بريطانيا وسوريا ما بعد الأسد.. انخراط محسوب أم رهان استراتيجي؟

مالك الحافظ

قام وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي بزيارة رسمية إلى دمشق في الخامس من تموز الجاري، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ 14 عاماً. الزيارة التي جاءت بعد نحو ثمانية أشهر على سقوط نظام الأسد، ولقائه رئيس السلطة الانتقالية أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، تُشكّل نقطة تحول دبلوماسية متمثلة بإعادة علاقات سياسية كاملة بين لندن ودمشق.
الجانبان أعلنا خلال اللقاء، استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد سنوات من التوتر والمقاطعة، مؤكدين على ضرورة تعزيز الحوار وبناء شراكة جديدة قائمة على المصالح المشتركة واستقرار المنطقة.

زيارة لامي، تعكس رغبة بريطانية متعاظمة في ترسيخ حضور فعلي ضمن ترتيبات ما بعد الأسد؛ إذ تسعى لندن فيما يبدو إلى المساهمة في تثبيت الاستقرار السياسي والأمني في بلد ظلّ لسنوات طويلة ساحة لتقاطع الحروب بالوكالة ومسرحاً للانهيارات المتوالية.

هواجس بريطانيّة

الهاجس الأمني البريطاني، المتمثل بخطر عودة التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها “داعش”، لا يزال يؤرّق دوائر القرار في لندن، سواء من حيث التهديد المباشر للأمن الإقليمي، أو لما له من تداعيات تتصل بمسارات الهجرة غير النظامية. من هنا، يبدو أن الدعم البريطاني، المتوقع تنويعه خلال المرحلة المقبلة، مرشح لأن يتخذ طابعاً بنيوياً، يمتد من المجالات الأمنية مروراً بإعادة بناء أجهزة الدولة على أسس أكثر مؤسسية.

في هذا السياق، يبرز الدور البريطاني بوصفه أحد الأضلاع الفاعلة في المثلث الدولي الداعم للمرحلة الانتقالية، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وشركاء أوروبيين وخليجيين؛ خصوصاً قطر والسعودية، اللتين ترتبطان مع بريطانيا بسلسلة من التفاهمات الأمنية والاقتصادية في الإقليم.
لامي صرح لـ “بي بي سي” خلال الزيارة أن الهدف من اجتماعه مع الشرع هو تعزيز الشمولية والشفافية والمساءلة مع الحكومة الجديدة. قائلاً “أنا هنا لأتحدث إلى الحكومة الجديدة، ولحثّها على مواصلة نهجها الشامل، ولضمان الشفافية والمساءلة في طريقة حكمها”.
وأضاف لامي بأن المملكة المتحدة تريد أن “تسير سوريا في اتجاه السلام والرخاء والاستقرار للشعب، وأن تكون دولة شاملة”، وستستخدم المساعدات الإنسانية للمساعدة في ذلك. موضحاً أن المملكة المتحدة ستراقب الوضع لضمان أن تدير الحكومة الجديدة شؤون البلاد بطريقة شاملة.
من جهته، نقل التلفزيون الرسمي عن المكتب الإعلامي للوزارة أن الشيباني تلقى “دعوة رسمية لزيارة المملكة المتحدة حيث سيتم العمل على إعادة فتح سفارة” سوريا في لندن.

وجرى الاتفاق بين الجانبين “على تشكيل مجلس اقتصادي سوري-بريطاني”، كما نقل لامي لنظيره السوري تعهد المملكة المتحدة “بدعم قطاعي الزراعة والتعليم”.
وفي شهر نيسان الماضي، اتفقت دولة قطر والمملكة المتحدة على العمل المشترك في سوريا لتقديم المساعدات الإنسانية ودعم التعافي الاقتصادي.

وبحسب بيان مشترك، فقد جرى حوار بين رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، ووزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، وجاء تحت شعار “شركاء من أجل المستقبل”.
وأوضح البيان أن الوزيرين أكدا أن تحقيق الأمن والاستقرار في سوريا يُعد أولوية قصوى، مضيفاً: “ولتحقيق ذلك، اتفقت قطر والمملكة المتحدة على العمل معاً لتقديم المساعدات الإنسانية، ودعم التعافي الاقتصادي، وجهود إعادة الإعمار على المدى الطويل”.
إلى جانب الحاجة إلى تحالفات إقليمية فعّالة، تدرك لندن أن نجاح أي مشروع استراتيجي في سوريا مرهون بمدى قدرة السلطة الانتقالية على تقديم نموذج بديل قادر على كسب الثقة. الثقة هنا ليست فقط بين مكونات الداخل السوري، بقدر ما تتصل في المقام الأول بين الشركاء الدوليين الذين يتابعون مسار تشكيل وبناء الجيش الجديد، وبناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية، وتوفير الضمانات اللازمة لعدم ارتداد هذه البنى إلى ممارسات القمع القديمة.

في العمق، يبدو أن بريطانيا، في سعيها للعودة إلى سوريا، تُراهن على لحظة تاريخية تتقاطع فيها مصالحها الأمنية والاقتصادية مع حاجات الانتقال السوري. فليس من المستبعد حضور مشاريع متقدمة لإعادة الإعمار، وإعادة تشغيل القطاع المصرفي، وتأهيل البيئة القانونية لجذب المستثمرين. غير أن هذه الطموحات مهما بدت مغرية، تظل رهينة للمعطى السياسي، ولدرجة المرونة التي ستُظهرها دمشق الجديدة في إدارتها للمرحلة، ومدى قدرتها على الانفتاح، باعتباره شرطاً داخلياً لبناء دولة قابلة للحياة.

بريطانيا ومرحلة الانخراط الذكي

في نيسان الماضي، أعلنت الحكومة البريطانية رفع العقوبات المفروضة على وزارتي الداخلية والدفاع السوريتين في عهد الأسد، كما أعلنت رفع العقوبات المفروضة على مختلف المؤسسات الإعلامية وأجهزة المخابرات، بالإضافة إلى بعض القطاعات الأخرى، بما فيها الخدمات المالية وإنتاج الطاقة، حيث ألغت تجميد أصول مصرف سوريا المركزي و23 كيانا آخر، بما في ذلك بنوك وشركات نفط، لتشجيع الاستثمارات لكنها أبقت على العقوبات التي تستهدف أعضاء من نظام الأسد.
وفي مطلع آذار الماضي دعا وزير الخارجية البريطاني، السلطات في دمشق إلى حماية جميع السوريين وتحديد مسار واضح للعدالة الانتقالية. وفي شهر أيار، التقى وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة وفداً بريطانياً رسمياً، بحسب وزارة الدفاع.

بينما شارك لامي في 12 كانون الثاني 2025، في “اجتماعات الرياض بشأن سوريا”، والتي عقدت بالعاصمة السعودية، وركزت آنذاك على دعم السلطات الجديدة في سوريا.

زيارة لامي إلى دمشق مطلع تموز؛ جاءت لتعيد تعريف علاقة لندن بدمشق، بوصفها إعلاناً عن عودة بريطانيا إلى صلب المعادلة السورية، بصفتها فاعلاً دولياً خارج إطار الاتحاد الأوروبي، يملك إرثاً استراتيجياً في المشرق، ورغبة متجددة للحضور الوازن في مرحلة ما بعد الأسد.
انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي عام 2020 لم يكن مجرد حدث اقتصادي أو قانوني فقط، بقدر ما عبّر عن تحول في هندسة القرار البريطاني، نحو دبلوماسية حرة قابلة للتموضع السريع خارج آليات بروكسل الثقيلة. ولهذا فإن عودة بريطانيا اليوم إلى دمشق تعكس تطلعاً لإنتاج “أثر سيادي” جديد في سوريا.

ضمن هذا السياق، يمكن فهم هذه الزيارة كمسعى بريطاني إلى التمايز عن بقية القوى الغربية الأوروبية، ليس لتعارضها، وإنما لتسبقها وتوجّه مسارها، من خلال الانخراط في ملفات الدولة السورية الجديدة، سواء من بوابة الدعم التقني للمؤسسات، أو عبر الشراكة الأمنية والسياسية.
بهذا المعنى، فإن بريطانيا تعود إلى سوريا كقوّة تسعى إلى إعادة تعريف دورها الخارجي ضمن توازنات ما بعد البريكست، وما بعد الحرب السورية.
يمكن القول هنا إن بريطانيا لا تنظر إلى سوريا كأرض للوصاية الصريحة، لكنها في الوقت ذاته لا تتعامل معها كحيّز محايد أو هامشي. هي ترى في المرحلة الانتقالية السورية فرصة لإعادة تدوير نفوذها الإقليمي، من خلال تثبيت علاقة وظيفية مع السلطة القائمة. في هذا الإطار، لا تُغالي لندن في تبنّي خطاب شراكة شاملة، لكنها أيضاً لا تمانع في الاستثمار الهادئ والمركّب في مؤسسات السلطة الانتقالية، باعتبارها الخيار المتاح حالياً لضبط الاستقرار ومنع الانهيار الكامل.

بريطانيا والعودة الهادئة

الحضور البريطاني المرتقب في سوريا الانتقالية يأتي كاستجابة محسوبة لتحولات جيوسياسية متراكمة، فصحيح أن لندن لم تعلن حتى الآن عن “خطة مارشال” جديدة، ولم تَعِد السوريين بإعمار شامل، لكنها في المقابل لم تتراجع إلى الحياد، وإنما حافظت على مسافة كافية تسمح لها بأن تكون طرفاً فاعلاً في هندسة التوازنات الناشئة.
لكن ما يتوجب الإشارة إليه هنا بأن حضور بريطانيا في دمشق لا يمكن فهمه خارج إطار التشبيك الإقليمي والدولي الأوسع. فمنذ مطلع هذا العام، تعمل لندن على بناء “شبكة دعم متعددة الأقطاب”، تتوزع بين التنسيق مع الشركاء الغربيين التقليديين، والتفاهم مع القوى الخليجية الفاعلة، وخصوصاً قطر والسعودية، اللتين تلعبان دوراً محورياً في احتضان مسار الانتقال السوري، وتمويل مراحله الأولى، والمساهمة في إنتاج نموذج حكم أكثر استقراراً وتوازناً.

وقد مثّلت اجتماعات الرياض التي انعقدت مطلع العام لحظة تبلور لهذه المقاربة، حيث التقى ديفيد لامي بنظرائه الخليجيين، في سياق بدا فيه أن الملف السوري يُعاد تأطيره كملف إقليمي–دولي مشترك، لا تهيمن عليه قوة بعينها، بل يتم تقاسمه وفق مبدأ “المسؤولية التشاركية”، مع مرونة في تقاسم الأدوار والملفات.

الدوحة التي لطالما احتفظت بخيوط اتصال مع أطراف متعددة داخل المشهد السوري، تبدو اليوم شريكاً رئيسياً في إعادة تعويم السلطة الجديدة، من خلال الدعم السياسي والاقتصادي والإنساني. أما الرياض، فتعيد هندسة دورها الإقليمي بعد الانفتاح على الملف السوري، عبر الدفع نحو بنية أمنية جديدة في المشرق، ترتكز على مزيج من الاستقرار والسيادة.

ضمن هذا السياق، تتحرّك بريطانيا ليس كفاعل وحيد أو منفرد، وإنما كجزء من منظومة دبلوماسية متعددة المستويات، تُراهن على تبريد الجبهات، وإعادة ترتيب الأولويات، وتفادي استنساخ الفشل في إدارة المراحل الانتقالية كما حدث في تجارب عربية أخرى سابقة.

اقتصادياً، تميل المقاربة البريطانية إلى رؤية التعافي بوصفه مساراً تدريجياً، يبدأ بإعادة تأهيل البنى الاجتماعية والخدمية في القطاعات الأساسية؛ المياه، الصحة، الطاقة والتعليم. لا يحمل هذا التوجه وعوداً كبرى، لكنه يشير إلى رغبة واضحة في خلق بيئة أولية قابلة للحياة، تنشأ من داخل المجتمع السوري، وتهدف إلى ترميم الحد الأدنى من الاستقرار اليومي.

في المؤسستين الأمنية والقضائية، ربما تدعم بريطانيا إصلاح البنية القائمة عبر أدوات الدعم التقني والتدريب الإداري، دون الخوض في مشاريع تأسيس بدائل أمنية أو هياكل موازية. وهذا الميل يعكس فهماً لطبيعة المرحلة، حيث يُفترض أن توازن السلطة الانتقالية بين ضرورات السيطرة ومتطلبات الشرعية.
أما في الحقل السياسي، فإن بريطانيا تتعاطى مع السلطة الانتقالية على نحو هادئ، من خلال الدفع باتجاه استدامة مؤسساتية تحفظ الحد الأدنى من التعددية، وتحمي المسار من احتمالات الارتداد.
الزمن السياسي الذي تعود فيه بريطانيا إلى دمشق هو زمن التعافي الحذر، وإعادة التشكل. لذا، تحاول لندن أن تحجز لنفسها موقعاً عقلانياً في المشهد السوري، لا يقوم على فرض الوصاية ولا على التراجع الحذر، بقدر ما يقوم على المشاركة المرنة في هندسة التوازنات الجديدة، فهي لا تسعى إلى إعادة تشكيل الدولة من الخارج، لكنها تواكب لحظة إعادة البناء عبر دعم تقني ومؤسسي طويل النفس.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى