
إن كانت العيون مصوبة تجاه الإبادة أحادية الجانب في غزة والحرب في أوكرانيا، فإن الحرب في السودان بالكاد تلفت الانتباه. ثمة حروب أخرى بلا دماء، من بينها الحرب التجارية التي أشعلتها واشنطن وأخمدتها في ليلة على وقع اهتزازات البورصات، تستدعي الكثير التحليلات والتكهنات في وسائل الإعلام العربية أضعاف ما تناله الأحداث في بلد قريب مثل السودان يطفو على بحر من دم. تصدر تقارير المؤسسات الأممية المعنية بشأن الحرب السودانية بشكل روتيني وتغطيتها في وسائل الإعلام تتسم بالفتور نفسه. في أفضل الأحوال يتم التعامل مع المأساة السودانية بوصفها أزمة إنسانية، تستدعي سرد أعداد النازحين والمعرضين لخطر المجاعة، ليتلخص رد الفعل السياسي المطلوب في إلزام المانحين الدوليين بحصص تمويلية تكفي لسد الاحتياجات الإغاثية الهائلة. هكذا حين تنقلب الحرب إلى مسألة إغاثة تصير غير مرئية وجرائمها تقيد دون فاعل.
إن كانت الحرب الأوكرانية تجري في قلب أوروبا، أي في مركز العالم، فإن حرب غزة مثل بقية الحروب على الفلسطينيين تثير بعض الاهتمام، كون إسرائيل هي من تشنها. بمعنى آخر تكتسب حيوات الفلسطينيين قيمتها أو عدم قيمتها من أهمية الدولة اليهودية في نظر العالم. أما قتال السودان الدائر في أفريقيا السوداء، “قلب الظلام”، علاوة عن أنه في هامش العالم، فليس هناك معتدٍ يمنح الضحايا بعض القيمة، أو على الأقل هذا ما يتم تصديره.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، صدرت تقارير متتابعة بخصوص عدد ضحايا القتال في السودان، والتي رجحت أن الأعداد أكبر بكثير مما كما يظن في السابق. بحسب تقرير منها، سقط في محافظة الخرطوم وحدها أكثر من 66 ألف قتيل. وبينما تدخل الحرب في السودان عامها الثالث، تشير أكثر التقديرات تحفظاً إلى حوالى 150 ألف قتيل بالإجمال، فيما تتجاوز تقديرات أخرى نصف مليون قتيل. ففي كانون الثاني/يناير من هذا العام، أصدرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان بياناً، يقدر وفيات الأطفال فقط من سوء التغذية بحوالى نصف مليون. تظل تلك الأرقام تقديرية بشكل فضفاض ولا يمكن التيقن منها، نتيجة انهيار المنظومة الصحية في البلاد بالكامل. لكنها بلا شك تشير إلى أن أعداد الوفيات المباشرة وغير المباشرة نتيجة الحرب يمكن حصرها بعداد المئة الألف. التفاوت الشاسع في التقديرات يشير إلى أي مدى بخست تلك الحيوات المحطمة، على نحو يصبح مئات الألوف من القتلى مجرد هامش خطأ في تقدير حسابي، لا يعني أحد تدقيقه.
بحسب بيانات الأمم المتحدة وصل عدد النازحين في السودان 12.4 مليون، منهم 8.6 مليون نزحوا داخلياً، و3.8 مليون عبروا الحدود. واستقبلت مصر العدد الأكبر منهم، ما يقدر بـ1.5 مليون نازح، وتأتي في المرتبة الثانية جنوب السودان التي تستضيف الآن 1.1 مليون سوداني. مقارنة بالحرب السورية التي خلقت واحدة من أكبر “أزمات” اللجوء في الذاكرة الحية، أجبرت المعارك في السودان العدد نفسه تقريباً من اللاجئين على النزوح داخلياً وخارجياً في أقل من عامين. لكن وبما أن اللجوء السوري كان موجهاً إلى أوروبا، أي إلى المركز مرة أخرى، بينما النزوح السوداني مقتصراً على دائرة دول الجوار الأفريقي، فلا يثير القدر نفسه من التغطية والاهتمام.
وجه التشابه بين الحربين في السودان وسوريا، أنهما كانا رد فعل من ثورة مضادة ذات بعد إقليمي ضد موجتين متباعدتين من انتفاضات الربيع العربي الطويل، وأن كلاهما تم تأطيره في خانة الحرب الأهلية. وفي الحالتين كان هذا التأطير تزييفاً متعمداً للوقائع، يهدف بالأساس إلى تبرئة القوى الخارجية المتورطة، فصفة “الأهلية” التي تشير بالتعريف إلى اقتتال داخلي، تلقي باللوم على الضحايا أنفسهم ووحدهم.
المصدر: المدن
الحرب بالسودان تدخل عامها الثالث، حرب رد فعل من ثورة مضادة ذات بعد إقليمي ضد موجتين متباعدتين من انتفاضات الربيع العربي الطويل، وتم تأطيرها بالحرب الأهلية. وهو تأطير مزييف متعمداً للوقائع، تناسيها الجميع أمام حرب غزة وأوكرانيا وسورية، بالرغم من كونها أدت لنزوح 12.4 مليون، منهم 8.6 مليون نزوح داخلي، و3.8 مليون بدول الجوار.