الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية

عبد الرحيم خليفة

بدأت الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي في السودان ثم الجزائر، في لحظات تاريخية معقدة، يسيطر عليها الترقب والانتظار لما ستؤول اليه مصائر بلدان الموجة الاولى، التي لم تحسم أو تستقر فيها الأمور لقوى الحراك الشعبي والثوري، والتي ما زالت تشهد صراعا داميا لتحقيق انتقال سياسي ينتشل بلدانها من مستنقعات الاستبداد والفساد، والتخلف والعدمية التاريخية.

ففي لحظة بدء الموجة الثانية، مع نهاية العام المنصرم 2018، كانت ثورات الموجة الاولى تعاني في بعض بلدانها من أزمات ذاتية تعود لطبيعة ظروفها التي انطلقت بها، واتسمت بها، فهي انتفاضات شعبية عفوية، تفجرت دون تخطيط مسبق، وخارج توقعات القوى السياسية والاجتماعية المنظمة مثل ( إضرام  البوعزيزي في تونس النار بنفسه) ما جعل هذه الحركات العفوية دون أطر تنظيمية جامعة للمجاميع الشعبية الثائرة، ودون برامج سياسية تحوز تأييد الجماهير، تتضمن رؤية واضحة لعملية التغيير وآفاقها، حتى أن  بعض هذه الانتفاضات بدأ مطلبيا إصلاحيا ومن ثم إنتقل إلى أقصى المطالب السياسية، أي المطالبة بإسقاط الأنظمة القائمة، التي عبر عنها الهتاف الشهير (الشعب يريد إسقاط النظام).

 أعقبت الموجة الثانية من الربيع العربي الموجة  الاولى بثماني سنوات عجاف تخللتها صراعات دامية بين قوى السلطة التي تستند لمنظومات أمنية وإجتماعية واقتصادية رسختها عقود مديدة من التسلط  المدعوم خارجيا، والقوى المتطلعة للحرية والكرامة الانسانية والعدالة، وهي في معظمها قوى مدنية شبابية تشربت واكتسبت قيم الحياة المعاصرة بفضل العولمة، وتبحث عن فرص تمنحها أملا في مستقبل أفضل .

 من نافل القول إن البلدان العربية كافة كانت وما زالت مهيأة تماما لمثل هذه الانتفاضات والثورات،  وتتوفر فيها كل العوامل والأسباب المباشرة وغير المباشرة لهبوب عواصف التغيير العنيفة، وهو ماكان منتظرا منذ تهاوي أنظمة الحكم الشمولي في المعسكر الشيوعي، فبدت معه خارج الاتجاه التاريخي للتطور العالمي نحو الحريات العامة وقيم حقوق الانسان والتعددية السياسية.

 إن الأزمات التي عانت منها وما تزال قوى الحراك الثوري في موجته الأولى مردها للعوامل الطبيعية التي أشرنا إليها مما جعلها ضعيفة وقابلة للإختراق والإنحراف، تمكنت منها قوى الثورات المضادة فمنيت بالإنكسار والهزيمة، وهنا لابد لنا من الإشارة سريعا لبعض العوامل والأسباب:

أولا _ قوة الثورات المضادة، وتنظيمها، وإمساكها بمفاصل أساسية في الدولة.

ثانيا _ بنية القوى العسكرية والامنية وإنخيازها شبه المطلق لنظم حكمها إضافة لما يعرف بالدولة العميقة.

ثالثا _ شيطنة ثورات الربيع العربي وتشويهها وتصويرها على أنها مؤامرات خارجية على النظم الوطنية تستهدف أمنها وإستقرارها.

رابعا _ تخويف الشعوب من المصائر الخطرة التي تتهددها وتخوين كل مطالب بالإصلاح والتغيير.

خامسا _ الدور التخريبي والانحرافي للإسلاميين من خلال محاولاتها إضفاء صبغة إسلامية لهذه الثورات وطرح خطاب سياسي منفر داخليا ومستفز خارجيا، معاد لقيم الحرية التي ثارت لأجلها الشعوب وعدائي للعالم.

سادسا _  الدعم والإسناد الخارجي الذي حصلت عليه هذه الأنظمة بسبب أهميتها في ” تثبيت ” قواعد الأمن العالمي وأدوارها الوظيفية المركبة على المستويين الاقليمي والدولي، وهو مالم تنتبه له جيدا القوى الاجتماعية التي فجرت الربيع العربي، مما فرض عليها أن تخوض عدة معارك في وقت واحد.

بالرغم من قتامة المشهد في ثورات الربيع العربي في طورها  الأول وإستعمال مآلات بعض الثورات ( السورية خاصة) فزاعة للشعوب الأخرى التي تحاول اللحاق بركب الثورات والتغيير، فان ذلك لم يمنعها أن تتحرك وتخرج إلى شوراع العواصم والمدن مطالبة بالحرية والعدالة والتغيير وهو ماحصل فعلا وسنتطرق له لاحقا بعد أن نسلط الاضواء على أهم النتائج الايجابية التي حققتها ثورات الموجة الأولى :

١_ أسقطت حكاما فاسدين مستبدين طالت سنوات حكمهم وتحكمهم برقاب شعوبهم، وأنشأوا منظمومات فساد خربت المجتمعات من داخلها، ماكان لها أن توفر الحد الأدنى من تطلعات شعوبها.

٢_ أنهت رغبات وطموحات نظم جمهورية بالتحول إلى نظم وراثية ( اليمن _ مصر _ ليبيا) بعد سابقة نجاحها في سورية، رغم أن معظمها نظم عائلية للابن والزوجة والشقيق أدورا أسياسية في هياكلها.

٣_ هددت نظما آخرى بالسقوط فحركتها لإجراء بعض الاصلاحات الشكلية التي أخرت لحاقها بموكب شقيقاتها الآخريات ( المغرب _ الأردن _ السعودية).

٤_ أعادت الشعوب للشارع، وأعادت السياسة للمجتمع بعد عقود من الركون والخضوع بفضل منظومات القمع والتجويع، ونشر ثقافة الخوف السائدة.

٥_ أعلت من قيم الحرية وحقوق الإنسان، ونسفت الإيدلوجيات والأفكار التي سادت نصف القرن الماضي، مما أتاح فضاءات رحيبة للحرية، ورفعت سقف المسموح به في كافة بلدان المنطقة، والتي ستعطي نتائجها في مختلف المجالات بمرور الزمن.

٦_ سلطت الأضواء على بنية النظم والمجتمعات العربية، وفتحت حوارات عميقة حول قضايا التراث والحداثة، الدين والعلم، وأعادت مناقشة مفاهيم ومسلمات راسخة في الفكر والعقل العربي .

 

إطلالة سريعة على حال وواقع بلدان الموجة الأولى :

الحالة السورية :

بالرغم من كل مايمكن أن يقال عن تعقيدات الوضع الحالي في ظل الصراع الدولي والإقليمي فان إرادة التغيير عند السوريين لم تتراجع، والمراقب لمسار التطورات يلحظ بسهولة إصرار وثبات القطاع الأكبر منهم على التمسك بأهداف الثورة البكر، ومطالبها المشروعة، ورغم كل التراجعات والاخفاقات الحاصلة، فان نظام الأسد وحلفاءه فشلوا في فرض أهدافهم وسحق أو إخماد إرادة الثورة والتغيير، وإعادة  عجلة الزمن الى ما قبل 2010، إلا أن شدة الصراع وتدخل أطراف دولية عديدة لصالح النظام الهمجي أبرزت مخاطر التقسيم بقوة مهددة وحدة الكيان السوري، كما تعرضت الهوية الوطنية العربية السورية لمخاطر شتى، نتيجة إنبعاث الهويات القاتلة مادون الوطنية، وهو ما يستلزم وحدة قوى الثورة المؤمنة بسورية موحدة ديمقراطية تعددية، تحفظ حقوق الأقليات وهوياتها الخاصة التي تغني الهوية العربية الجامعة، والثقافة العامة للمجتمع السوري.

ولا شك أن الاكثرية السورية ما زالت تتمسك بوحدة سورية، والحفاظ على هويتها، كهدف لايقل أهمية عن إسقاط النظام الشمولي الوحشي. ولكن لا بد أن نقر أيضا بأن مصير سورية وشعبها وثورتها أصبحا مرتبطين إلى حد كبير بمصير المنطقة كلها لضراوة المعركة التي تستهدفها من الدول الأجنبية.

الحالة اليمنية :

إن الصراع الدامي منذ ثماني سنوات في اليمن تطور من صراع داخلي الى صراع اقليمي، وتجاوز مطلب الديمقراطية في مواجهة الإستبداد، وأصبح صراعا على مصير ووجود وهوية اليمن ووحدته، كنتيجة للصراع المفتوح في المنطقة برمتها، بين العرب والفرس الساعين للسيطرة على المنطقة، ويتخذ من الحوثيين أداة لتحقيق أطماعهم التوسعية.

  ولابد من الإشارة هنا لدور “التحالف العربي” المدرك لطبيعة الصراع، وأهميته لزاوية الأمن القومي الخليجي والعربي، والذي يقاتل بشراسة وضراوة لتقويض ذلك المشروع المعادي.

الحالة الليبية:

منذ اللحظة الأولى لانطلاق الانتفاضة الليبية برز الدور الخارجي كعامل حاسم في إسقاط نظام القذافي، وخاصة تدخل الدول الغربية الطامعة في ثروات ليبيا الهائلة، وما زال هذا التدخل مستمرا حتى الآن بأشكال وأدوات مختلفة، لأهداف بعيدة المدى، ربما تذهب الى تقسيم وتفتيت ليبيا، وتتنازع الأطراف المتصارعة هويات وولاءات واتجاهات متعددة، تعكس مشاريع خارجية، بدون اكتراث بإحلال الديمقراطية، أو تنميتها.

الحالة المصرية :

تمكن نظام السيسي من إجهاض ثورة يناير، والالتفاف على الهبة العارمة للشعب في 30 يونيو، فأوقع مصر في حالة من الإستنقاع السياسي التي لاسابق لها، تعبر عن ذلك ظواهر من تهافت النخبة السياسية والفكرية بشكل مقزز ومهين، وشلل تام في الحياة السياسية التي لم تعرفها مصر في أسوأ عهود الإستبداد التي مرت بها.

 كان لأخطاء الرئيس محمد مرسي ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين، أو ماعرف بحكم المرشد، الأثر الأكبر في حالتي التذمر والسخط الشعبيين، ناهيكم عن مخاوف مشروعة من دول الجوار العربي، بسبب تبدلات السياسة الخارجية المصرية التي وضح أنها تحدث “إنقلابا” في دور مصر، يعكس قصورا استراتيجيا في كفاءة  وأهلية قيادتها لمجابهة التحديات الخارجية الطارئة.

مما يؤسف له في الحالة المصرية هو موقف القوى العروبية والقومية التي إنحازت لنظام السيسي وروجت له، إضافة لمواقفها الإنتقائية والسلبية من ثورات الربيع العربي، وبخاصة منها الموقف من الثورة السورية.

مصر عبقرية الزمان والمكان تهدأ وتضعف ثم تعود فجأة للثورة كما قال الراحل الكبير جمال حمدان.

الحالة التونسية:

يحسب لقوى الثورة في تونس تحاشي الانزلاق للعنف الذي إنزلقت فيه بلدان الربيع العربي، ويحسب لها نجاحها في ترسيخ قيم الثورة ومبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية، وتبادل السلطة سلميا، وتكريس قيم المدنية والحداثة، وهو مانجحت فيه إلى حد كبير.

هذه النجاحات النسبية المهمة للثورة التونسية في تحقيق إنتقال سلس وسريع بالقياس لثورات الربيع العربي الآخرى كان لها أثر ايجابي كبير في إبقاء الصراع الداخلي “مضبوطا” إضافة لحيادية الدول الكبرى وعدم تدخلها المباشر، بحكم موقع تونس الجغرافي بعيدا عن بؤر الصراع والتوتر في المنطقة.

مايجب التذكير به وكان له أثره ودوره الكبيران هو أن تونس قطعت أشواطا متقدمة في تنمية وتعزيز دور المجتمع المدني من خلال قواه الحية والفاعلة، وتحييد القوى العسكرية إلى حد كبير، وذلك كله منذ عهد بورقيبة.

لقد تجاوزت تونس إحتمالات النكوص والعودة للوراء، ومخاطر الثورة المضادة، وينتظر منها، ومن نخبها في المرحلة القادمة تحقيق مزيد من الإستقرار والإزدهار الذي يعطي آمالا كبيرة للشعوب المتطلعة للحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون.

 

 الربيع العربي في موجته الثانية .

يتضح لنا بشكل جلي أن الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، في السودان والجزائر، كانت أسبابهما الأساسية هي ذاتها الأسباب التي حركت بلدان وشعوب الموجة الاولى، وهي أسباب تراكمية قاهرة، لا ينفع معها إلا الكي كآخر علاج ممكن، وسنتوقف هنا عند بعض النتائج والخلاصات التي كشفتها الموجة الثانية، أو الحالية من ثورات الربيع العربي:

١_ فشل حملات التشويه والشيطنة لثورات الموجة الأولى رغم كل ما واجهتهه من عنف ودمار وتشريد وتهجير وإعتقال ونكوص، فلم تستسلم الشعوب لأقدارها، بل إنتفضت وثارت بقوة وجبروت.

٢_  عناصر وحلقات الإتصال والتأثير بين الموجتين واضحة، فالموجة الثانية بدأت من السودان بعد زيارة المخلوع البشير للطاغية بشار الأسد، الذي حاول فك عزلته، فكانت عندها الشرارة التي إنطلقت منها ثورة السودان، وتزامنا مع الذكرى الثامنة لإنطلاقة الثورة التونسية، كما أن النقاشات حول ترشح بو تفليقة لولاية خامسة في البرلمان الجزائري كانت الحالة السورية حاضرة فيها، وأشارت إليها، في محاولة لتمرير الرجل المريض لولاية خامسة، على وقع إحتجاجات الشارع ورفض بعض القوى السياسية لذلك، ما يؤكد على ترابط هذه الثورات والشعوب في مصيرها وأقدارها وتغذية واحدة للأخرى، كحبل السرة بين الأم وجنينها.

٣_ لقد إستفادات الموجة الثانية من أخطاء الاولى وعثراتها لجهة خطابها ووحدة صفوفها وتنظيمها الدقيق ، فعملت على تلافيها بوعي وإرادة صلبتين.

٤_ إستمرارية المسار التاريخي للتغيير كحتمية، لا يمكن تحديها، فهي إستحقاقات لمواجهة تحديات الواقع والمتغيرات العالمية.

٥_ اليقين بأن هناك بلدانا أخرى سيطالها التغيير وستصل إليها عواصف الثورات مهما بدا عليها من سكون وإستقرار أو أجلتها الإصلاحات الزائفة التي أقدمت عليها بعض النظم العربية لتتحاشى مصير أقرانها من النظم المخلوعة.

مقاربة للثورة السودانية :

في 17 أغسطس الماضي، تاريخ توقيع الإتفاق النهائي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير طوى السودان حقبة مظلمة من تاريخه إمتدت أكثر من نصف قرن، غارقة في الإستبداد والفساد، باستثناء سنوات قليلة شهدت حكما مدنيا  ديمقراطيا هشا، كانت الحقبة الأخيرة فيها الأشد سوءا، إمتدت ثلاثة عقود هي عمر حكم نظام عمر البشير الأخواني الذي زعم أنه يحكم بما أنزل الله، فطبق (الشريعة) حسب فهمه القاصر، فأنهك العباد فقرا وقمعا وفسادا، وقدم نموذجا مخيفا للاسلام السياسي ومشاريعه في حال تمكنه من الوصول للسلطة في كل مكان، والتي هي غايته وبأي ثمن كان، وثبت أنه نظام أكثر استبدادا من نظام القذافي أو علي صالح أو زين العابدين بن علي !!

توقيع الإتفاق التاريخي الذي توصل له ممثلو المؤسسة العسكرية وقوى الحرية والتغيير برعاية الاتحاد الأفريقي وتدخل ايجابي من الدول الغربية والعربية وبعض الدول الاقليمية، وضغطت لإنجاز الاتفاق السياسي والاعلان الدستوري لادارة المرحلة الإنتقالية طوال 39 شهرا يتشكل فيها مجلس حكم مشترك مدني_ عسكري ل6+ 5 لصالح المدنيين وفيه تمثيل للنساء بسيدتين من أصل 11.

هذا الاتفاق يمثل إنتصارا ناجزا للشعب السوداني الذي أعطى دروسا عن تجربته الفريدة والمميزة في تاريخ الثورات. وقد نص الإعلان الدستوري على “ديمقراطية” الدولة وحكم القانون وتحقيق المحاسبة والعدالة الإنتقالية على مرحلة حكم المخلوع عمر البشير فقط، كما تضمن الإتفاق تفاصيل آخرى تنقل السودان إلى حكم شرعي مدني، السيادة فيه للشعب، في ظل دولة القانون والعدالة والمساواة بين الأجناس والأعراق ومختلف مكونات الدولة والمجتمع السودانيين، “الحقوق والواجبات فيه على أساس المواطنة”.

إن الثورة السودانية الآن هي الأفضل والأكمل بين ثورات الربيع العربي، حققت أهدافها العليا بشكل شبه كامل، وتفوقت على شقيقتها التونسية التي أنجزت خطوات مهمة على طريق طموحاتها، ولاتزال تسعى لترسيخ وتجذير مطالبها المشروعة.

من المهم لأي متابع أو باحث أن يقف كثيرا عند القدرة الهائلة التي تمتعت بها قوى الثورة السودانية لجهة التنظيم والإدارة وتنسيق خطواتها التي لم تبدأ بتاريخ نزول القوى الشعبية إلى الشوارع، تظاهرا وإعتصاما، بل سبقتها بسنوات عدة (2013)، من خلال قوى المجتمع المدني التي قدمت نموذجا فريدا في تقديم الخدمات للأوساط الشعبية، والتكافل مع المحتاجين، والإنغماس بهموم الطبقات الفقيرة، وتوفير إحتياجاتهم المعاشية، وعملت على تعليمهم وتثقيفهم وتوعيتهم، وبعد إنطلاق الثورة حمت صفوفهم من الإختراق الأمني لأجهزة نظام البشير وزبانيته، ووفرت لهم نظم حماية أمنية قطعت الطريق على المتسللين والمخربين الذين حاولوا حرف الثورة، بجرها للعنف والدم والعنف المضاد، مستفيدين من تجارب ثورات الشعوب العربية بدقة وتناسق وإلتزام،  مضافا إليه وعي وطني تمتعت به النخبة السودانية، من خارج القوى التقليدية، التي قادت الشارع بحكمة وروية، وتماسك في الخطاب الوطني، قل نظيره بين ثورات الربيع العربي، وأثارت إعجاب العالم وإحترامه، وكان للمرأة، في كل ذلك، دورا متميزا .

إن التجربة السودانية تستحق ما هو أكثر من الإحترام، وتوجب الوقوف عندها والإستفادة من دروسها، وهي ولاشك ستواجه تحديات داخلية وخارجية تتعلق أولا بتوفير الأمن والغذاء، وتحسين المستوى المعاشي والإقتصادي لبلد غني بثرواته دخل مواطنيه محدود يصل إلى معدلات عالية من الفقر والعوز والحاجة، مرورا بطي ملفات الحروب المشتعلة في عدد من مناطقه وخارجة عن سلطة النظام المركزي في الخرطوم والتي أنهكت المجتمع السوداني، على خلفية مطالب عرقية وسياسية فشلت النظم السابقة في معالجتها، بل كرستها بفشلها العام في إدارة ملفات الدولة والحكم، وإنتهاءا بملفات إعادة بناء الدولة على أسس عصرية وحداثية تقطع مع الماضي المرير الذي عاشه السودان بين فساد السلطة وتخلف الدولة وحكم العسكر، وحل بعض المشاكل مع جوار تمتد إليه أيادي أعداء المنطقة وتعبث به.

لقد إنطلق ربيع السودان لطيفا جميلا ولكنه يبشر بشروق شمس ساطعة تعد بحصاد وفير لأرض عرفت بخصبوتها وطيبة سكانها.

المشهد الجزائري:

بالرغم من أن الثورة الجزائرية حققت هدفا كبيرا بالاطاحة بشخص بوتفليقة الذي كانت عصابات النهب والتبعية تقف وراءه وتسانده وترغب بتسويقه لولاية خامسة تبقي الجزائر في ديمومة الفساد والإستبداد، فانها لاتزال تواجه مخاطر الإجهاض والدخول في دوامة العنف وذلك مرده لسطوة العسكر المتحكمين بمفاصل السلطة والدولة، مايذكر بحقبة الثمانيات الدامية.

تعيش اليوم الجزائر حالة من التمترس بين طرفين، أولهما الجيش وثانيهما قوى المجتمع التي فجرت الثورة، فالأول يريد إختزال مطالب الثورة باجراء إنتخابات رئاسية تبقي العسكر حكاما فعليين وحقيقين للبلاد والثاني يريد تغييرا جذريا في بنية الدولة والسلطة من خلال تشريعات دستورية وقوانين عصرية تنقل البلاد إلى نظام ديمقراطي حقيقي.

 رغم مرور سبعة أشهر على الثورة الجزائرية لاتزال السلطة العسكرية تناور وتحاول الإلتفاف على مطالب الحراك الشعبي وتقديم ” رشى” له مرة باعتقال رؤوس كبيرة وتقديمها للمحاكم بجرائم الفساد الموصوفة، هي في حقيقتها تصفية حسابات بين أجنحة السلطة ورموزها، ومرة بالظهور بالمظهر الوطني بادعاء محاولة الإنقلاب عليها بدعم خارجي ( أميركي_ فرنسي)، ومرة بالبحث عن مخارج وطنية للأزمة تستجيب لمطالب الحراك الثوري من خلال تشكيل هيئة حوار وطني دون أجندة واضحة وتعهدات مسبقة بعملية سياسية نزيهة ومتكاملة.

في ظل ذلك كله لايزال الشعب الجزائري متمسكا بموقفه ولايزال الشارع ميدانه الأساس يتظاهر اسبوعيا، كل جمعة، بشكل حضاري ومنظم، تقودها وتحركها منظمات المجتمع المدني وقواه وتشترك بها كافة الفئات الإجتماعية، كما أن  صالونات السياسة وغرفها تشهد حوارات وتجاذبات، من غير الواضح إلى أين ستفضي، بالنظر إلى فساد وتقليدية جزء كبير منها.

لقد أقسم الشعب الجزائري على أن تحيا الجزائر ما يؤكد على أن الثورة والشعب الجزائري على مفترق طرق ستكشف الأيام والأسابيع القادمة أيهما سيسلك ويتخذه مسارا لنفسه.

بعد هذا الاستعراض عن حال دول وشعوب الموجتين الاولى والثانية يبقى من المهم الإشارة لبعض الحقائق التي أظهرتها كلتا الموجتين:

١_ أن الاستقلالات الوطنية كانت هشة وزائفة في ظل نظم الوكالة والحماية الخارجية.

٢_ تأكيد الثورات على تمسكها بالهويات الوطنية والدفاع عنها ورفضها للمساس بها أو تغييرها.

٣_ أن استمرارية الاتجاه التاريخي في التغيير سيغير من ثقافات الشعوب والإيدلوجيات والأفكار وطرق التفكير التي ثبت أنها سبب في العطب التاريخي.

٤_ أن الشعوب لم تعد تقبل بالوصاية والهيمنة والإحتلالات وأنها جادة وساعية للاستقلال والتجدد الحضاري وأخذ مكانتها بين أمم الأرض وشعوبها.

٥_ أن إنجاز الثورات لأهدافها هي العلاج لمشاكلها الوطنية والخلاص من عصبياتها الطائفية والمذهبية ورتق لنسيجها الإجتماعي المهتك والذي يهدد كياناتها.

أخيرا الرهان كل الرهان على العملية التاريخية التي ستزيل كل هذا العفن وتفضي إلى تغيرات جذرية وحقيقية تنتشلنا من العدمية التاريخية، ما يجعلنا نقول بكل ثقة وإيمان أن ثورات آخرى ستعصف ببلداننا عاجلا أو أجلا ستكون حتما أكثر نضجا. وقد تأخذ هذه العملية التاريخية حقبا قادمة قبل أن يكتب لها النصر النهائي وفي كل ذلك نتطلع إلى الثورة السورية التي هي الأصعب والأعقد ومفتاح التغيير الشامل في المنطقة.

مواقف القوى العروبية من ثورات الربيع العربي:

شاب مواقف غالبية القوى والتجمعات والشخصيات القومية من ثورات الربيع العربي الكثير من اللغط وسوء الفهم، إن لم نقل الشك والريبة، ففي حين كانت مواقف معظمها إيجابية ومتقدمة من ثورات بلدانها “القطرية”، وخصوصا في مراحلها الأولى، التي كان طابعها العام سلمي مدني، وبرزت مواقفها بشكل متميز ولافت، فانه مع تطور الأحداث وتلاحقها إتسمت، بالعموم، بالتراجع والازدواجية وحتى بالغباء السياسي المفرط.

فالقوى المصرية التي كانت سباقة في ريادة ميدان التحرير وكان لها حضور شعبي كثيف فيما تلا ذلك خلال المرحلة الانتقالية وحتى عهد الرئيس محمد مرسي، وقفت متخاذلة من نظام السيسي خصوصا في بدايات عهده، وبعضها ذهب في التنظير له وإستحضار شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في مقابله، وإجراء مقارنات سطحية وميكانيكية، وهذه القوى ذاتها وقفت ضد الثورة السورية، إن لم نشأ القول إنها دعمت نظام الأسد الاجرامي، مسقطة موقفها من جماعة الأخوان المسلمين في مصر على التجربة السورية، التي مع العسكرة تأسلمت وتطيفت، فاختلط لديها الحابل بالنابل، إضافة لوقوعها بحبال خديعة كذبة “المقاومة والممانعة” التي يتبناها ويروج لها النظام المذكور، وهي مسألة ظلت على الدوام محل نقاش عقيم مع هذه القوى منذ ما قبل الربيع العربي في نهايات 2010، وهو ماكشف هزال هذه القوى ومنطقها وتحليلها وفهمها العام لطبيعة هذه الدول ونظمها رغم إجادتها في تحليل طبيعة النظام العربي كله ونضالها (القومي) ضده.

الامر ذاته ينسحب إلى حد كبير على القوى التونسية واليمنية، إضافة إلى ريبة معظمها بالثورة الليبية التي أتت محمولة على التدخل الخارجي المرفوض، وفق المنطق القومي، ومن خلال تجارب مريرة أبرزها ماحصل في غزو العراق عام 2003.

المشكلة الكبرى في فهم مواقف القوى القومية المضللة والمضللة تكمن في عدم تنبهها لخطورة المشروع الإيراني_ الفارسي وإعطائه الأولوية في نضالها لمواجهته بكل السبل المتاحة والممكنة، وهي من تحمل لواء مشروع النهضة العربية القائم في أحد أبعاده على الإستقلالية ومقاومة مشاريع الهيمنة والسيطرة على منطقتنا التي تعاني فراغا كببرا، بغياب دور دول كبرى كمصر والعراق.

إن هذه المواقف القاصرة عن فهم الأولويات وتحديد جبهات النضال العربي إضافة لضمور وعيها  السياسي هي التي وضعتها تارة في مواقف العداء لدول عربية تناهض بقوة المشروع الإيراني، وتارة تعيد إجترار مواقف الماضي وتتمترس عند تصنيفات الأعداء والأصدقاء لمراحل مضت لها سياقاتها المختلفة ومعاييرها المغايرة.

ثمة ماهو غائب، للحقيقة والأمانة، في رصد مواقف القوى القومية وتحليلها وقفت خلفه قوى معادية للقوى العروبية والقومية نتيجة مواقف إيديولوجية متحكمة بها، ووقوعها تحت تأثير تجارب الماضي، وهو أن هذه القوى ( العروبية والقومية) ليست بمعظمها على ذات الموقف والخطاب، فبعضها الكثير ما زال على جادة الصواب واضحا ومناضلا ومناصرا نضالات الشعوب المتطلعة للحرية والخلاص من الإستبداد والفساد، ولعل (هذا الملتقى) هو تعبير عن ذلك، إضافة ل(مؤتمر الشعب العربي) الذي تأسس في نهاية 2017 ردا على تلك القوى ومواقفها، إضافة لما يمكن رصده هنا وهناك من مواقف لا يمكن لأحد التشكيك بها، أو إثارة أي سؤال حول صدقيتها.

إن بعض القوى المتجنية والمعادية للتيارات العروبية تطمس عن عمد نضالات ومواقف قوى عروبية مشرفة كانت على الدوام متقدمة في تحليلها لبنية نظمها الشمولية والإستبداية ونضالها في طليعة القوى والتيارات السياسية التي ناهضت نظمها وعملت على تغييرها، وبذلك دفعت أكلافًا باهظة لا تقل عن القوى والتيارات السياسية الآخرى، وذلك في مصر وسورية واليمن والسودان، ما يقتضي عند تناولها الكثير من الموضوعية والمعرفة. وللتذكير فان القوى العروبية الصادقة والملتزمة هي أول من خاصم هؤلاء ووقف ضدهم واشتبك معهم لما تمثله مواقفهم من خيانة لتاريخهم ونضالهم أولا وأخيرا وهم القائلين الحرية أولا وتاليا وأخيرا.

المفارقة الكبرى في مواقف القوى القومية ليس من نظم بلدانها المهترئة، أي من دوائر حركتها وفعلها (القطرية) بل من النظم الأخرى التي تتشابه وتتطابق مع نظم بلدانها في البنية والسياسات، والتي تصدر خطابا قوميا مزيفا ومستهلكا.

السؤال الكبير هو كيف لقوى قومية ترفع شعارات الحرية والكرامة الإنسانية وتدافع عن حقوق الإنسان وقيمها أن تقع في فخاخ وشراك أنظمة الاستبداد والطغيان.؟!

على العموم فإننا بقدر إدانتنا لمواقف هؤلاء وضيق أفقهم نحيي بشجاعة مواقف الآخرين، ونترحم على شهدائهم معاهدين على استئناف واستكمال مشروع النهضة العربية والحداثة والديمقراطية حتى النهاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى