
أثار تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سخطاً في إسرائيل، وشنّ عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هجوماً لاذعاً. وفيما ما قاله ماكرون قد يبدو لصالح الفلسطينيين، إلا أنه ربط ذلك بالسعي من أجل توسيع الاعتراف بإسرائيل من الدول التي لم تعترف بها بعد، وهو بهذا يقصد جمهرةً من الدول الإسلامية والعربية التي لا تربطها علاقات رسمية بإسرائيل. ورغم أن ما قاله ماكرون يتوافق مع تصوّرات ترامب عن التطبيع بين إسرائيل وتلك الدول، إلا أنه شكّل بالنسبة إلى إسرائيل محاولة إيقاظ فكرة قديمة. بدا الغضب الإسرائيلي مُزعجاً لماكرون، خاصّة أن تلّ أبيب تتعامل مع الأمر الواقع الجديد، الذي ماتت فيه فكرة الدولة الفلسطينية. بالنسبة إلى تلّ أبيب، لم يعد شيء اسمه دولة فلسطينية مطروحاً، هذه العملة غير قابلة للتداول. وعليه، يعتبر ما قاله ماكرون خروجاً عن النصّ السائد. والنص السائد هو الخطاب السياسي المتداول، وتتمثّل أبرز معالمه بموت حلّ الدولتين فقط، أكثر السيناريوهات تفاؤلاً وبساطة.
تكشف مراقبة الخطاب المتداول، منذ الحرب على غزّة، بشكل واضح، أن فكرة الدولة الفلسطينية لم تعد مطروحةً، وأن أحداً لا يتكلّم عنها مع إسرائيل، وحتى الذين قد يحاولون الحفاظ على الحدّ الأدنى من اللباقة يشيرون إلى وجوب التمسّك بحلّ الدولتَين بوصفه الطريقةَ الأفضل لحلّ الصراع. ورغم ما حقّقه الفلسطينيون من سلسلة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، والحصول على عضوية الجمعية العامّة، إلا أن هذه “الدولة” لن تتحقّق بالنسبة إلى العالم ما لم تكن باتفاق مع إسرائيل، والعلّة في ذلك أن صياغة التوجّه الفلسطيني منذ عقود بشأن الدولة الفلسطينية ربطها بقرارات الشرعية الدولية. وعلى أهمية الشرعية، إلا أنها هي نفسها التي سمحت لسارة اليهودية، التي آوتها جدّتي من النازية، بطرد جدّتي من بيتها في يافا. وسؤال الشرعية الدولية، وكيفية التعامل معها، نقاش آخر ربّما يمكن الاستفاضة فيه في موضع لاحق.
يرسّخ ترامب فكرة غياب الحاجة إلى الحديث عن الدولة الفلسطينية، وكلّ ما يشير إليه هو حلّ مشكلة الأسرى في غزّة
مثلاً، أحد أكثر الملاحظات أهميةً، التي يمكن تسجيلها بخصوص موقف إدارة ترامب من القضية الفلسطينية، أن الرجل لم يتحدّث، ولو مرّةً، خلال ولايته الثانية عن الدولة الفلسطينية. على العكس تماماً، إنه يرسّخ فكرة غياب الحاجة إلى الحديث عن الدولة الفلسطينية في السياسة الدولية، كل ما يشير إليه هو حلّ مشكلة الأسرى في غزّة (الرهائن). لا شيء حول عملية سلام ولا عبارة ولو من باب المجاملة عن الدولة الفلسطينية. وفيما قد لا يبدو الأمر مستغرباً، في ظلّ توجّهات ترامب الهادفة إلى تفتيت السياسة والدفع باتجاه تشظية القضية الفلسطينية، فإن المستغرب أن الأمر لا يثير كثيراً من النقاش والتفكير. صحيح أن ترامب سيغادر بعد أقلّ من أربع سنوات، وأنه بعد أقلّ من سنتَين (مع التجديد النصفي في الكونغرس) قد يصبح مثل البطّة العرجاء، ولكن أيضاً الخشية من أن ما يثبّته ترامب يظلّ قائماً ولا يتغيّر، فإدارة بايدن ورثت نقل السفارة إلى القدس، ولم تطرح حتى فكرة إعادتها، بل طلبت من الفلسطينيين أن يتعاملوا مع الأمر بعقلانية، والعقلانية أن يقبلوا أن يكون هناك دائرة “قنصلية” تُعنى بشؤونهم، أو مكتب ارتباط لمعاملاتهم.
من الواضح أن حلّ الدولتَين وفق النموذج المُستنِد إلى حدود الخامس من حزيران/ يونيو (1967) لم يعد قائماً، فإسرائيل لم تدّخر جهداً، منذ انطلاق عملية السلام في مدريد (1991)، يقود إلى تدمير حلّ الدولتَين إلّا قامت به، وفيما كانت الجهود الفلسطينية منصبّة على خلق الدولة الفلسطينية واقعاً، كان كلّ شيء في الواقع ينافي إمكانية إقامة تلك الدولة، خاصّة في الضفة الغربية. وفيما يمكن الحديث عن تصور وبرامج ورؤى فلسطينية جادّة، إلّا أن فكرة إقامة الدولة لم تكن ضمن المطروح في الوعي الإسرائيلي، ولم ترد في أيّ خطاب سياسي حقيقي تبنّته الحكومات الإسرائيلية بشكل جِدّي. وحتى خطاب نتنياهو في جامعة بارإيلان في العام 2009، الذي أشار فيه إلى إقامة دولة فلسطينية، اعتُبر زلّةَ لسان سرعان ما تراجع عنها في خطاب لاحق في الكنيست.
في إسرائيل، ليس مهمّاً ما يؤمن به رئيس الوزراء بقدر أهمية موقف كلّ عضو كنيست يصوّت لصالح الائتلاف الحكومي
لا أحد يتحدّث عن العملية السلمية، ولا أحد يحاول حتى بعثها من رقاد الموت الذي دخلته منذ أكثر من عقد. وحتى المحاولات الماضية التي بُذلت في عهد الرئيس باراك أوباما، لم تهدف حقيقةً إلى تجسيد الدولة الفلسطينية، بل إلى “تقريب” وجهات النظر بين الطرفَين الفلسطيني والإسرائيلي، لذلك اعتمدت على “بادرات” حسن نيّة تهدف إلى خلق أجواء إيجابية. كأنّ ثمّة إدراكاً وقناعةً خفيّةً بأنه لا يمكن تجسيد هذه الدولة من دون موافقة إسرائيل. بالنسبة إلى العالم، هذه باتت حقيقةً مقبولةً، وحين يتم الحديث عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن هذا لا يعني أكثر من اعتراف سياسي، وليس سيادياً. فمثلاً، رغم الجهود الحثيثة التي تُبذل من أجل تقليص الاستثمار الغربي في المستوطنات، ووقف أيّ تعامل تجاري أو علمي معها، ومع هذا، يصعب تتبّع كلّ شيء، خاصّة في ظلّ النظام المُعقّد الذي تبنّاه الاتحاد الأوروبي بخصوص قوانين المنشأ وغير ذلك.
الثابت الوحيد في الوعي السياسي الإسرائيلي هو عدم إنجاز الدولة الفلسطينية، حتى لو كان الإقرار بضرورتها (كما فعل نتنياهو في خطاب “بارإيلان”) ثمناً لمواصلة الجهود لتقويض إمكانات ذلك. قال شارون مرّةً في تعبير صارخ عن هذا الوعي: “أعطيهم ما أريد ويسمّونه ما يشاؤون”. إنه المنطق نفسه الذي يجعل أيَّ مفاوضات من أجل تسوية سياسية مع الفلسطينيين جزءاً من مواصلة ضمّ الأراضي وتعزيز الاستيطان والسيطرة على الموارد الطبيعية وتهويد الضفة، من دون الدخول في “معركة” مع المجتمع الدولي. تذكّروا كيف حوّل نتنياهو مفاوضات التهدئة طريقةً لإطالة عمر الحرب ولتشتيت انتباه العالم ونشرات الأخبار، فبدلاً من الحديث عن الحرب والتدمير، يتركّز الجهد في متابعة جهود التهدئة وإطلاق سراح الرهائن. فوضى كونداليزا رايس الخلّاقة، ولكن مع تغير طفيف، فبدلاً من “فوضى خلّاقة” تصبح “تدميراً خلّاقاً”، أو كما عبّر عن الأمر غُلاة المحافظين الجدد أمثال ديك تشيني وغيره: “الإيهام بالحركة”، وقبلهم قال فريق بيل كلينتون: “المهم العملية وليس السلام”، والمهم أن يظلّ الميت (يقصدون العملية السلمية) يتنفّس اصطناعياً. هكذا مرّت ثلاثون عاماً من دون أن تقدّم إسرائيل تنازلاً واحداً، رغم أن الفلسطينيين نجحوا في جعل العالم كلّه يتحدّث عن الدولة الفلسطينية، وحقّقوا انتصارات مهمّة في المؤسّسات الدولية، وهي انتصارات لا يمكن الانتقاص منها لأنها تعني أن ثمّة شيئاً في وعي العالم يشير إلى كيانية فلسطينية لا بدّ أن يتحقّق. والظنّ (وربّما كان الجزم أصحّ هنا) أن الأزمة الحقيقية تظلّ في “النموذج” الذي يُتمسَّك به؛ أقصد حلّ الدولتين وفق حدود الخامس من حزيران (1967).
بالنسبة إلى العالم، حين يدور حديث عن اعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن هذا لا يعني أكثر من اعتراف سياسي، وليس سيادياً
وبالنظر إلى مواقف الأحزاب الكبرى في الكنيست، أو تلك التي ستصعد لاحقاً مثل حزب رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت، فإنها لا تختلف كثيراً عن مواقف نتنياهو. لم تعد عملية السلام جزءاً من التصوّر حول العلاقة المستقبلية مع الفلسطينيين، هناك حديث عن “ترتيبات” تضمن عدم مواصلة العمليات الفلسطينية ضدّ الأهداف الإسرائيلية، بلغة الخطاب الإسرائيلي، لكن لا يوجد بحث عن حلّ المشكلة مع الفلسطينيين. عميقاً في الوعي الصهيوني لا حلّ مع الفلسطينيين، ولا يجب أن يتم إنهاء الصراع إلا بإخراجهم بشكل كامل منه، وإخراجهم يعني أن يتركوا البلاد أو أن يقرّوا بأن البلاد كلّها لـ”شعب الله المختار” وحده، وأنهم غرباء، أفضل ما قد يطمحون إليه أن يُقبَلوا مواطنين غير مشاركين حقيقيين في إدارة الدولة.
في إسرائيل، ليس مهمّاً ما يؤمن به رئيس الوزراء بقدر أهمية موقف كلّ عضو كنيست يصوّت لصالح الائتلاف الحكومي، لذا يظلّ رئيس الحكومة محكوماً ربّما بموقف عضو واحد في ائتلافه. وبالنظر إلى مجريات الحرب على غزّة يمكن فهم ذلك، وبسهولة. ما يثيره النقاش السابق هو الحاجة الفلسطينية للبحث عن نموذج ربّما مختلف أو تطوير أدوات نضال تحافظ على ما تبقّى من فرص حلّ الدولتَين أو البحث عن حلّ لا يقوم على حلّ الدولتَين بشكل نهائي، ولا يقتصر عليه.
المصدر: العربي الجديد