أحلام السوريين بين التصور والواقع

أحمد عيشة

بعد أربعة عشر عاماً من حرب النظام الإبادية ضد السوريين، نالوا أخيراً حريتهم، وبدأ التحول السياسي الذي ناضلوا طويلاً من أجله، والذي جاء نتيجة لعاملين أساسيين، الأول تخلي داعمي النظام – حزب الله وإيران وروسيا- عن حمايته وبسبب جيش الأسد المحبط بشدة انهار بشكل أساسي، والأهم أن الناس الذين دعموا النظام خلال تلك الفترة، قد أرهقوا من الفساد والقسوة العارية في عهد حكم الأسد اللصوصي، وأدركوا أن الروايات البالية عن أحقية النظام كاذبة بشكل فاضح، والثاني بسبب انضباط وتدريب قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، إضافة إلى الدعم الإقليمي لقوات الهيئة التي استفادت بشكل جيد من التغيرات الميدانية في سوريا، وخاصة من حيث توقيت المعركة، الذي شكّل ضربة قوية لقوات نظام الأسد التي نخرتها الخلافات على المصالح وتوزع الولاءات.

لم تغب الصراعات الدولية على سوريا بعد زوال نظام الأسد، وكذلك لم ترفَع العقوبات المفروضة على سوريا بسببه أيضاً، وهي ما تعيق تشكل الدولة الجديدة وربما تشلها بالكامل. فتركة نظام الأسد مرهقة جداً من حيث الدمار المادي واللامادي، والأهم تفتيت النسيج الاجتماعي السوري وفق عوامل طائفية وإثنية، حيث تشكل جميعها تحديات كبرى في مواجهة السلطة الجديدة تجعل من الوضع السوري ذي توازن هش، وخاصة عندما تتضافر العوامل الدولية مع الركائز المحلية، التي برزت إلى السطح بمطالب تناقض تشكيل الدولة وبسط سيطرتها على كامل الأرض السورية تحت مظلة قديمة -جديدة، وهي مسألة الأقليات و”حقوق الإنسان” التي بررت ذات يوم ولا تزال تدخل الدول الغربية في تشكيل المنطقة وضرب طموحاتها في تشكيل كيانها الخاص.

يضاف إلى هذا التصارع الدولي والإقليمي، تباعد السوريين وخلافاتهم حول مستقبل بلدهم من حيث تشكيل الدولة وطبيعة النظام السياسي وغيره، هذا التباعد الذي يعيد بصورة جديدة أزمة السياسة السورية بتياراتها ونخبها المعروفة، التي لم تنتج ما يفيد في تقدم البلد رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها هذه التيارات في عهود الأسدين، وإنما تكرس من جديد حالة من الافتراق عن المزاج الشعبي العام، الأمر الذي يطرح من جديد ضرورة تعريف السياسة ودورها، بكونها الوسيلة لإدارة سلمية لشؤون الحياة أكثر من كونها أيديولوجية تعمل على تعمية الناس أو تبرير سلوك وإدانة آخر وفق مصالح تلك النخب السياسية المشبعة بالأيديولوجيا والتي لم تخرج من قوقعتها النظرية رغم ادعاءاتها، باختصار كشفت تجربة التحول في سورية أن تلك النخب لا تزال مخلصة لجذورها الأيديولوجية في التعامل مع هذا التحول وانحيازاتها بما يعطيها دورها المتميز، وبالتالي افتراقها عن الناس وهمومهم.

ثمة مفارقة كبرى بين مطالب السياسيين والناشطين والمهتمين في الشأن العام، وخاصة الذين يعيشون خارج سورية ضمن ظروف حياتية مريحة نسبياً، على الأقل من ناحية الخدمات وضرورات الحياة والأمان، وبين الذين يعيشون في سوريا سواء في المخيمات أو القرى أو المدن، فغالباً ما يغلب على حديث السياسيين هؤلاء المطالب التي تعكس التجربة في البلدان التي يعيشون فيها من ناحية النظام والخدمات المتوفرة ومستوى الانضباط والالتزام بالقوانين عموماً، ناهيك عن رسوخ الدولة ومؤسساتها وحياديتها وحتى علمانيتها، من دون تفهم بأن تلك المؤسسات والإنجازات قد استغرقت عقوداً وربما قرون حتى وصلت إلى شكلها الحالي، ومن دون تفهم لسياق تشكلها التاريخي، حيث لعب خطابها عن حقوق الإنسان والأقليات عقب التمرد الطائفي في الساحل ورّد السلطة الطائفي في جزء منه أيضاً دوراً في التغطية على الجناة وتحويلهم إلى ضحايا.

وعلى الطرف المقابل، أي في سوريا المنكوبة والمدمرة بالمعنى الحرفي للكلام، فما يهيمن على ذهن وحياة الناس عمومهم، هو الحياة اليومية ومستلزمات العيش التي غدت مرهقة جداً، حيث لا تعنيهم أحاديث السياسيين -رغم أهميتها وضرورتها- فهم لا يهمهم اليوم شكل الدولة ولا حياديتها ولا قوانين تنظيم الأحزاب ولا غيرها ولا الدستور، فما يعنيهم هو العيش بكرامة وحرية، العيش بكرامة يستلزم تأمين ضرورات العيش من شغل وإنتاج وبالتالي دخل، وحرية، بمعنى التخلص من الخوف المزمن من “رجالات” ورموز السلطة، والأمر الآخر توفر حالة الأمن كشرط ضروري للاستقرار والشغل، بمعنى أن تبسط الدولة سلطتها على كامل أراضي البلاد، وهو الأمر الذي لا يزال يتعثر حتى اليوم نتيجة لتحديات عدة، أهمها الصراعات الدولية على سورية، وحالة الدمار الهائل في البلاد ونهب كل مقدراتها، ناهيك عن الصدوع العميقة القائمة في المجتمع السوري، تلك الصدوع التي عمدتها الدماء طوال عقود حكم الأسدية.

أمام هذه الحالة من الافتراق بين خطاب النخبة السياسية ومطالب الناس وأحلامهم، يصبح من الضروري المحاولة على حل تلك المشكلة التي تسهم بحال استمرارها في نمو التسلطية والانفراد لأي سلطة. والسؤال المطروح هنا، كيف يمكن تفعيل السياسة في المجتمع بمعنى تنظيمه وبناء هياكل سياسية يمكن أن تحد من تغول السلطات وتشارك في بناء الدولة الجديدة؟  بالطبع، لا يمكن لأحد أن يقدم الإجابات الشافية، ولكن علينا المحاولة، وأول ما يقتضيه الأمر العمل على ترتيب الأولويات وعدم التعالي على ما يعيشه الناس من آلام وكيفية التعبير عنها، وبالتالي ضرورة الانخراط في الممارسة وبناء الهياكل السياسية التي يمكن أن تشكل عوامل رفد للسلطات وضغط عليها.

تتلخص أكثر المشكلات والتحديات التي تواجه سوريا اليوم في مشكلة العقوبات المفروضة سابقاً، التي تشكل العائق الأساسي أمام أي محاولة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، ويفتح الطريق أمام تفعيل دور الناس من خلال خلق فرص العمل ورفع سوية الدخل بما يضمن الحدود الدنيا لحياة كريمة، وثانيها في ضرورة دعم السلطات على بسط سيطرتها على كامل سوريا بما يستلزم من احتكار السلاح والعنف بيدها فقط، وحل كافة الفصائل المسلحة ودمجها ضمن إطار الجيش الجديد وفق أسس وطنية، وبالتالي يضعها أمام مسؤوليتها في توفير الأمن لعموم الناس، والأمر الثالث العمل على تحقيق السلم الأهلي من خلال المكاشفة والتناول الصريح للانقسامات القائمة بين السوريين وهي انقسامات عميقة يمكن أن تهدد البلاد برمتها،وهذا يتطلب محاسبة المسؤولين عن عمليات القتل وفق نظام قانوني منصف.

لا يزال الوضع في سوريا حتى اليوم (أربعة شهور) هش، ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث الآن بعد الخلاص من استبداد الأسد، فصحيح أن الناس استعادوا بشكل ما تواجدهم في المجال العام وامتلكوا الحرية لأول مرة بعد عقود من الاستبداد، وهي شرط ضروري كما أنها إنجاز هائل ينبغي بكل الوسائل عدم التفريط به، وعموم الناس مصممة على ذلك، لكن البلاد تعيش في حالة مغلفة بالسواد والترقب، فلا المكان كما كان ولا الناس أيضاً، وليس مبالغة القول أنه عندما تمشي في مدينة كحلب، تجد صعوبة في التعرف عليها، فهي مدينة مغلفة بالسواد، تشعر أنك في وطن لم يعد فيه أحد، فالناس تعيش في ظل ظروف طاحنة، ظروف تخيم عليها حالة الفقر العام من جهة وصدمة المفقودين وأوجاعها، وحتى حالة عدم التصديق بأن الكابوس الأسدي قد ولى، وهي أمور تشكل اليوم وجدان السوريين من جديد، لكنهم يحلمون بغد أفضل.

حتى يتحول الحلم إلى واقع لا بد من تضافر كل الأطراف للعمل على تجاوز الماضي بما يحمله من آلام، والانطلاق نحو التشارك ببناء بلد ودولة للجميع وهذا يستلزم من السلطة الانتقال فعلاً لا قولاً إلى بناء الدولة العمومية، دولة الجميع بدلاً من خصخصتها، ومن النخب السياسية المشاركة الفعلية بما تعنيه من دعم ونقد، وهو ما توفره حالة الحرية المتاحة بدلاً من الندب وتوجيه التعليمات!

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى