التفاصيل السورية حين تفرض نفسها كأولوية

ضاهر عيطة

الحجر، والشجر، والنهر، والقمح، والحيوان، والبشر، والدمار، والحرائق، والإعمار، والأمن، والسِّلم، كلٌّ من هذه العناوين يمكن أن تنبثق عنه تفاصيل تُشكّل قضيّةً جوهرية، وما من تفصيل أو موضوع أو قضية هو أهمّ من غيره؛ إذ إنّ ما يمنح كلًّا منها أهميته يتوقف على زاوية النظر إليه، وطرائق معالجته.

فما بالُنا بالحالة السورية، وكلّ تفصيل فيها اليوم يُعادِل قضيّةً بالغةَ الأهمية، ويستدعي التوقّف عنده، والتأمّل فيه، والتفكّر في سُبُل انتشاله من المستنقع الذي أوقعته فيه الأسدية؟

وهذا يشمل جميع التفاصيل الحياتية، ويُشكّل تمهيدًا وتعبيدًا لطريق بناء الدولة السورية الحديثة.

ومن هنا، حين نتناول تفصيلًا من هذه التفاصيل، لا يعني ذلك أبدًا أنه الأَوْلى بينها؛ إنما نتوقّف عنده لإدراكنا أن هذه التفاصيل مجتمعة تُشكّل معًا أولويةً قصوى لدى السوريين، سواء أكان الحديث عن الحرائق التي تجتاح الغابات، أو عن “الهوية البصرية” السورية، أو عن قضية إزالة تمثال الشهداء من ساحة سعد الله الجابري في حلب، أو حتى عن قضية بيت نزار قباني.

لإعادة المكانة الحضارية لسورية، حريٌّ بنا البحث عن مفكّريها، ومبدعيها، وكُتّابها، وفنّانيها، وعلمائها، ومحاربيها.

من المعروف أن للدول والأوطان والحضارات فضاءاتٍ مكانية، وبدونها لا يبقى منها شيء، حتى ولا قصص تُروى عن ذكريات تاريخها على ألسنة من عاشوها؛ إذ إنّ الذاكرة والزمن يحتاجان إلى حاضنٍ مكانيّ يحتويهما، وبدونه يغدوانِ منفلتَين، تائهَين، ضبابيَّين، ويفقدان الكثير من هويتهما الأصلية، المادية والمعنوية.

وفي حال امتناع المكان أو عجزه عن احتضان الذاكرة والزمن، يُتركان عرضةً للانزياح، والإبعاد، والانمحاء، والتذويب.

فعلى سبيل المثال، لولا وجود تمثال يُجسّد العقاب ويرمز إلى تاريخ سورية القديم، لما أمكن لنا، ربما، أن نصل إلى هذه “الهوية البصرية”.

الماضي مترابط مع الحاضر، وكلاهما يشكّلان المستقبل، ككلّ التفاصيل المترابطة بعضها ببعض. هي عملية تراكمية تبدأ من أصغرها وتمتد إلى أكبرها؛ ودائمًا ما يتحرك “الأكبر” نحو جذوره الأولية، وإليها يعود. فأصغر حجر على تراب الوطن يشكّل جزءًا من الوطن، والتفريط بالجزء يُحدِث خللًا في الكلّ. فالبيت الذي يُدمَّر هو خسارة لكلّ الوطن، والشجرة التي تُحرَق وتتآكل هي حرقة وتآكُلٌ في جانب من الوطن.

وهذا يرتبط بما يمكن تسميته بـ”نظرية التكامل”، التي تحكم موازين الكون، حيث كلّ ذرة أو جزء فيه يُشكّل وحدة من وحداته. وعلى هذا الأساس، باتت الدول والأمم تتأهّب للتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل باعتبارها حلقاتٍ مترابطة.

وإذا ما ضربنا مثلًا يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عمّا نحن بصدده، فإننا نفعل ذلك لنعود ونؤكد على منطق الكون المتكامل، كما أسلفنا، وكتمهيد للدخول إلى ما نودّ طرحه. سنجعل من رواية (وقائع موت معلن) مدخلًا لذلك، وهي الرواية الشهيرة للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيث، الحائز على جائزة نوبل في الأدب.

في هذه الرواية، يُقتل سانتياغو نصّار على يد اثنين من إخوة بيكاريو. والمروّع في الحكاية أن معظم الشخصيات التي كانت تحيط بسانتياغو كانت على علم بأنه سيُقتل، لكن ما من أحد تحرّك، أو نَبّهه، أو حاول منعه، بل انصرف الجميع يترقّبون حدوث الجريمة وكأنها أمرٌ محتوم، حتى وقعت.

وهذا يذكّرنا بما حدث مع تمثال الشهداء في ساحة سعد الله الجابري في حلب، على سبيل المثال؛ فعلى الرغم من أن مشروع ما سُمّي بـ”تجميل” الساحة، الذي أطلقه مجلس محافظة حلب بالتعاون مع الشركة السورية التركية القابضة (STH) وشركة إعمار سوريا، قد أثار موجة واسعة من الانتقادات، واعتبر كثيرون أن التعديلات التي يتضمّنها المشروع لا تتناسب مع الطابع العمراني والتاريخي للمدينة — خاصةً وأن “نصب الشهداء”، الذي صمّمه النحات الحلبي الراحل عبد الرحمن موقت عام 1984، كانت الشركة قد أعلنت في خططها التوصيفية عن تغييب التمثال في المشروع المقبل. ورغم أن عدد كبير من السوريين، باختلاف توجهاتهم واختصاصاتهم، عبّروا عن رفضهم واعتراضهم، إلا أن أحدًا لم يكترث. وفي ليلة، وتحت جنح الظلام، بينما الناس في بيوتهم، أوفِدَت سيارة “وَنش”، رُبطت كابلات حديدية بالجزء العلوي من التمثال، وسُحب بقوة، فتفكّك وسقط الجزء العلوي منه وتحوّل إلى شظايا.

ثم صدر بيان من مديرية آثار ومتاحف حلب بعنوان: “حول نقل تمثال الشهداء”، وكأنه محاولة لتبرير ما لا يُبرَّر، بل وكأن من أصدر البيان طفل لا يعرف شيئًا عن التماثيل، ولا عن طرق حمايتها أو نقلها أو صونها من العبث.

وفي هذا الخصوص، من الضروري الإشارة إلى أن العلاقة مع الفضاء المكاني لا تقتصر على كونه حاضنًا للزمان والذاكرة؛ بل هي علاقة أعمق، تمتد إلى مستويات الحواس والعاطفة والرؤية والبصيرة. فالعلاقة مع المكان هي علاقة نبض، وشعور، وحنين، وتأمل؛ يُكثّف فيها الزمن ويُمسك به، ويُصبح — ببساطة — هاويةً شخصيةً للإنسان، مرآةً تُعرّف عليه، وتُثبت وجوده الفعلي على خارطة الأرض.

وهذا أيضًا ينطبق على معظم المؤثّرين في الحياة الإنسانية، من أنبياء، وعلماء، وكُتّاب، وشعراء، وفلاسفة، ومبدعين، ومحاربين… والكثير من هؤلاء انقرضوا، لانعدام الفضاء المكاني، وتلاشي الزمن والذاكرة. حتى إنّ القرآن الكريم يشير إلى أنّ هناك رسلًا طواهم النسيان، حين يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء:

ورسُلًا قد قصصناهم عليك من قبلُ ورسُلًا لم نقصصهم عليك وكَلّم اللهُ موسى تكليمًا.

ما يشير إلى أنّ حتى أولئك الرسل غابوا عن الذاكرة والزمن والتاريخ. في حين أنّ قسمًا آخر منهم بقي حاضرًا لأمدٍ طويل في الذاكرة الإنسانية.

وهذا لا يعود، بالضرورة، إلى قوّة وأصالة ما أنتجوه من فكرٍ وإبداع، بقدر ما يعود إلى الكيفية التي تعامل بها الآخرون مع نتاجهم، وإبداعهم، وحفظه في فضاءٍ مكانيّ وزمانيّ.

وربما ما كان لشكسبير، على سبيل المثال، أن يظل حيًّا في الوجدان الأوروبي حتى يومنا هذا، لولا آلاف الدراسات والقراءات التحليلية التي تناولت أعماله الشعرية والمسرحية.

وهو ما ظلّ يبعث الحياة فيها جيلًا بعد جيل، إذ أوجدوا لزمانه، وللذاكرة عنه، فضاءاتٍ مكانيةً حوّلوها إلى متاحف، كما حدث مع بيوت مبدعين غيره، كمنزل دوستويفسكي، وفيكتور هوغو، وبيت محمود درويش في رام الله.

ولإعادة المكانة الحضارية لسورية، حريٌّ بنا البحث عن مفكّريها، ومبدعيها، وكُتّابها، وفنّانيها، وعلمائها، ومحاربيها.

وهم بعشرات الآلاف، ولا نكاد نبالغ لو قلنا إنّ في سنوات الثورة السورية وحدها، كان هناك الآلاف والآلاف ممّن قدّم عمره، ومنهم من قدّم وقته وفكره وجهده فداءً لنصرتها. وجُلُّ هؤلاء يستحقون أن يغدوا رموزًا.

فيستحق، على سبيل المثال، الطفل حمزة الخطيب أن تتحوّل الغرفة التي كان ينام فيها إلى متحف، وحقيبته المدرسية إلى تحفةٍ تُحفَظ فيه، وكذلك ثيابه، وأقلامه، وألعابه، لتغدو مزارًا للأطفال والكبار.

ويستحق الساروت ذلك، وأيضًا مشعل تمو، وميشيل كيلو، ومحمد الهرموش، وغياث مطر، والدكتورة رانية العيسى، وزوجها، وأبناؤها، وزكي كردلو، وابنه مهيار، وغيرهم من عشرات الآلاف من السوريين، ليكونوا رموزًا وأيقوناتٍ لحفظ تاريخ التضحيات التي بُذلت على مدار سنوات الثورة السورية.

ومن هنا أيضًا، يستحق منزل الشاعر نزار قباني — وما يُثار حوله الآن من أخذٍ وردّ — التوقّف عنده.

فنزار قباني هو واحد ممّن استطاع أن يوجد لنفسه “زمانًا ومكانًا” ينتمي إليهما شخصيًا، وسيظل مقيمًا فيهما ما أتاح له الدهر.

من الضروري أن تبادر الجهات المعنيّة بالشأن الثقافي والفكري والمعرفي إلى التحاور والبحث في أسباب إزالة التمثال، والعمل على ترميمه، حتى لو كان يعود إلى الحقبة الأسدية السوداء، فليكن شاهدًا على تلك المرحلة، ودعوه يروي عنها للأجيال اللاحقة.

لكنّ هذين الزمان والمكان قائمان في قصائده، في دواوينه، أي في المخيلة.

وهذه المخيلة التي أبدعها، تستحق أن تستند إلى مكانٍ واقعيّ، محسوسٍ وملموس؛ إذ إنّ نزار لم يكن ظاهرةً أسطورية، بل إنسانًا واقعيًّا، انتمى إلى مكانٍ واقعيّ، وزمنٍ معلوم.

قد يتصالح الجيل الحالي مع الزمان والمكان المتخيّلَين الخاصين بالشاعر نزار قباني، وربما الجيل القادم أيضًا، لكنّ الأجيال اللاحقة لن تقبل بهذا التصالح حين تبحث عن مرجعيةٍ لهذه المخيلة، فلا تجد لها أثرًا في الواقع.

عندها سيتساءلون: من هو صاحب هذه القصائد؟ في أيّ بيتٍ عاش؟ من أين انحدر؟ في أيّ مدرسةٍ درس؟

سيطرحون العديد من أسئلة “الأين”، وحين لا يجدون لها أجوبة، قد يُمحى الزمان والمكان المتخيّلان من ذاكرتهم، ويضمحلّ معه حضور نزار قباني، أو غيره ممّن سبق ذكرهم.

لذلك، فإنّ الإبقاء على ما قدّمه نزار قباني، وغيره من شعراء، ومفكّرين، وعلماء، وثوّار، يحتاج إلى مَن يحرس ما أبدعوه ويُحييه جيلًا بعد جيل، بكلّ الوسائل والطرق المتاحة.

ليس لأجل تحنيط الماضي، إنما للانطلاق نحو المستقبل؛ فالماضي، حتى الآن، هو ينبوع المعرفة الأول.

فكيف كان لنا، على سبيل المثال، أن نعرف أنّ رمز العُقاب هذا — أو “نسر” بعلشمين التدمري — أُخذ عن سورية، وليس العكس؟

والذي نجده في الأثر التدمري منحوتًا في أكثر من مكان، وقد أُتخِذ كشعارٍ لهذه المملكة العربية، أو كرايةٍ ترمز للقوة والسلام في مملكة تدمر، التي ازدهرت قبل الميلاد، وخلال الفترة الرومانية.

من هنا، فإنّ تماثيل، ومنازل، أو أكواخ، أو خيام، أو بيوت المبدعين، تمثّل جزءًا من هوية الشعب.

وعليه، فمن الضروري أن تبادر الجهات المعنيّة بالشأن الثقافي والفكري والمعرفي إلى التحاور والبحث في أسباب إزالة التمثال، والعمل على ترميمه، حتى لو كان يعود إلى الحقبة الأسدية السوداء، فليكن شاهدًا على تلك المرحلة، ودعوه يروي عنها للأجيال اللاحقة.

وكذلك، لا بدّ من البدء بالتباحث مع مُلّاك بيت نزار قباني الحاليين، للحفاظ عليه، وتحويله إلى متحفٍ وطنيّ، بعد تعويضهم بما يوازي قيمته من الناحية العقارية البحتة، لا من كونه بيتًا لشاعرٍ كبير.

ودعونا، أيضًا، نستخلص العبر من الحضارات السورية القديمة التي جعلت من العقاب رمزًا لها، ذلك العقاب الذي عاد اليوم ليغدو جزءًا من الهوية البصرية لسوريا الحديثة.

مع لفت الانتباه، فيما يخص بيت نزار قباني، إلى أنّه يُفترض ألا يُترك عرضةً لسوق السمسرة، والمتاجرة، والجشع.

لأنّ فتح هذا الباب سيقود إلى مطالباتٍ مماثلة، تمتد إلى البيوت المحيطة به، فالأبعد، فالأبعد، حتى تشمل جميع العقارات في المدن والأحياء السورية، مما سيُضاعف من أزمة السكن، والفقراء، والنازحين، واللاجئين، الذين لا يجد كثيرٌ منهم لا غرفةً، ولا صندوقًا، ولا حجرًا، على تراب سوريا.

وإن مضى الحال على هذا المنوال، فقد يتحوّل بيت نزار قباني، أو غيره من الأشياء والبيوت — لا قدّر الله — إلى لعنةٍ على الأجيال السورية القادمة، حين يبحثون عن مأوى فلا يجدونه، ويبحثون عن تمثال الشهداء فلا يجدونه، أو عن ما يحترق من غاباتٍ الآن، فلا يعثرون لها مستقبلًا على أثر، إن تُركت فريسةً للرماد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى