
أولاً: مقدمة:
كارثة بيئية غير مسبوقة تكشف عمق الإهمال الدولي تجاه سوريا:
تشهد سوريا منذ 30 حزيران/يونيو 2025 واحدة من أعنف الكوارث البيئية في تاريخها المعاصر، إذ اجتاحت حرائق مدمّرة المناطق الساحلية على مدى ستة أيام متتالية، مُخلّفة وراءها دماراً بيئياً وإنسانياً واسع النطاق يتطلب استجابة دولية فورية. وتُظهر التقديرات الأولية حجم الكارثة البيئية غير المسبوقة: أكثر من 14,000 هكتار من الغابات والأراضي الزراعية – أي ما يعادل 140 كيلومتراً مربعاً – التهمتها النيران، وهو ما يُمثّل أكثر من 4 % من إجمالي الغطاء الحرجي في البلاد خلال أيام قليلة.
امتدّت رقعة الدمار إلى 34 موقعاً رئيساً في أرياف محافظتي اللاذقية وطرطوس، وشملت مناطق ذات أهمية بيئية وحيوية مثل جبل التركمان، الفرنلق، رأس البسيط، قسطل معاف وربيعة. كما وصلت ألسنة اللهب إلى مشارف مدينتي طرطوس وبانياس. وقد شكّلت هذه الحرائق جبهة نشطة امتدت لأكثر من 23 كيلومتراً، مهددة بشكل مباشر محمية الفرنلق، وهي آخر الغابات الساحلية الكثيفة المتبقية في سوريا، والتي تضم أنواعاً نادرة من الصنوبر والسنديان ذات قيمة بيئية عالية.
ولم يكن الأثر الإنساني أقل مأساوية من الخسائر البيئية؛ إذ اضطرت مئات العائلات إلى إخلاء منازلها في قرى بيت عيوش، المزرعة، صبورة، والبسيط. وتشير المعطيات الأولية إلى تضرر أكثر من 5000 شخص بشكل مباشر، إلى جانب ما يزيد عن 1120 نازحاً. كما لحقت أضرار جسيمة بالبنية التحتية، شملت تدمير خطوط الكهرباء، شبكات النقل، ومنشآت المياه، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن عدة قرى ومناطق ريفية، وزاد من معاناة السكان.
وتجاوزت تداعيات الكارثة حدود الأضرار المباشرة لتطال النظم البيئية المحلية، حيث أدى زوال الغطاء النباتي إلى تعرية التربة وزيادة خطر الانجرافات والانزلاقات الأرضية. كما تسبب نفوق أعداد كبيرة من الحيوانات البرية – بما فيها الثعالب، القطط البرية، السلاحف، الطيور والحشرات – في اختلالات طويلة الأمد في التوازن البيئي. هذا بالإضافة إلى تدهور جودة الهواء بسبب تصاعد الدخان والجسيمات الدقيقة، ما أثّر سلباً على صحة السكان، وخاصة الأطفال وكبار السن الذين يعانون من أمراض تنفسية.
وتعقّدت السيطرة على هذه الكارثة بسبب عوامل متعددة، منها الرياح القوية التي تجاوزت سرعتها 60 كيلومتراً في الساعة، والجفاف الشديد، وارتفاع درجات الحرارة. إلا أنَّ التحدي الأكبر تمثّل في وجود مخلفات الحرب – من ألغام وذخائر غير منفجرة – والتي أعاقت وصول فرق الإطفاء إلى العديد من المناطق الحيوية، وعرقلت جهود السيطرة على الحرائق في الوقت المناسب.
وتأتي هذه الكارثة في وقت دقيق تمر فيه البلاد بمرحلة انتقالية بعد سقوط نظام الأسد، ما يجعل الحاجة إلى دعم دولي فعال أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالأضرار البيئية لا تهدد النظام البيئي فحسب، بل تضرب أيضاً مفاصل التعافي الاقتصادي والاستقرار السياسي، خاصة في قطاعات حيوية كالسياحة البيئية والزراعة، التي تمثّل أعمدة الاقتصاد في المناطق الساحلية.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، تقف الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان لتوثيق ما وصفته بـ “الاستجابة الدولية المتقاعسة”، التي كشفت عن مستوى صادم من الإهمال والتمييز الذي يواجهه السوريون حتى في أقسى ظروفهم. ففي الوقت الذي كانت النيران تلتهم الموارد الطبيعية ويهرب الناس من بيوتهم، جاءت الاستجابة الدولية بطيئة، بيروقراطية، وعاجزة عن مواكبة خطورة الموقف. لقد تحوّلت كل ساعة تأخير إلى مزيد من الخسائر والمعاناة.
وما حدث خلال الأيام الستة الكارثية لا يمكن وصفه إلا بكونه تقصيراً فاضحاً في أبسط مبادئ التضامن الإنساني والالتزامات المنصوص عليها في القانون الدولي، تلك التي يجب أن تضمن الحماية لكل إنسان دون تمييز، بغض النظر عن جنسيته أو ظروف بلاده السياسية.
ثانياً: فشل المجتمع الدولي في مواجهة الكارثة البيئية السورية
تُجسد استجابة المجتمع الدولي لحرائق الغابات الساحلية في سوريا واحدة من أبرز حالات الفشل الإنساني في التاريخ المعاصر، حيث تحوّلت الآليات الدولية التي يُفترض أن تكون مكرّسة لحماية الأرواح وإنقاذ البيئة إلى أدوات تعكس التراخي وتُكرّس المعاناة وتُطيل أمد الكوارث.
فحتى الآن، اقتصرت مشاركة الأمم المتحدة على ما وصفته بـ “التقييمات العاجلة”، وبأنَّ الفرق “تُحدد حجم الكارثة” بعد أربعة أيام كاملة من اندلاع النيران، بينما كانت الحرائق تلتهم آلاف الهكتارات من الغابات السورية كل ساعة. وهذا مؤشر على خلل في فهم المؤسسة الأممية لطبيعة الاستجابات الطارئة، حيث إنَّ كل يوم تأخير كان يعني مزيداً من الأشجار المفقودة، والمزيد من النازحين والمعاناة الإنسانية.
هذا النمط من الاعترافات المتأخرة والاستجابات غير الكافية لا يمثل سوى تكرار مأساوي لنفس الإخفاقات التي وسمت تعامل الأمم المتحدة مع زلزال شباط/فبراير 2023، حين اضطر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في ذلك الوقت، مارتن غريفيث، إلى الإقرار بأنَّ المنظمة “خذلت حتى الآن الناس في شمال غرب سوريا”.
الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، والبنك الدولي
لم يتفاعل الاتحاد الأوروبي مع الكارثة طوال ستة أيام، رغم ادعائه الدائم الريادة في قضايا المناخ والبيئة، ورغم امتلاكه لآلية الحماية المدنية الأوروبية التي تتيح إرسال فرق إطفاء ومروحيات متخصصة إلى أي نقطة داخل القارة خلال أقل من 24 ساعة. تجاهل الاتحاد كارثة بيئية حقيقية في دولة جارة في حوض البحر الأبيض المتوسط، دُمّر خلالها أكثر من 4 % من غطائها الحرجي، دون تقديم أي تدخل يُذكر.
ولا يقل فشل المنظمات الإقليمية عن تقصير المؤسسات الدولية؛ فجامعة الدول العربية لم تُنسّق أي استجابة جماعية، رغم كون الكارثة تمس منطقة عربية، فيما بقي البنك الدولي صامتاً تماماً، ولم يُقدّم أي دعم طارئ، رغم أنَّ آثار الحرائق طالت البنية التحتية والاقتصاد السوري بشكل مباشر.
الاستجابة الإقليمية: نموذج يُثبت الإمكان
في مقابل هذا الصمت الدولي، قدّمت دول الجوار السوري نموذجاً فاعلاً وسريعاً للاستجابة الإنسانية، مثبتةً أنَّ الدعم العاجل ممكن متى توافرت الإرادة. فقد أرسلت تركيا مروحيتين و11 سيارة إطفاء فور تلقيها نداء استغاثة في 5 تموز/يوليو، كما بادرت الأردن إلى إرسال فرق دفاع مدني متخصصة ومروحيتين من طراز “بلاك هوك” مزوّدتين بأنظمة إطفاء حديثة. أما لبنان، وعلى الرغم من أزماته الاقتصادية العميقة وتحدياته الداخلية، فقد تمكّن في 7 تموز/يوليو من إرسال مروحيتين للمشاركة في جهود إخماد الحرائق، مما يضع المجتمع الدولي، وخاصة القوى الغنية، في موقف محرج. فدولة تعاني من أزمات وجودية لم تتخلَّ عن واجبها الإنساني، بينما التزمت القوى الكبرى الصمت والتجاهل.
نمط الإهمال: من زلزال شباط/فبراير 2023 إلى حرائق تموز/يوليو 2025:
إنَّ الإخفاق الدولي في التعامل مع حرائق سوريا هو حلقة جديدة في سلسلة من الإهمال الذي اتسمت به استجابات الكوارث خلال السنوات الأخيرة. فالتأخر البيروقراطي والقصور في التحرك الذي شاب التعامل مع زلزال شباط/فبراير 2023، يعاد تكراره اليوم، مما يثبت أنَّ المشكلة لا تكمن في القدرات أو الموارد، بل في غياب الإرادة السياسية والإنسانية.
وقد أقرّ حينها مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في الأمم المتحدة، بأنَّ المنظمة “خذلت الناس في شمال غرب سوريا”. إلا أنَّ هذا الاعتراف لم يُفضِ إلى أي إصلاح ملموس في آليات الاستجابة، بل بقي مجرد تصريح عابر، بينما تستمر الأخطاء ذاتها في كل أزمة جديدة تمر بها البلاد.
ثالثاً: الاستنتاجات والتحليل القانوني:
انتهاك المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني
تُعد الاستجابة الدولية لحرائق الغابات في سوريا خرقاً واضحاً لعدد من المبادئ الأساسية في القانون الدولي العام، وبالأخص في السياق الإنساني والبيئي.
انتهاك مبدأ عدم التمييز والمساواة السيادية
يُشكّل مبدأ عدم التمييز أحد الركائز الجوهرية في القانون الدولي الإنساني، حيث يُلزم بتقديم المساعدة الإنسانية دون تمييز على أساس الجنسية، أو العرق، أو الدين، أو الانتماء السياسي. ويُظهر التفاوت في سرعة وكثافة الاستجابة الدولية للكوارث الطبيعية بين سوريا ودول أخرى انتهاكاً مباشراً لهذا المبدأ الجوهري.
ويتعارض هذا التمييز أيضاً مع المادة 2 (1) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تؤكد على مبدأ المساواة السيادية بين جميع الدول الأعضاء. فالكوارث الطبيعية لا تعترف بالحدود السياسية، والاستجابة لها يجب أن تُبنى على أسس إنسانية محضة، بعيداً عن الحسابات الجيوسياسية.
إخلال بالالتزامات البيئية الدولية
تُبرز الوثائق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) واتفاق باريس للمناخ، أهمية التعاون الدولي في مواجهة الأزمات البيئية. وتنص المادة 6 من اتفاق باريس على تشجيع “التعاون الطوعي” بين الدول لتنفيذ تعهداتها الوطنية. كما يُشدّد إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية لعام 1992، في مبدئه السابع، على ضرورة التعاون في “روح الشراكة العالمية” من أجل الحفاظ على النظم البيئية.
إنَّ حرائق الغابات السورية، بما تنطوي عليه من تدمير للغطاء النباتي وارتفاع في انبعاثات الكربون، لها تأثير مباشر على النظم البيئية الإقليمية والمناخ العالمي. ويمثل غياب التدخل الدولي لإيقاف هذه الكارثة إخلالاً واضحاً بهذه الالتزامات البيئية، وتناقضاً مع الأهداف المعلنة لمكافحة التغير المناخي والحفاظ على التنوع البيولوجي.
التوصيات
إلى الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة
تدعو الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان الأمين العام للأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءات فورية لتفعيل آليات الاستجابة الطارئة، وذلك من خلال:
- إعلان حالة الطوارئ البيئية في سوريا، وتفعيل صندوق الاستجابة المركزية للطوارئ (CERF)، مع تخصيص مبلغ لا يقل عن 75 مليون دولار أمريكي لمعالجة آثار الكارثة، على أن يُصرف المبلغ خلال 48 ساعة من إقراره.
- نشر فرق تقنية متخصصة بشكل عاجل من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، مجهّزة بمعدات متطورة، بما في ذلك طائرات ومروحيات إطفاء ثقيلة، والبدء في العمليات الميدانية خلال 24 ساعة من وصولها.
- تشكيل لجنة تحقيق مستقلة برئاسة نائب الأمين العام للشؤون الإنسانية، للتحقيق في أسباب تأخر الاستجابة الأممية، وتقديم تقرير مفصّل خلال 30 يوماً يتضمن توصيات إصلاحية، مع التأكيد على نشر التقرير ومناقشته في جلسة خاصة لمجلس الأمن.
- تكليف برنامج الأغذية العالمي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بتوفير مساعدات عاجلة للنازحين، تشمل مواد إغاثية أساسية، مساكن مؤقتة آمنة، ورعاية طبية متخصصة للمتضررين من الحروق أو استنشاق الدخان.
إلى الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء
- تفعيل آلية الحماية المدنية الأوروبية (EU Civil Protection Mechanism) لإرسال فرق إطفاء ومعدات متخصصة خلال مدة لا تتجاوز 48 ساعة، كما هو معتاد في حالات الطوارئ داخل دول الاتحاد.
- إطلاق مبادرة أوروبية للعدالة المناخية في منطقة البحر المتوسط تشمل سوريا كشريك فعلي، وتستند إلى دعم فني وتقني عبر توفير أنظمة للرصد المبكر، وآليات إنذار متطورة، مع تطبيق نفس المعايير المعتمدة في برامج الحماية البيئية للدول المتوسطية الأخرى.
المصدر: الشبكة السورية لحقو ق الانسان