تداعيات هذا الاغتيال وتهافت الحلّ السلمي في ليبيا

خيري عمر

مع إقرار حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا إعداد عملية عسكرية لاغتيال رئيس جهاز دعم الاستقرار، عبد الغني الككلي، في 12 مايو/ أيار الحالي، تسارعت الأحداث لتكشف تعدّد مصادر تهديد بقاء السلطة والدولة، سواءً لظهور تداعيات عسكرية أو تململ الأحزاب والمدن من بقاء الحكومة. وفي ظلّ عجز الأطراف في غرب ليبيا عن الحسم العسكري أو السلمي، تواجه السلطات تحدّيات منع الانفلات، وأعباء الحفاظ على خيار الحلّ السلمي ووحدة الدولة، ويحاول هذا المقال قراءة تداعيات الأزمة في ضوء صعود وهبوط الفواعل السياسية، ومدى قدرتها على تقديم طرح للخروج من الحلقة المفرغة في غربي ليبيا.

منذ البداية، يعكس تغير رواية الحادث حقيقة نيّات رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، للمضي في الصراع المسلّح للسيطرة على العاصمة. في البداية، تتابعت الأخبار عن حدوث عراك مُسلّح داخل مقرّ اللواء 444، نتج عنه قتل الككلي، لتعدّل الرواية لاحقاً، وتوصف بـ”العملية العسكرية”، وقد أرست تصريحات كلّ من عبد الحميد الدبيبة ومحمود حمزة دوافعَ القيام بمثل هذه العملية، إذ تواتر التأكيد أن تغوّل وانفلات جهاز دعم الاستقرار شكّلا دافعاً رئيساً وراء الإجراء الحكومي لحماية سكّان منطقة أبو سليم، واستعادة التوازن العسكري في العاصمة، بدمج كلّ المعسكرات تحت سلطة الحكومة.

وبغضّ النظر عن تبعية الجهاز لـ”المجلس الرئاسي”، نُقل تكييف حكومة طرابلس للجريمة من الاشتباك العشوائي إلى مستوى الاعتبار السياسي، عندما رأت الحكومة عملية الاغتيال ضمن صلاحياتها في تسيير الشؤون اليومية والحفاظ على الأمن وحماية المؤسّسات العامّة. وقد حاول رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، استكمال التخلّص من منافسيه، فأصدر قراراً بحلّ قوات الردع الخاصة (13 مايو الحالي)، جهاز الأمن الأساسيّ في طرابلس، لتندلع اشتباكات في بعض أحياء العاصمة، انتهت بتشكيل قوات حاجزة ما بين جهاز الردع وقوات اللواء 444، مع نقل الإشراف على بعض السجون إلى وزارة الداخلية. على أيّ حال، يوضّح تدهور القدرة على الحسم العسكري خطأ تقديرات الدبيبة بأن اغتيال الككلي يفتح الطريق للانفراد بالسلطة في طرابلس، إذ كشفت المواجهة مع الردع عن نقص واضح في تغطية الخدمات الأمنية والعسكرية داخل المدينة، وانخفاض مرونة تحرّكها مقارنةً بقوات الزاوية والزنتان. وهنا، يشكّل الاعتماد الدائم على الوحدات العسكرية في مصراتة الفجوة المستمرّة في التوازن العسكري داخل العاصمة.

يشكّل الاعتماد الدائم على الوحدات العسكرية في مصراتة الفجوة المستمرّة في التوازن العسكري داخل العاصمة

وفي ظلّ صعوبة الحسم العسكري، قرّر المجلس الرئاسي (14 مايو)، إلغاء قرار حلّ قوات الردع. تعمل هذه النتيجة في تقييد تطلّعات توسيع نفوذ اللواء 444 داخل المدينة، كما تقلّل من فاعلية إمداد مصراتة العسكري، والأمني، لتبقى أوضاع المنطقة الغربية في حالة توتّر انتظاراً لانفجار مع حدوث اختناق آخر. إلى جانب صعوبة الحسم المُسلّح، شكّل تتابع استقالة الوزراء تحدّياً لاكتمال الحكومة وقدرتها على الاستمرار، خصوصاً مع مشكلات استبدالهم بآخرين، ليس بسبب الحاجة لاعتماد مجلس النواب فحسب، لكن لشدّة ارتباط الوزراء بمواقف المناطق المنحدرين منها تجاه حكومة طرابلس، إذ يغلب الولاء المحلّي على التطلّعات السياسية.

في هذه الأجواء، تدور مطالب تغيير الحكومة السياسي بين المؤسّسات الرسمية، وكذلك على مستوى التيّارات والأحزاب السياسية. فعلى مستوى البرلمان؛ مجلسَي النواب والدولة، وبجانب تأكيد انتهاء ولاية حكومة طرابلس، سادت اتجاهات لمحاسبتها على جريمة قتل خارج القانون، وفرض حظر سفر على رئيسها (الدبيبة). وقد شكّلت هذه الخلفية مساعيَ كلّ من عقيلة صالح وخالد المشري لاتخاذ مواقفَ لبدء تشكيل وزارة موحّدة، تكون مهمتها استكمال خطّة خارطة الطريق المُقرّة في فبراير/ شباط 2021. وبينما بدأت رئاسة النواب في تلقّي ترشيحات، طالب اتجاه داخل المجلس (26 نائباً) باعتماد حكومة شرق ليبيا برئاسة أسامة حمّاد، لتكون الحكومة الموحّدة الجديدة، وبغضّ النظر عن انقسامات المجلسَين، فإنهما يستكملان دائرة حصار حكومة طرابلس، لتسدّ مخارج إفلات رئيسها من تعدّد القيود الداخلية والخارجية.

على مستوى التيّارات السياسية، حاولت شخصيات تنتمي لتيّار المفتي، و”الإخوان”، تقديم تأويل شرعي لرفض التظاهر السلمي أو تقييده بالمصلحة. فمع تتابع الأحداث، قامت آراء سامي السعدي وسالم الشيخي على أن الانسياق وراء تحريض التيار المدخلي و”الكرامة” بإسقاط الحكومة، ينطوي على مخاطر ومفسدة عظيمة، خصوصاً مع نقص ضمانات ضبط العنف، وهذا ما يقتضي التحوّط بانتظار الوقت المناسب للمطالبة بإسقاط البرلمان، ومجلس الدولة، والمجلس الرئاسي، وحكومة عبد الحميد، وحكومة الشرق، بعد توافر شروط الاستفتاء على مشروع الدستور.

قدّمت فتاوى مفتي ليبيا، الصادق الغرياني، تأييداً واضحاً لحكومة الوحدة

وفي نسق متقارب، قدّمت فتاوى مفتي ليبيا، الصادق الغرياني، تأييداً واضحاً لحكومة الوحدة. وفي تعليق أوليّ (16 مايو) أسسّت دار الإفتاء موقفها على مرحلتَين؛ كانت الأولى في ربط الدعوة المشبوهة للتظاهر بتمكين خليفة حفتر من السلطة، ولمحاولة تخفيف الصدام مع الداعين إلى التظاهر، وضعت احتمال التباس المصلحة لدى المتظاهرين، ولذلك أوجبت الفتوى التزام البيوت وعدم مساعدة الداعين إلى التظاهر في إفساد العاصمة، وتعذيب أهلها، كما فعلوا مع إبراهيم الدرسي، وكان التعليل الأهم في التباس المصلحة لدى الداعين للتظاهر. أمّا الثانية، فإنها، في 21 من الشهر نفسه، أسّست رؤيتها على المفاضلة ما بين أهون الشرَّين، فرأت دعم حكومة الوحدة “الأقلّ فساداً” من غيرها. على هذه الأرضية، تلاقى موقف جماعة الإخوان المسلمين والإحياء والتجديد، مع تيار الإفتاء، في عدم المشاركة في تظاهرات إسقاط حكومة طرابلس، وتجنّب انتقاد الحكومة أو الدخول في الجدل حول حادث اغتيال الككلي، ورأت الحلّ يتمثل في انعقاد الانتخابات، فتُعيد الحيوية للمؤسّسات. ووفق هذا التوجّه، لا ترى الجماعة إسقاط الحكومة حلاً مناسباً.

ويقود عدد من البلديات تحرّكات المعارضين للحكومة، فعلى مستوى البلديات، باستثناء بلدية مصراتة وبعض المجالس العسكرية، تتزايد الدعوات لمحاسبة الحكومة ومراقبة سلوكها أو رفض بقائها، لتمثّل في مجملها قيوداً على مستقبل عبد الحميد الدبيبة، فيما تتزايد فرص تشكيل بديلٍ منها. في هذا السياق، يُقدم بيان سوق الجمعة (16 مايو)، دعماً مباشراً لقوات الردع، وأنه لن يكون “كبش فداء”، عندما وصف قرار حلّ التشكيلات بالانتقائية، ويرى وجوب شموله كلّ المكوّنات العسكرية شرطاً لتفادي الانقسام، وعدم الإخلال بتوازن القوى في العاصمة وليبيا. وخارج العاصمة، وقفت بلدية مصراتة وحدها داعمةً للحكومة، من دون تحقيق إجماع المدينة، فإلى جانب رفض تجمعات محلّية للمشاركة في دعم الحكومة، لا يرى رئيس الحزب الديمقراطي، محمد صوان (تيّار قريب من “الإخوان”) ضرورةً لتوحيد مصراتة خلف رئيس الحكومة، إذ الخلاف معه لأسباب سياسية، تتعلّق بكل مدن ليبيا كالفساد وإدارة الدولة، وهي مشكلات هيكلية تجاوز الزمن محاولات معالجتها. ولذلك، رأى أولوية معالجة خلافات المدينة (مصراتة) مع المدن الأخرى بعقلانية وحكمة.

على مدى أزمة ليبيا ما بعد القذّافي، التعامل الدولي الحالي هو الأكثر زُهداً في الاهتمام بمجريات الأحداث الليبية

يوضّح الاتجاه العام لردّة فعل البلديات خارج العاصمة، بالإضافة إلى “سوق الجمعة”، مدى التشكّك في نيّات حكومة الوحدة الوطنية، وتراجع أهليتها لضمان المصالح الليبية ووحدة الدولة. وتضمَّنَ جانبٌ من بيانات البلديات نقض صلاحية حكومة الوحدة الوطنية لإدارة الأزمة السياسية، ويعكس اجتماع ممثّلي ثماني بلديات في المنطقة الغربية في نالوت (18 مايو)، درجةً من الحياد، فكما أدان العملية العسكرية ضدّ جهاز دعم الاستقرار، فإنه أولى أهميةً لإنهاء الصراع المسلّح واحترام إرادة الشعب والمصالحة، وأناط المجلس الرئاسي بإنهاء الأجهزة كافّة والتحضير لإجراء الانتخابات خلال مدة ستّة شهور. وعلى خلاف محاولة الاعتدال، يعكس ظهور بعض المجالس العسكرية للمدن الغربية الرغبةَ في الحماية الذاتية لتجنب آثار الهيمنة الآتية من العاصمة، إذ نقض بيان مجلس كاباو (19 مايو) اعتمادَ الحكومة الحسمَ المسلّح انعكاساً للتعامل مع الوطن غنيمةَ حرب، وهو سياق ينقل العلاقة مع العاصمة من التشكّك إلى الرفض.

وبغضّ النظر عن تقليدية هذه المقترحات، لا يحمل الاحتجاج ضدّ حكومة طرابلس تغيّراً ملموساً، فلا ينضوي تحت قيادات ظاهرة، يمكنها تأطير توجهاته المستقبلية، ويمكن تصنيف مظاهرات طرابلس نوعاً من الاحتجاج الانفعالي لا يُرجّح تحوله عاملاً مؤثّراً في التغيير السياسي. وعموماً، تكشف التحرّكات حالة الانقسام السياسي الاجتماعي في تحرّكات المؤيّدين والمعارضين. وبينما انشغل الإسلاميون بتثبيت حكومة الوحدة الوطنية والبحث عن دور مستقل، تابعت تنسيقية الأحزاب محاولات تطوير الاحتجاج حراكاً سياسياً، يتطلّع إلى بناء أجندة سياسية، تدور حور تغيير إسقاط حكومة “الأمر الواقع” في طرابلس، لتسبّبها في تعطيل المسار السياسي. وهنا، تسعى تحالفات الأحزاب إلى تشكيل قاطرة الاحتجاج والاعتصام على مستوى غربي ليبيا، مستندةً إلى اتّساع ساحة المعارضة في البلديات والاحتجاج الاجتماعي.

وباستثناء حديث مصر وتركيا عن اتفاق الليبيين لتشكيل حكومة موحّدة، فإنه رغم شواهد حدّة الأزمة وتصاعد التحدّيات الأمنية، بقي دور العوامل الخارجية في نطاق المراقبة، واكتفت الدول بمستوى اتصال عبر السفراء، بالإضافة إلى إصدار بيانات تدعو للتهدئة وتثبيت الهدنة والخروج من الانسداد السياسي. في هذا السياق، عكست لقاءات المجلس الرئاسي مع سفيرَي بريطانيا وإيطاليا، وأيضاً لقاء عدد من السفراء الأوربيين مع رئيس الحكومة، انخفاض اهتمام الغرب بتداعيات الأزمة. وقد انعكست هذه الروح، أيضاً، في التعامل الدولي، فكما اكتفى بيان مجلس الأمن بوقف الحرب واستئناف المصالحة، أعاد تقرير اللجنة الاستشارية الأزمة الليبية لنقطة البداية، إذ دعا إلى بدء مشاورات قاعدية على مستوى المدن والمنظّمات، تضع أساس المفاضلة ما بين انعقاد الانتخابات أو الاستفتاء على الدستور. لم يطرح أيّ من المستويَين فكرةً ابتكارية، بل ظلّا يدوران تحت سقف العشوائية والانتقائية في استكشاف آراء الليبيين.

لم يستثمر الليبيون الأحداث الجارية في تجاوز تعقيدات السياسة، والبحث عن إطار للخروج من فوضى الصراع

على أيّ حال، فإنه على مدى أزمة ليبيا ما بعد معمّر القذّافي، يُعدّ التعامل الدولي الحالي الأكثر زُهداً في الاهتمام بمجريات الأحداث الليبية. فهذه المرّة، توقّفت الدول عند تقديم النصيحة، ما يمكن اعتباره مؤشّراً إلى تراجع الثقة في قدرة الحلفاء الليبيين على السيطرة أو احترام التزاماتهم. وفي ظلّ استمرار تفاعلات الأزمة، توضح النتائج الحالية جانباً من تضارب مصالح عسكريّي غرب ليبيا، إذ بدت مُقسمةً ومتحالفةً مع التقاليد والثقافة القتالية، تَعكِسُ غياب الحوكمة في تعيين الضبّاط أو تكوين هياكل الوحدات، ليظلّ اعتماد الحكومة على دمج كتائب المسلّحين واستيراد الدعم من مصراتة سبباً لتكوين بيئة انعزالية مُعاكسة للتكامل الوظيفي، تفتقر فيها الحكومة إلى ثقة المدن الغربيّة الأخرى وبعض البلديات داخل العاصمة. وهنا، يُطيح تغلغل قادة كتائب المسلّحين في الجيش التقليدي باحتمالية بناء مؤسّسة هيكلية قابلة للخضوع للمساءلة والانضباط، ما يشكّل عامل استنفار دائم للجهوية والمحلّية. وهنا، تعكس إجراءات وقف طلاق النار جانباً من تآكل المؤسّسية لحساب الولاء للمدن والمكوّنات حديثة العهد بالتراتبية العسكرية.

على الرغم من تكرار أزمات السلطة، لم يستطع الليبيون استثمار الأحداث الجارية في تجاوز تعقيدات المسار السياسي، بل انخرطوا في حلقة مفرغة عن تنازع الصلاحيات والإنكار المتبادل، من دون البحث عن إطار للخروج من فوضى الصراع. في هذه المرّة، لا يبدو الصراع على الصلاحيات مؤثّراً في مسار الأزمة، فرغم مؤشّرات انحسار مكانة حكومة الوحدة، يجري النزاع على وراثتها، بين “الرئاسي” و”النواب”، تحت تهافت تأثير الفواعل المحلّية، ونقص قدرتها على تسيير النتائج أو إدارة المرحلة التالية لها، وخصوصاً مع تتناثر القوى الليبية وضعف مُقترح البعثة الدولية، وغَلبة تطلّعات الصراع في مناخ يسوده ضعف جاهزية المكوّنات الليبية لتكامل الدولة سلمياً، وتزيد فيه الحاجة إلى الدعم الإقليمي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى