عن مكارثية متنامية في أميركا

بشار نرش

تُعرّف المكارثية، التي تُنسب إلى عضو الكونغرس الأميركي جوزيف مكارثي، في الخمسينيّات، بأنّها سلوك يوجّه الاتهامات بالتآمر والخيانة وعدم الولاء من دون الاهتمام بالأدلّة، كما تُعرّف بأنّها ممارسة سياسية تقوم على استخدام أساليب تحقيق وتوجيه اتهامات اعتباطية غير عادلة بهدف قمع المعارضة، وقد تجسّدت هذه الممارسة في حملة مكارثي، الذي زعم أنّ في حوزته قائمةً تضمّ مئات من الشخصيات الأميركية، ذات التوجّهات الشيوعية، يعملون في الوزارات الحكومية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية، من دون أن يقدّم أيّ أدلة، فطاولت بذلك اتهاماته مثقّفين وفنّانين وأكاديميين وأعضاءً في النقابات العمّالية وشخصياتٍ سياسيةً وشخصياتٍ بارزةً في صناعة الترفيه في هوليوود، أبرزهم شارلي شابلن، وألبرت أينشتاين، ومارتن لوثر كينغ. وقد تسبّبت هذه الحملة الشاملة (وغير المسبوقة) في إشاعة مناخ من الخوف والإرهاب الفكري الشديد، إذ اعتُقل آلافٌ ممّن يُشكّ في أنّ لديهم توجّهات شيوعية بناءً على أدلة ظرفية ومشكوك فيها، وجرى تقديمهم إلى القضاء، كما فُصل مئات الموظّفين من وظائفهم، وأُدرِجَت أسماؤهم في “القوائم السوداء”، التي حالت دون حصولهم على فرص العمل، في حين تعرّض كثيرون للاستجواب والتشهير. ومع أنّ المكارثية تراجعت في نهاية المطاف بعد إدانة سلوك مكارثي وتوبيخه في مجلس الشيوخ عام 1954، في جلسات استماع متلفزة، إلّا أنّ المكارثية أصبحت تعبيراً عن حقبة انحدار حادّ في تقاليد الديمقراطية وحرية التعبير في التاريخ الأميركي، تُستحضَر للدلالة على حملات الاستهداف والملاحقة الجائرة بحقّ من يُنظر إليهم بوصفهم معارضين أو مختلفين عن الخطاب السائد في السلطة والمجتمع.

تُحوّل “المكارثية الجديدة” الحربَ على حرية التعبير معركةً وجوديةً ضدّ كلّ من يجرؤ على انتقاد إسرائيل وحربها ضدّ الفلسطينيين

واليوم، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، بتنا نشاهد مكارثية جديدة أسوأ بكثير من مكارثية الخمسينيّات. على الأقلّ، في ذلك الوقت كانت الملاحقات والاتهامات مدفوعةً بهاجس الشيوعية والخوف من الاختراق السوفييتي، وتجري بحجّة المصلحة الأميركية، لكنّ المكارثية الجديدة، التي تُوظَّف فيها أدوات الإعلام الرقمي ولجان التحقيق ووسائل التواصل الاجتماعي لتصفية الخصوم وتقييد حرية التعبير، تحرّكها عقيدة أكثر التباساً، وتختفي وراء قناع زائف هو الاتهام بـ”العداء للسامية”، وتجري لحماية كيان صهيوني يمارس أبشع ما عرفه العالم من جرائم الحرب والإبادة، لدرجة أنّ الأمر وصل بإدارة ترامب إلى إعادة توجيه وكالة فيدرالية، كإدارة الهجرة والجمارك، إلى ملاحقة الطلاب الذين يُعبّرون عن تضامنهم مع فلسطين، بدلاً من محاربة الاتّجار بالبشر وتهريب المخدّرات.
وفي هذا الصدد أيضاً، عدّ مشروع إستر، الذي خرج من رحم مؤسّسة هيريتغ، صاحبة مشروع 2025، الذي يُروّج سردية أن الحركة المؤيدة للفلسطينيين والمعادية لإسرائيل وللصهيونية داخل أميركا “جزءٌ من شبكة دعم حماس العالمية”، ويعزّز محو أي تمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية… نقول، عدّ المشروع أحد أهم أذرع المكارثية الجديدة التي تتغلغل في صلب مؤسّسات الدولة والمجتمع المدني الأميركي، وتعمل في إعادة تشكيل الوعي العام والسياسات العامّة بما يخدم مصالح الكيان الإسرائيلي ويقمع أيَّ خطاب ناقد له. فهذا المشروع لا يكتفي بتقديم توصيات أو دراسات تحليلية، بل يسعى بنشاط إلى التأثير المباشر في التشريعات، وتوجيه السياسات الأمنية والتعليمية، وإعادة صياغة مفهوم الأمن القومي الأميركي، فيشمل الولاء غير المشروط لإسرائيل، ويعتبر أيّ انتقاد لها تهديداً داخلياً يجب التعامل معه بصرامة. وبالتالي؛ تتجلّى خطورة هذا المشروع في أنّه لا يُستخدم لملاحقة النشطاء والطلاب المؤيدين لفلسطين فحسب، بل يتعدّى ذلك ليطاول مؤسّسات إعلامية ومراكز بحثية، وحتى منظّمات يهودية تقدّمية ترفض خلط الصهيونية بالهُويّة اليهودية.
وعليه؛ تُحوّل هذه “المكارثية الجديدة” الحربَ على حرية التعبير معركةً وجوديةً ضدّ كلّ من يجرؤ على انتقاد إسرائيل وحربها ضدّ الفلسطينيين، فأصبحت التهم المُعلَّبة من قبيل “العداء للسامية” سلاحاً جاهزاً يُستخدَم ضدّ المثقّفين والأكاديميين والفنّانين والسياسيين، لا لشيء إلّا لأنّهم يرفضون الصمت على الجرائم المرتكبة في غزّة والضفة الغربية، أو لأنّهم يطالبون فحسب بوقف دعم حكومة يمينية متطرّفة في إسرائيل، أو حتى لأنهم يناصرون حركات المقاطعة. وهذه ليست افتراضات، بل وقائع تتكرّر كلّ يوم في وسائل الإعلام، وفي الجامعات الأميركية، وفي المنصّات الثقافية والأكاديمية، إذ يُفصل أساتذة وطلاب وتُلغى محاضرات وتُحظر كتب، وتُقطع المنح عن طلاب ومؤسّسات، وتُشنّ حملات تشهير منظّمة بحقّ شخصيات عامّة لمجرّد أنّهم عبّروا عن تعاطفهم مع القضية الفلسطينية.

الانزلاق الأميركي نحو مكارثية سياسية وفكرية وأكاديمية لن ينقذ أميركا من سخط الداخل ولا من غضب الخارج، بل سيزيد من عزلتها الأخلاقية

يمكن القول إنّ المكارثية المتنامية في أميركا (في وقتنا الراهن) لا تكتفي بإسكات الصوت المختلف، بل تسعى إلى اغتياله معنوياً واجتماعياً، عبر تشويه السمعة، وتلغيم الفضاء العام بالتخوين والتشهير، مستفيدةً من شبكات التأثير الكُبرى التي تتقاطع فيها خيوط المال والإعلام والمصالح السياسية. والأسوأ من ذلك كلّه أنّها تُلبِس نفسَها ثوب الفضيلة ومحاربة الكراهية، بينما تمارس في الجوهر قمعاً ممنهجاً لأيّ سردية خارج إطار الرواية الصهيونية الرسمية. ومع ذلك، يبقى الراسخ أنّ هذا الانزلاق الأميركي نحو مكارثية سياسية وفكرية وأكاديمية لن ينقذ أميركا من سخط الداخل ولا من غضب الخارج، بل سيزيد من عزلتها الأخلاقية ويُعمّق شرخها مع القيم التي تتغنّى بها، فالديمقراطية التي تُصفّي النقد تحت شعار “مكافحة الكراهية” تتحوّل قشرةً هشّةً، سرعان ما تنهار أمام أسئلة الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى