من بلدٍ ينوء تحت المرتزقة على اختلاف جنسياتها والجهات المشغّلة لها، إلى بلد تشير إليه التقارير كمصدّرٍ حديث للمرتزقة، تحوّلت سورية في ظل حكم رأس النظام بشار الأسد ومن ورائه الروس، وفي ظلّ نفوذ المعارضة السياسية ممثّلة بالحكومة المؤقّتة ومن ورائها الأتراك، أمّا الساحة فهي ليبيا التي باتت قضيّتها هي الأخرى من ضمن البنود التي يعلن عنها الجانبان التركي والروسي بعد كل اتّفاق محوره سوريا التي تتهاوى فقرا وجهلا وبؤساً يزداد رسوخاً مع انعدام أي بارقة للحل السياسي رغم مرور 10 سنوات على الحرب.
وبينما تأخذ عدسات الصحفيين صوراً ولقطات مرّة لـ “بوظة” أردوغان في موسكو، وأخرى لـ”تين” بوتين في أنقرة، ومرّات لاحتفاء الجانبين بمشاريعها الاقتصادية، تظهر لقطات أخرى نزاع الجانبين في بلدين عربيين يعتبر كل منهما نفسه وصيّاً عليهما، مع فارق كبير في التموضع، ففي سوريا تدعم روسيا نظام بشار الأسد معتبرة أنّه النظام الشرعي للبلاد، بينما تدعم تركيا “الحكومة المؤقتة” ومن تحتها “الجيش الوطني السوري” باعتبارها البديل لنظام فقد شرعيته، أمّا في ليبيا فتنعكس الصورة بشكل كلّي، حيث الأتراك يدعمون “حكومة الوفاق” المعترف بها عالميا، والروس يدعمون “الجيش الوطني الليبي” والحكومة الليبية المؤقتة.
الأتراك يسحبون “الوطني” إلى خارج الوطن!
منذ أواخر عام 2019، بدأت تركيا سحب مقاتلين من الفصائل السورية التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة ومقرّها تركيا، لتزجّهم في الحرب الليبية المشتعلة هي الأخرى بين الحكومة و”المؤقتة”، دون الالتفات إلى الجبهات السورية في إدلب وحلب التي كانت تطالب “الوطني السوري” بالتدخّل ضدّ الروس والنظام الذين كانا يطيحان بالمنطقة.
مصدرٌ خاص أوضح لـ بروكار برس أن الأسبوع الجاري شهد تحرّكات ضمن قطّاعات “الوطني” في مناطق “درع الفرات وغصن الزيتون” اللتين تديرهما تركيا، أمّا طبيعة تلك التحرّكات فكانت نشاطات لاستقطاب دفعات جديدة من المقاتلين والدفع بها إلى ليبيا.
وأشار مصدرنا إلى أنّ العملية تتم عبر تسجيل مقاتلين أسماءهم في قوائم ترفع إلى قادة “الوطني” ومنهم إلى المخابرات التركية للموافقة وتنظيم عملية نقل المقاتلين إلى ليبيا وتحديد الفترة الزمنية.
ومؤخّراً، سجّلت “الشرطة المدنية” في منطقة الباب بريف حلب (درع الفرات) لعدد من أفرادها في القوائم لنقلهم إلى ليبيا، حيث أن مهمّتهم هناك هي حماية القواعد التركية في ليبيا، بحسب المصدر.
الولاء
وأوضح مصدرنا الذي رفض الكشف عن اسمه لضرورات أمنية، أنّ تركيا تعتمد بالدرجة الأولى على مقاتلي الفصائل التالية لسحبهم إلى ليبيا: “السلطان مراد، المعتصم، الحمزات، العمشات”. وزاد بأنّ اعتماد تركيا على هذه الفصائل نابع من ولاء قادتها المطلق لهم.
وعن سبب الولاء المطلق للأتراك، كشف مصدرنا أنّ أحد قادة “الوطني” اشترى سيارة بمبلغ 300 ألف ليرة تركي، بعد أن كانت حصّته مليون دولار أمريكي من “غنائم عملية نبع السلام”!
ولشدّة ولاء القادة، أوضح مصدرنا أنّ قائد “العمشات” المعروف بـ “أبو عمشة” والذي يركب سيارة سعرها 750 ألف ليرة تركية، يلبي الأتراك بشكل لافت فإن طلبوا منه عنصرا أرسل 10 عناصر.
مقايضة مرعبة
مصدرنا نوّه إلى أنّه في بداية إرسال المرتزقة إلى ليبيا، جمعت تركيا قادة الفصائل “موثوقي الولاء” وأخبرتهم أن كل مجموعة من مقاتلي “الوطني” ترسلونها إلى ليبيا ستكون مقابل صاروخ تاو مضاد دروع يستخدم في معارك إدلب.
ومعلوم أن تركيا وروسيا ضمّتا اسم ليبيا إلى الاتفاقيات المبرمة بينهما بشأن إدلب، فلم تعد الاتصالات الهاتفية التي تباحث فيها الجانبان حكرا على الوضع في إدلب، بل شمل ليبيا أيضاً.
أسباب تأجير البندقية
أجرى معدّ التقرير في بروكار برس اتصالات عدّة مع عناصر في “الوطني السوري” للوقوف على أسباب انزلاق نظرائهم ممن ذهبوا إلى ليبيا، فكانت الإجابة واحدة لدى أكثر من مصدر، فجميعهم أرجعوا السبب إلى الجوع والفقر.
أحد العناصر أوضح أن “الهبة” التي يحصل عليها من تركيا قدرها 550 ليرة تركية، أي أقل من 100$ أمريكي، وأحيانا يمر شهران دون “هبات”، كما حصل في شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير الماضيين.
وزاد، بأنّ أبناء الثورة السورية يعتبرونهم مرتزقة هنا في سوريا لأن “زناد البندقية مرهون بأمر الأتراك”، لكنّ الارتزاق في سوريا دون مقابل مادي مغري، وعليه فإنّ الارتزاق خارج الحدود مغرٍ جدّاً (2000$ ).
ومعلوم أنّ تركيا سحبت المقاتلين السوريين من جبهات قتال النظام عام 2016 لقتال “داعش” في عمليتها المسماة تحت اسم “درع الفرات” وفي عام 2018، و2019 لعملياتها (غصن الزيتون ونبع السلام) ضدّ “وحدات حماية الشعب” في عفرين وشمال شرق سوريا.
وكشف تحقيق أعدّته مجلة investigativejournal، الاستقصائية في وقت سابق عن كيفية خداع المقاتلين السوريين وتحويلهم إلى مرتزقة، وتتلخّص الأسباب وفقا للتحقيق بما يلي:
ـ تخبر تركيا “المرتزقة” بأنّهم سيقاتلون الروس، حيث نقلت الصحيفة عن أحد المقاتلين السوريين قوله إنّ الاتراك أكّدوا لهم وجود مقاتلين روس في ليبيا، مؤكّدا أنّه لن يؤذي “أي ليبي هنا، لكن إن وجدت أي روسي سأقتله”.
ـ اللعب بورقة الطائفية، حيث قال أحد المقاتلين للصحيفة إنّ “الوطني الليبي” ضدّ المسلمين السنّة، وعندما أخبره الصحفي أنهم سنّة، أجاب “أعني أنه يكره السنة. إنه سني بالاسم فقط”.
ـ الراتب الشهري، وقدره 2000$ أو أكثر ومزايا إضافية مثل الجنسية التركية لأيّ مقاتل يبقى في ليبيا 6 أشهر.
أسرى
نشر “الوطني الليبي” تسجيلات مصوّرة الشهر الماضي لمقاتلين سوريين جنوب العاصمة الليبية طرابلس، وقال “المرتزق” في التسجيل “إنهم أخذوه برفقة مجموعة أخرى من المرتزقة للقتال في إحدى المناطق بسوريا، لكنهم وجدوا أنفسهم في ليبيا”، مضيفاً أنه وصل إلى طرابلس منذ 15 يوما فقط، كما سأله أحد القادة في “الوطني الليبي” عن سبب تخلّيه عن حياته لقاء 2000 دولار.
كما انتشرت تسجيلات مصوّرة أخرى لأسرى بعضهم قالوا إنّهم تابعون لـ “جبهة النصرة” غير أن خبراء شكّكوا في صدقية الرواية، مشيرين إلى أنّها كانت تلقيناً من “الوطني الليبي”.
نفي ثمّ نفي فإقرار
لطالما نفت قيادات “الوطني السوري” قتالها في ليبيا، كذلك فعل الأتراك، وحكومة الوفاق الليبية التي تدعمها تركيا.
ففي كانون الأول/ ديسمبر 2019، نفى الناطق باسم “الجيش الوطني السوري”، الرائد يوسف حمود، مشاركة “أي من مقاتلي الجيش الوطني السوري في معارك أو عمليات في ليبيا”، مشددا أن “مهمة الجيش الوطني هي البقاء في سوريا لمقارعة النظام السوري وروسيا والميليشيات التابعة لهما”، حسبما نقلت عنه وكالة آكي الإيطالية آنذاك.
تلا نفي الوطني بأيام، نفي آخر لحكومة الوفاق الليبية، بعد انتشار تسجيل مصوّر لمقاتلين سوريين في ليبيا، حيث قالت الحكومة إنّه لا وجود لمقاتلين سوريين بمعسكرات تابعة لها في طرابلس أو أي مدينة ليبية أخرى.
وبعد ذلك النفي المتكرّر، استبق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشاركته في مؤتمر برلين لأجل ليبيا، ليعلن وجود مرتزقة سوريين في ليبيا تنقلهم تركيا للقتال إلى جانب “الوفاق”.
وقال أردوغان للصحافيين في إسطنبول مطلع العام الجاري: “تركيا متواجدة هناك عبر قوّة تجري عمليات تدريب وهناك كذلك أشخاص من الجيش الوطني السوري”.
مرتزقة النظام وصلوا ليبيا أيضاً
من أعلى المستويات في النظام السوري، تمّ التنسيق لإرسال مرتزقة سوريين إلى ليبيا لكن للقتال إلى جانب “الوطني الليبي” ضدّ حكومة الوفاق المعترف عليها عالمياً، حسبما ذكرت صحيفة “Le Monde” الفرنسية في تحقيق نشرته الشهر الماضي.
حيث ذكرت الصحيفة أنّ 1500 مقاتل من الوحدات الخاصّة في قوات النظام وصلوا مدينة بنغازي في ليبيا، برعاية مدير مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك.
وسبق ذلك تقارير عدّة أكّدت إرسال النظام بأوامر روسية لمرتزقة سوريين إلى ليبيا، وذكر موقع “جلوباليست” الإيطالي أنّ “المجموعة الروسية غير النظامية (فاغنر) الموالية سرّا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقوم منذ مدة بتعزيز هذا النوع من التعاون مع النظام السوري على الأرض الليبية”، وهو ما أكّدته الوكالة الرسمية الإيطالية (آنسا).
وقال الصحفي الإيطالي لورينتزو ترومبيتا في آذار/ مارس الماضي، إن موسكو والنظام فعّلا حالة النفير في مناطق سيطرتهما بسوريا لاستقطاب المرتزقة وتجنيدهم للقتال في ليبيا.
وعن آلية تجنيد المرتزقة، قال الصحفي الإيطالي: “”تؤكد مصادرنا في المدن السورية قيام الشرطة العسكرية الروسية بافتتاح مراكز تجنيد فيها منذ نهاية شهر كانون الثاني/ يناير 2020، بدعم من المؤسسات الإدارية التابعة للحكومة السورية”، حسبما نقل موقع الجزيرة. نت.
رواتب كبيرة
ووفقاً للصحفي الإيطالي فإنّ كلّ مرتزقٍ تجنّده روسيا وترسله باسم النظام إلى ليبيا يحصل شهريا على 1000$ أمريكي، حيث تذهب 200$ إلى جيب المرتزق، و800 تحوّل إلى ذويه في سوريا.
ولفت الصحفي إلى أنّه: “في ظل الظروف الاقتصادية الوخيمة الحادّة وارتفاع الأسعار الناجم عن انخفاض حاد أيضا في سعر صرف الليرة المحلية، فإن مثل هذا المبلغ يُعتبر ثروة بالنسبة للمواطن السوري ولا سيما أن راتب الجندي السوري برتبة متوسطة لا يتجاوز الخمسين دولارا شهريا”.
وفي شباط/ فبراير الماضي، كشف موقع سوري محلّي عن ضلوع حزب سياسي مرخّص لدى النظام بالعمل على تجنيد المرتزقة من السويداء وزجّهم للقتال في ليبيا مقابل مبالغ مالية يحدّدها طبيعة مشاركة المرتزق.
وأكّد موقع السويداء 24، أنّ تجنيد المرتزقة يتم عبر “حزب الشباب السوري الوطني” الذي أسّس ميليشيا مقاتلة إلى جانب النظام في سوريا، مشيرا إلى أنّ التجنيد يتم بدعم شركة أمنية روسية هي “فاغنر”.
ووفقا لتسجيلات ووثائق حصل عليها الموقع فإنّ راتب المرتزق 1000 $ أمريكي شهرياً إن كان مقاتلاً، و800$ إذا كان ارتزاقه لحراسة المنشآت في ليبيا.
أرقام وإحصاءات
يكتنف الغموض ملف المرتزقة في ليبيا، إلّا أن ثمّة جهات غير رسمية وثّقت أرقاماً، فوفقاً لآخر إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان المهتم بوثيق إرسال المرتزقة من جانب تركيا فقط، بلغ عدد المرتزقة من “الوطني السوري” خمسة آلاف وخمسين مرتزقاً، في حين قتل منهم 182 مقاتلاً.
أمّا من جانب الروس والنظام، فتحدّثت الصحافة الأجنبية عن 1500 مرتزق سوري وصلوا ليبيا، بينما لم يتم الإعلان عن وجود قتلى، سيّما أن التحقق في مناطق سيطرة النظام أصعب من التحقق في مناطق المعارضة، بحكم تشديد القبضة الأمنية.
منذ بدء الثورة السورية عام 2011، والمرتزقة يتوافدون للقتال في سوريا، حيث دعمت روسيا النظام بـ “طبّاخ بوتين” وهو رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوزين، الذي تشير تحقيقات صحفية غربية إلى علاقته بميليشيا “فاغنر الروسية” التي تقاتل في سوريا، بينما عبرت طرقات تركيا المظلمة أرتال من الغرباء من مختلف دول العالم ليتسلّلوا إلى سوريا وينشئوا دولة أو إمارة إسلامية.
لكن، ومع دخول ليبيا على خطّ العلاقات التركية ـ الروسية بعد سوريا، شرع “الصديقان العدوان” إلى تحويل ضحايا المرتزقة إلى مرتزقة جدد، مستغلين أوضاعهم البائسة وجوعهم المديد، وافتقارهم لنظام ومعارضة يرفضان الارتزاق.
المصدر: بروكار برس