القانون، المفترض أن يكون حجر الزاوية في أي مرحلة انتقالية”.
هوية جديدة أم قطيعة مع الماضي؟
من جانبه، يرى الكاتب والصحفي السوري أحمد مظهر سعدو أن هذه الخطوة تمثل إعلان قطيعة رمزية وسياسية مع إرث نظام الأسد، مشيرًا إلى أن “الهوية الجديدة تأخرت، لكنها ضرورية، وينبغي أن تكون بداية لمسار يتجاوز الشعارات الشكلية، نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية”.
ويتابع سعدو: “السوريون لا يبحثون عن تغيير شكلي، بل عن واقع جديد يجمعهم على أسس المواطنة والعدالة. الشعار وحده لا يكفي، بل يجب أن يعكس مشروعًا وطنيًا شاملًا يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة”.
ويُلفت سعدو إلى أن حجم التفاعل الشعبي، رغم بعض الانتقادات، “يعكس تعطش الناس لتغيير حقيقي”، مشددًا على أن “الحرية وحدها هي من تمنح لهذه الرموز معنى وقيمة، بعيدًا عن الديكتاتورية والتوظيف السياسي”.
الهوية البصرية كرسالة سياسية
في قراءة تحليلية، يرى الباحث السياسي في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان أن إطلاق الهوية البصرية الجديدة “يتجاوز البعد الجمالي والرمزي، ليعبّر عن رؤية سياسية متكاملة لبناء دولة سورية جديدة”.
ويضيف: “التحول البصري جزء من تحول أعمق في الخطاب الرسمي، يقوم على طي صفحة الماضي، والانفتاح على الداخل والخارج بسياسات أقل بيروقراطية وأكثر انسيابية”. ويؤكد علوان أن اختيار “العقاب” كشعار للدولة يحمل دلالات تاريخية، تعود إلى الموروث السوري الروماني، وتؤكد الانتماء إلى حضارة عريقة تتجاوز أحقاب الاستبداد.
ويوضح أن استخدام اللون الذهبي في الشعار يرمز إلى الشمس والقمح، أي إلى الجغرافيا والموارد، بينما ترمز 14 ريشة في الجناحين إلى وحدة المحافظات السورية. أما خمس ريشات الذيل، فهي إشارة رمزية إلى توازن الأقاليم الخمسة.
الرموز كمدخل لإعادة بناء الدولة
الباحث السوري د. باسل معراوي يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أن “الرموز الوطنية ليست تفصيلًا شكليًا، بل هي أداة محورية في ترسيخ الهوية الجامعة، تمامًا كما هي السوق الجغرافية، أو التاريخ المشترك”.
ويشير إلى أن سوريا لم تُبنَ فيها هوية وطنية جامعة منذ تأسيس الدولة الحديثة، بفعل ما وصفه بـ”تبني أنظمة الحكم السابقة شعارات فوق وطنية، أدت إلى تمزيق النسيج الوطني وتحويله إلى مكونات طائفية وعرقية”.
ويؤكد معراوي أن “القيادة الحالية التقطت مبكرًا أهمية الملف، وأعادت الاعتبار للهوية السورية، كهوية مدنية جامعة، بعيدة عن المحاصصة أو الامتيازات الطائفية”.
وفي هذا السياق، يعتبر معراوي أن اختيار “العقاب” كشعار رسمي يحمل رمزية بالغة العمق، كونه من الرموز السورية الضاربة في الجذور، ويؤشر إلى انتماء متجاوز للدين والأيديولوجيا، ما يكرّس سردية الانتماء الوطني الشامل.
بين الإرادة الرمزية والتحديات الواقعية
رغم التأكيد الرسمي على أن الهوية البصرية الجديدة تمثل “بداية الجمهورية السورية الجديدة”، إلا أن التحديات الواقعية تبقى هائلة. فالسوريون، الذين عانوا من القهر والحرب والانقسام، يتطلعون إلى ما هو أبعد من الشعارات. يريدون عقدًا اجتماعيًا جديدًا يضع حدًا للانقسام، ويكرّس قيم العدالة والمشاركة والشفافية.
وهنا تبرز الأسئلة الجوهرية: هل يمكن لرمز بصري أن يرمم الشروخ العميقة التي أصابت الاجتماع السوري؟ وهل تكفي الهوية الشكلية لتأسيس انتماء وطني حقيقي؟ أم أن التغيير يجب أن يتجذر في المؤسسات، والقوانين، والسلوك السياسي؟
في ختام المشهد، يبقى الأمل أن تمثل هذه الهوية البصرية بداية حقيقية لمسار وطني طويل، لا تقتصر فيه التغييرات على الواجهة، بل تمتد إلى بنية الدولة، ومؤسساتها، وعقدها الاجتماعي، لتُبنى سوريا الجديدة التي ينتظرها شعبها منذ عقود.
المصدر: ألترا سورية