الخطأ المتعمد الذي تخطط له واشنطن في سوريا؟

سمير صالحة

ذهب الواقع السوري الجديد بعد التاسع من كانون الأول المنصرم وبعد انهيار نظام بشار الأسد باتجاه تراجع النفوذ الإيراني، وجمود وتريث في سياسة روسيا السورية، مقابل عودة اللاعب العربي وصعود تركي – إسرائيلي واسترداد واشنطن لكثير من الفرص الاستراتيجية بطابع إقليمي هناك. العقبة التي تواجه القيادة الأميركية في سوريا اليوم هي إقناع أنقرة وتل أبيب بما تريده لهما هناك؟

تقلق سياسة تركيا العربية والإقليمية الجديدة في سوريا إسرائيل، لأنها تحرمها كثيراً من الفرص والأوراق وأهمها عرقلة مشروعها باتجاه التقسيم والكونفدراليات في مواجهة جهود بناء سوريا الجديدة، أو تسبب سياساتها في ولادة محور سني تركي عربي إسلامي يخلط كل حساباتها الإقليمية. لن يكفيها محاولات رفع مستوى التنسيق مع اليونان وقبرص اليونانية عبر تحالف الغاز في شرق المتوسط، أو التوجه نحو موسكو أو غيرها من العواصم الإقليمية بحثا عن فرص ومقايضات خصوصا وهي تشعر أن واشنطن على علم بكل ما يدور ويجري.

تزايد في الآونة الأخيرة عدد المعلومات المتضاربة المتناقضة حول احتمال اقتراب موعد الانسحاب الأميركي من سوريا. هناك من يردد أن ‏الجيش ‏الأميركي بدأ إخلاء قواعده في شرقي سوريا وأن وزارة الدفاع الأميركية تعتزم تقليص القوات إلى النصف، ‏بالإبقاء على ألف عسكري فقط. مصادر مقربة من “قوات سوريا الديمقراطية” تقول إن الجيش الأميركي بدأ عملية إخلاء لقاعدة حقل كونيكو في ريف دير الزور شمال شرقي سوريا، وإلى أن القوات الأميركية المغادرة اتجهت إلى أربيل في إقليم كردستان العراق . لكن أنباء أميركية أخرى تردد أنه لم يتم سحب أي جندي أميركي‏ من شمال شرقي سوريا وأن وضع القواعد الأميركية والمقار ما زالت كما هي. إلى أن جاء نفي وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” التقارير التي تحدث عن انسحاب القوات الأميركية من سوريا، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة “تعيد توزيع قواتها بحسب الاحتياجات”.

هي حتى الآن عملية إعادة تموضع وانتشار عسكري أكثر من أن تكون قرارا استراتيجيا بالتخلي عن الشريك المحلي “قسد” والحليف الإقليمي إسرائيل، ومغادرة الأراضي السورية لصالح تركيا.

تُشيد واشنطن بإنجازات أنقرة في سوريا. يغضب هذا التوجه الأميركي تل أبيب. لكن ترمب يحتاج إلى العاصمتين معا. هل يمكن أن تقدم واشنطن “هدية” لأنقرة بسحب قواتها من سوريا على حساب تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل؟

يذكر مسؤول أميركي رفيع في إدارة ترمب بالمطالب التي قدمتها واشنطن للسلطة السياسية الجديدة في سوريا وفيها الشق الداخلي والخارجي. فلماذا تغادر مناطق شرق الفرات قبل الحصول على ضمانات كافية حيال مطالبها؟ تريد واشنطن تحريك ورقة العقوبات على سوريا، في محاولة لانتزاع شرط التطبيع السوري الإسرائيلي. فلماذا تترك تل أبيب في منتصف الطريق وتسحب قواتها؟

هي حتى الآن عملية إعادة تموضع وانتشار عسكري أكثر من أن تكون قرارا استراتيجيا بالتخلي عن الشريك المحلي “قسد” والحليف الإقليمي إسرائيل، ومغادرة الأراضي السورية لصالح تركيا

من المستبعد أن تدعم أميركا تمدد النفوذ التركي في سوريا من دون ترتيبات مع إسرائيل. قد تسحب واشنطن جزءا من قواتها في سوريا، لكنها لن تقدم على ذلك قبل إنجاز عملية فتح قنوات تواصل خلفية بين أنقرة وتل أبيب على أكثر من مستوى.

تلويح واشنطن بالانسحاب من دون انسحاب فعلي. سلاح استراتيجي لدفع الحلفاء والشركاء نحو طاولة التفاهمات والتنسيق الإلزامي بعيدا عن نزاعات تهدد مصالحهم في سوريا.

حتى ولو  كانت اشنطن أحد شركاء مخطط إسقاط نظام بشار الأسد رغما عن تل أبيب، فهي لن تقدم على خطوة تعرض مصالح حليفها الإسرائيلي للخطر على حساب تزايد النفوذ التركي في سوريا. إذا ما كان ترمب يريد التهدئة على خط أنقرة – تل أبيب فلماذا يقرر سحب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا في هذه الآونة؟ خطوة تزيد من توتر العلاقات والتصعيد بين الطرفين وتفعل أكثر سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة؟

المشكلة هي ليست في دعم ترمب لأنقرة وتل أبيب في تشكيل فريق عمل تقني يبعد شبح المواجهة العسكرية بين قوات البلدين لأن احتمال حدوثها كبير جدا عند رتكاب أي خطأ فني ” مقصود ” فوق الأراضي السورية، بل في فتح الطريق أمام تسريع الحوار السياسي الحقيقي بين الطرفين لإزالة أسباب الخلاف والتباعد بشأن أكثر من ملف يتصدره المشهد السوري اليوم.

لم تعرقل إسرائيل دخول القوات السورية إلى لبنان في السبعينيات واقترابها من الحدود الشمالية لأن نظام الأسد لم يكن يشكل خطرا عليها. لكنها ترفض التفاهمات العسكرية التركية السورية باتجاه إعادة بناء سوريا الجديدة. واشنطن لن تسمح لإسرائيل بذلك لأن ظروف وأجواء ما قبل حوالي نصف قرن تختلف عما هي عليه الأمور اليوم.

لن تضغط واشنطن على أنقرة وتل أبيب لإلزامهما بتفاهمات سياسية وأمنية في سوريا. لكنها ستذكرهما بالخسائر والأضرار التي قد تلحق بهما عند اشتعال الجبهات بينهما فوق سوريا. لن تسرّع واشنطن الاعتراف بما يجري في سوريا قبل جلاء غموض الصورة السياسية، ومن دون أن يتم ذلك على حساب حليفين إقليميين لها.

يُروى في الحكايات البدوية أن جملًا طلب من صاحبه أن يُدخِل رأسه فقط إلى الخيمة هربًا من برد الصحراء، فوافق الرجل، ظنًا أن الأمر مؤقت. لكن الجمل، شيئًا فشيئًا، أدخل رقبته، ثم كتفيه، ثم صدره… حتى وجد الرجل نفسه خارج خيمته. توسع إسرائيل من توغلها في جنوبي سوريا. تقصف المدن والعاصمة دمشق نفسها، وفي النهاية تضع خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها. ذرائع ذلك هي مواجهة الإرهاب وتأمين أمنها القومي. تراقب أنقرة ما يجري مع أن ترمب يردد أن الخيمة التي نصبها في سوريا هي من نصيب تركيا. هدف واشنطن هو إجبار الأطراف على تقديم تنازلات، سواء في الملف السوري أو في إطار ملفات أخرى مثل الطاقة وخطوط التجارة الإقليمية وتنسيق الأدوار في دوائر جغرافية أبعد باتجاه شرق المتوسط والقوقاز والبلقان.

مؤشرات كثيرة تقول أن الانسحاب الأميركي لن يكون تنازلًا، بل مناورة لإعادة تشكيل الواقع السوري بما يتوافق مع مصالح واشنطن وحليفيها التركي والإسرائيلي. تخلي أميركا عن خيمتها في سوريا ممكن طبعا، ولكن ضمن صفقة كبرى مع تركيا وإسرائيل، وبين تركيا وإسرائيل. المواجهة بينهما ستتحول إلى كارثة إقليمية بالنسبة لأميركا وهي لن تسمح بذلك.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى